“فكّري فيه كهدية منّي لك. شكله لا بأس به، وسيُقدَّر بثمن عالٍ في السوق. أمنحكِ حقّ ملكيته.”
أطلق ألكسيو تنهيدة ضجر خافتة، ولسانه يطرق سقف فمه كما اعتاد كلّما استعاد ذكرى تلك الحادثة.
كانت أصغر أميرات مملكة فيرتيا تملك هواية غريبة: جمع العبيد ذوي الملامح الحسنة.
ولأن الأمر كان يثير اشمئزاز الملك، فقد وجد طريقة للتخلّص من عبء هذه النزوة.
عندما طلبت الأميرة شراء عبد جديد، أجبر الملك ألكسيو على أخذه بدلاً عنها، بحجّة أنّ إحدى بناته تقيم في القصر الملكي نفسه.
(كلّ هذا بسبب لازيل… بفضولها الدائم، جعلتني أجرّ على نفسي هذه المصيبة).
كان ألكسيو يمقت العبيد، لا لشيء سوى لأنهم من طبقة وضيعة، لا يُعرف ما قد يحملونه من أمراض أو عدوى.
بل وكان ينظر إليهم كما ينظر إلى الديدان التي تتطفّل على فتات المائدة.
لكنّ هذا العبد بالذات كان منحة ملكيّة، ولا يمكنه أن يتخلّص منه دون أن يُساء فهمه.
(دائماً ما تجلب لي الحظّ العاثر، لازيل…).
بينما كان يذكُر ابنته الثانية، هزّ رأسه بضجر، غير أنّ فكرة خطرت له فجأة، جعلت زاوية فمه ترتفع بخفّة.
(إن لم يكن ذلك الصعلوك معطوباً، فقد يكون من المفيد أن أُوكله إلى بعض المهام. على أيّ حال، ألا تحتاج لازيل إلى خادم يرافقها؟)
كان على لازيل أن تحظى بعدد من الخدم والمرافقين حين تعود، فلمَ لا يملأ ذلك العبد الوضيع مكان أحدهم؟
(لن يكون ذا مهارة تُذكر، لكن يمكنه أن يكون رسولاً صغيراً أو خادماً لأعمال السُخرة.)
ثمّ إنّه، ما دام من العبيد الذين وهبهم الملك بنفسه، فسيكون من اللائق وضعه تحت خدمة ابنته التي عادت من مرضها، وسيُجنّب ذلك استهلاك أحد الخدم الموثوقين.
(نعم… هكذا سيكون أفضل).
وبعد أن حسم قراره، أخرج ألكسيو سيجاراً من جيبه وأشعله بارتياح واضح، وكأنّه تخلّص أخيراً من عبءٍ كان يثقل صدره.
—
عاد ألكسيو في وقتٍ متأخّر من بعد الظهر.
وما إن وطئت قدماه القصر حتى انطلقت العربات نحو مقاطعة إيفور.
هذه المرّة كانت هناك عربة إضافيّة ترافق تلك التي تحمل لازيل.
ولمّا حلّ وقت الغداء في اليوم التالي، وصلت العربة إلى بوّابة قصر إيفور.
حين نزلت لازيل من العربة، غمرها إحساس غريب بالدهشة والرهبة.
(هل عدتُ حقّاً إلى هذا المكان؟…)
منذ اللحظة التي بدأت فيها المناظر المألوفة تنساب من خلف نافذة العربة، لم تستطع أن تزيح عينيها عن الخارج.
قال ألكسيو بصوتٍ عميق وهو يبتسم بخفّة:
“مرحباً بعودتك إلى المنزل، لازيل.”
نزلت من العربة، وفي عينيها بريق فرحٍ وامتنان.
رفعت رأسها تنظر إليه وقالت بعجلة:
“أبي، وأمّي؟ أين أمي؟ وأين أختي؟”
كانت تتلفّت حولها تبحث عن وجوه العائلة التي لم ترها منذ زمن، لكنّ كلّ ما رأته هو وجوه الخدم الذين استقبلوها بابتسامات حذرة.
“يبدو أنّهم مشغولون، لذلك لم يتمكّنوا من القدوم لاستقبالك.”
“آه…”
“لكلٍّ منهم عمله، ولا حاجة لتركه لمجرّد الترحيب. ستلتقين بهم على مائدة العشاء لاحقاً.”
ربّت ألكسيو على كتفها بلا مبالاة، وكأنّ الأمر لا يستحقّ اهتماماً.
شعرت لازيل بخيبةٍ خفيفة، لكنّ انتباهها سرعان ما انجذب إلى أمرٍ آخر.
