كانت المائدة عامرة بالضحكات والأحاديث الدافئة، لكن لازيل جلست في مكانها صامتة، تلمس الطعام بطرف الملعقة دون أن تأكل.
لم يطل اهتمام العائلة بها أكثر من بضع دقائق. فبعد سنواتٍ طويلةٍ من البُعد، لم تكن تعرف الكثير عنهم، ولم يجدوا هم بدورهم سهولةً في التقرب منها أو إشراكها في الأحاديث.
ثم حدث الأمر المزعج بعد قليل.
“كح… كح!”
غطّت فمها بسرعة، لكن نظرات الجميع كانت أسرع في الالتفات نحوها.
“يا للقرف…”
تجمّدت لازيل. كانت تلك الهمسة المليئة بالاشمئزاز قد خرجت من فم رونيدي.
ولما أدركت الأخيرة أن الجميع سمعها، اتسعت عيناها وقالت بسرعة:
“هل… هل سمعْتِني؟ كنت أتكلم مع نفسي فقط.”
“آه… لا، لم أسمع.”
لكن لازيل كانت قد سمعت الكلمة بوضوح تام. رغم ذلك، تظاهرت بالجهل، ووجهها شاحب كالرماد.
(مستحيل… لم تكن تقصدني، لا بد أنها كانت تتحدث عن شيء آخر…)
لم ترد أن تصدق أن سعالها المزمن، الذي لازمها طوال حياتها كظلّ لا ينفكّ عنها، كان مصدر اشمئزاز لعائلتها نفسها.
عضّت على شفتها السفلى، مطرقة الرأس.
الشَعر الذهبي الذي سرّحته بعناية صباحًا، ودهنته بالعطور استعدادًا للقاء العائلة، انسدل الآن على كتفيها بفتور.
(يبدو أنني كنتُ أتوقع الكثير…)
انقضى اليوم محمّلاً بخيبة الأمل والخذلان.
ولو كان الأمر توقف عند ذلك المساء فحسب، لربما استطاعت نسيانه.
لكن الأيام التالية مضت على ذات الوتيرة: لم تعرف لازيل سببًا، لكنها ظلّت تشعر بالغربة بينهم، كأنها دخيلة لا مكان لها بينهم.
“سأذهب مع والديّ إلى العاصمة لبعض الوقت. خلال غيابنا، تأكدي من الاعتناء بالمنزل، لا أظن أن ذلك صعب عليك، أليس كذلك؟”
“لازيل، ربما لم تتعافي تمامًا بعد، لذا من الأفضل أن تبقي في المقاطعة.”
تركوا وراءهم الخدم الذين عاشوا معهم طويلاً كجزء من العائلة، في قصر فيلشيو. ولهذا شعرت لازيل بالوحدة أكثر من أي وقت مضى.
ومع مرور أسبوعٍ على وصولها إلى قلعة إيفور، خطر لها فجأة أمرٌ ما.
أمسكت الجرس بيدها الرقيقة وهزّته، فدخل أحد الخدم على الفور. وفي عينيها البنفسجيتين، التي طالها الخمول طيلة الأيام الماضية، أضاء بريق حيٍّ جديد.
“أحضِرْه إليّ.”
ذلك العبد الحقير الوضيع، الذي سقط تحت يديها.
أعطت الأمر بجفاء، وجلست على الأريكة تنتظره. وبعد قليل، دخل الغرفة من استدعته.
“لقد قيل لي إن السيدة استدعتني.”
كان فتى ذا شعرٍ أسود قاتم، انحنى أمامها بوقار.
حدّقت لازيل به طويلاً. بدا شعره هذه المرة ممشّطًا ونظيفًا، مظهره العام أكثر ترتيبًا مما كان من قبل.
وربما لهذا السبب لاحَ وجهه الجميل واضح المعالم، حتى إنها – رغم إدراكها أنه فتى – فكّرت أنه يشبه الفتيات.
“أنت في مثل سني تقريبًا، أليس كذلك؟”
كان طوله قريبًا من طولها، ربما أقصر قليلًا. أو لعلهما في العمر نفسه.
تفحّصته من رأسه حتى قدميه، ثم لمعت عيناها فجأة.
انهالت عليها الأسئلة دون تفكير.