“الآن تذكّرت، لديّ هديّة لك يا ابنتي.”
“هدية؟”
تحوّل نظره إلى ما وراءها، نحو ساحة القصر حيث كان الخدم يتحرّكون ذهاباً وإياباً، ينزلون الحقائب والصناديق من العربات.
“آه، ها هو قادم.”
رفع ألكسيو صوته، فالتفتت لازيل لترى ما يقصده.
هناك، كان أحد الخدم يقود شخصاً نحوهم.
أو بالأحرى، كان يجرّه جراً.
كان يرتدي ثوباً جديداً، لكن شعره بدا أشعثاً وغير ممهّد، ويداه مقيّدتان بحبال خشنة. لم يكن مظهره يوحي أبداً بأنه خادم عادي.
نظرت إليه لازيل مذهولة — لم يسبق لها أن رأت مخلوقاً بهذه الهيئة من قبل.
ضحك ألكسيو ضحكة خفيفة وقال:
“هذا عبدٌ فاخر من أولئك الذين يمنحهم جلالة الملك بنفسه مكافأة لمن يراه مستحقاً. أراد أن يكرّمني بواحدٍ منهم، وأنا أهديه لكِ. سيكون خادمك الخاص من الآن فصاعداً. دعيه يتولّى شؤونك الصغيرة وأعمالك اليومية.”
(خادمي الخاص؟ هذا الشخص؟)
أمعنت لازيل النظر في الفتى الذي وقف أمامها.
كان في مثل طولها تقريباً، ربما أكبر منها بقليل. رفع رأسه بتردّد، والتقت عيناه بعينيها.
بدت هيئته للوهلة الأولى منكمشة، كأنّه يحاول الاختباء في ذاته، لكن حين نظرت إلى عينيه، فوجئت بما لم تتوقّعه.
كانت عيناه زرقاوين كصقيع الشتاء—باردتين، حادّتين، تنضحان بوحشيّة هادئة.
وعلى الرغم من تلك القسوة، كان فيهما جمال آسر يثير الاضطراب في القلب.
ظلّت لازيل تحدّق فيه للحظة وكأنّها سُلبت إرادتها، حتى أعادها إلى وعيها شيءٌ آخر…
رائحةٌ نفّاذة خانقة ضربت أنفها فجأة.
(هل تصدر هذه الرائحة منه؟)
شهقت بخفة، وقد صدمها الأمر.
لطالما سمعت من والدها أنّ العبيد قذرون ومنحطّون، لكنّها لم تتخيّل أن تصل القذارة إلى هذا الحد.
(لكن… مظهره لا يوحي بذلك كثيراً…)
تراجعت خطوة إلى الوراء محاولةً حبس أنفاسها قدر المستطاع.
وتقلّصت ملامحها بشيء من الاشمئزاز، بينما خُيّل إليها أنّ نظراتهما تلاقت من جديد…
“كان غياب والدك عن القصر البارحة بسببك، يا لازيل. لقد ذهب ليجلب هذا الخادم من أجلك. بما أنه من نفس مقاطعة فيلشيو التي كنتِ فيها، رأيتُ أن وجوده بجانبك سيكون مناسباً تماماً.”
“……حقاً؟”
“نعم. استخدميه كما تشائين، وإن ساء مزاجك، فلكِ أن تفرّغي غضبك عليه كما يحلو لكِ. من الآن فصاعداً، هذا العبد ملكٌ لك.”
ألقت لازيل نظرة عابرة نحو العبد، ثم رفعت عينيها مجدداً إلى والدها.
ابتسمت برقة، وتمدّدت ابتسامتها حتى أمسكت بذراعه بذات العفوية التي كانت تفعلها وهي طفلة.
“شكراً لك يا أبي، إنها هدية ثمينة. سأحتفظ بها طويلاً.”
“يسرّني أنكِ أحببتِها، هذا يكفيني.”
“على أي حال، أود أن أتجوّل في أنحاء القصر قليلاً… الجوّ بارد، فلندخل إلى الداخل.”
“هاه، معكِ حق. لا نريد أن تعودي إلى الفراش مريضة بعد أن تعافيت بالكاد.”
ومع أن الكلمات بدت عادية، إلا أنّ ألكسيو لم يلحظ أن ابنة عينيه كانت ما تزال ترى في مخيّلتها عيني الفتى الزرقاوين اللتين تذكّرها بثلج الشتاء.
لكن لازيل لم تلتفت إليه مرة أخرى، ودخلت مع والدها إلى قصر إيفور.
مهما يكن، فهو عبد — قذر ووضيع — حتى لو كان الملك قد منحه لأبيها، وحتى لو قدّمه الأب لها كهدية.
لم يكن في نية أحدٍ منهما أن يقدّراه أو يعاملاه كشيء ذي قيمة.
في نظرها، لم يكن سوى كائن عديم الأهمية، لا معنى لوجوده في حياتها.
وهكذا ظنّت.
لم تكن تعلم أن هذا “العبد التافه” سيقلب حياتها رأساً على عقب.
ولم تكن تدري أيضاً أنها ستسلّم له في يومٍ ما… كلّ ما تملك.
—
“أوه، لازيل!”
كان المساء قد أرخى سدوله حين ظهرت أختها الكبرى رونيدي، وقد فتحت عينيها دهشة وسارعت نحوها بخفة.
“كم مرّ من الوقت منذ آخر مرة رأيتك فيها؟”
اقتربت منها، تتفحّص ملامحها بعناية، ثم ابتسمت ابتسامة مشرقة كزهرةٍ تتفتّح في الربيع.
كانت لازيل جميلة بطريقتها الهادئة، لكن رونيدي كانت أجمل — جمالها أكثر نضجاً وثقة.
على خلاف لازيل، التي ما زالت تحتفظ بعذوبة الفتاة الصغيرة، كانت رونيدي تحمل في ملامحها سكينة امرأة في مقتبل الشباب.
تشبه والدها ألكسيو في قسماتها وحدّتها، بينما ورثت لازيل ملامح أمها الراحلة، ولهذا كان بين الأختين تباينٌ واضح في الجوّ الذي تشيعه كلٌّ منهما.
قالت لازيل بسرعة:
“آخر مرة جئتِ فيها إلى فيلشيو كانت منذ عام.”
“حقاً؟ يا إلهي، هل مرّ عامٌ كامل؟ أشعر وكأنها كانت قبل يومين فقط.”
فتحت رونيدي فمها بدهشة خفيفة، لكن تعليقها جعل لازيل تشعر بوخزة في قلبها.
كان في نبرة أختها شيء يوحي بأنها لم تكن متشوقة فعلاً لرؤيتها.
(صحيح أننا لسنا قريبتين كثيراً… ربما هذا طبيعي.)
عاشت لازيل حياة شبه معزولة في فيلشيو، بينما كانت رونيدي تحيا في عالمٍ واسع مليء بالحركة والمناسبات.
كان لكلٍّ منهما عالم مختلف تماماً.
(لا أرى عائلتي إلا مرة أو مرتين في السنة…)
لاحظت رونيدي ما بدا على وجه أختها من انكماش، فمدّت يدها بلطف تمسك بذراعها، كما لو أنها تريد محو ما سبّبته من جرحٍ دون قصد.
وأخذتها وهي تثرثر بمرحٍ نحو قاعة الطعام.
“سمعتُ أنكِ وصلتِ بعد الظهر، لكنني لم أستطع الخروج لاستقبالك لأنني كنت أُخرج الجرو للنزهة.”
“جرو؟”
“آه، صحيح، أنتِ لا تعلمين! بدأت بتربية جرو صغير منذ فترة، إنه محبوب جداً، حتى أبي وأمي يعشقانه. لا يطيق الابتعاد عني، وكان عليّ أن آخذه في جولة قصيرة، ولهذا لم أكن في القصر حين وصلتِ.”
(حقاً؟ إذن الجرو كان أهمّ من لقائي؟)
ازدحم رأس لازيل بالأفكار، ولم تدرِ أهو غضب أم حزن ما كانت تشعر به.
وفي تلك الأثناء كانتا قد وصلتا إلى قاعة الطعام.
جلستا إلى الطاولة بينما واصلت رونيدي حديثها الحماسي عن جروها الصغير، في حين كانت لازيل ترد بابتسامات باهتة.
وبعد لحظات دخلت الكونتيسة كلوندا، زوجة والدها.
“أه… مرحباً يا أمي.”
قالت لازيل بخفوت، وهي تعتدل في جلستها بشيءٍ من التوتر.
كانت الكونتيسة كلوندا زوجة والدها الثانية، أما أم لازيل الحقيقية فقد فارقت الحياة منذ سنوات طويلة، بعدما عانت من ضعفٍ في جسدها يشبه ذاك الذي ورثته لازيل عنها.
وإن كان الحديث مع أختها وأبيها صعباً، فالكلام مع هذه المرأة كان دائماً أصعب.
التعليقات لهذا الفصل " 3"