“كيف انتهى بك الأمر عبدًا؟ هل ورثت العبودية عن والديك؟”
لم يكن في كلماتها أي نية للإساءة.
فمنذ صغرها، كانت لازيل حبيسة المنزل، لا تعرف في تعاملها إلا الخدم. لم تتعلم كيف تنخرط في الحديث، ولا كيف تراعي مشاعر الآخرين.
أما هو، فلم يرفع رأسه، ولم ينبس ببنت شفة.
كانت قد استدعته لتطرد عن نفسها الملل، لكن صمته جعل اللقاء أقل تسليةً مما توقعت.
(هل هو عاجز عن الكلام؟)
خيّب أملها أكثر مما ظنّت. لكنها فكّرت أن وجوده على الأقل أفضل من الوحدة، فارتشفت الشاي ببرودٍ، وراحت تعبث بطرف قدمها.
ثم انحلّ شريط الحذاء الوردي الصغير الذي تنتعله داخل القصر، فقالت له بصوتٍ خافت:
أعاد كايلو رأسه ببطء نحوها بعد أن انحرف من قوّة الصفعة. وبدا موضع الضربة على خده واضحًا، ورديًّا كاللهب. لكن حين رفع عينيه مجددًا، كان على شفتيه شبح ابتسامة باردة، كأنها سخرية خفية تلسع أكثر من أي كلمة.
عيناه الزرقاوان، الحادتان كصقيع الشتاء، لم تُبديا أدنى خضوع. لم يعتذر، ولم يطلب الصفح، بل اكتفى بالنظر إليها بثباتٍ متزن، يحمل في طيّاته تحديًا صامتًا. كأنما يقول: إن أردتِ أن تضربي أكثر، فافعلي، لن أنحني.
قال بصوتٍ هادئٍ لكنه جاف:
“لو استمرّ عقابكِ لي، فلن يكون الخاسر سواكِ يا سيدتي.”
رمق يدها المتورّمة بنظرةٍ خاطفة، ثم أضاف بنبرةٍ مزجت بين الكبرياء والاحتقار الخفي:
“سيؤلمك ذلك أكثر مما يؤلمني.”
(كيف… يجرؤ؟!)
كانت لازيل عاجزة عن استيعاب ما يحدث.
كايلو لم يكن كأي عبدٍ عرفته أو سمعت عنه. لم يكن في عينيه أثر للخوف أو الذلّ. كان مرفوع الرأس وإن انحنى جسده.
عضّت لازيل على شفتها، تغلي عروقها غيظًا، بينما راحت عيناها المرتجفتان ترمقانه ببركانٍ مكبوت.
“اخرج… حالًا.”
قالت الكلمة ببطءٍ مشدودٍ، أشبه بالصفعة الثانية.
انحنى كايلو احترامًا، ثم وقف مستقيمًا.
هذه المرة لم يحمل في حركته أي سخرية، بل أدّى طقسه الرسمي الأخير ببرودٍ نبيل غريب على عبدٍ في موضعه.
“أشكركِ على كرمك، يا سيدتي.”
قالها، ثم استدار وغادر الغرفة دون التفات.
بمجرد أن أُغلق الباب، بقيت لازيل وحدها وسط الصمت الثقيل.
شهقت خلسة، وكأن الهواء صار أثقل من أن يُتنفَّس.
ارتخت أصابعها، وسقطت العملة الذهبية التي كانت تمسكها.
ارتطمت بالأرض وتدحرجت بعيدًا، تصدر رنينًا معدنيًا لامعًا، لكنه بدا في أذنها نشازًا، حادًا، يؤلم أكثر مما يطرق.
كانت تعرف في أعماقها، من دون حاجة إلى أي تبرير أو تفكير، حقيقة واحدة:
هي لم ترتح له، وهو بالتأكيد لم يرتح لها.
كان بينهما شيء أقرب إلى النفور الفطري، إلى كراهيةٍ يلدها القدر بين شخصين لا يجدر بهما أن يلتقيا أبدًا.
كانت تشعر بها بوضوحٍ تام—
أن ما جمعها بكايلو… لم يكن مصادفة، بل بداية علاقةٍ خبيثةٍ، محكومةٍ بسوء الطالع.
التعليقات لهذا الفصل " 4"