2
الفصل الثاني: خطيئتي
أمام أعين جنود العدو، انتزع الرجل شفتي لازيل ثم رفعها بين ذراعيه، وسار بها نحو ساحة تجمّعت فيها الخيول الحربية.
هناك، كان ينتظرهم عربة مجهزة مسبقًا. ارتعشت نظرات لازيل وتزلزل بصرها.
“إذن… لقد جئت إلى أراضي آل إيبور بهذا الغرض منذ البداية.”
يدها المضمومة على صدرها أخذت ترتجف بخفة لا تُكبح.
كم من الوقت أمضى في إعداد هذا المشهد؟ كم من الحقد ادّخر ليوم كهذا؟
استدارت ببطء إلى الوراء، عينها البنفسجية غارقة في خوف ثقيل.
كان جنود كرومبيل، الدولة التي سحقت مملكة فرتيا وسلبتها الحياة، يتبعون الرجل الذي يحملها.
الرجل الذي رمت به لازيل إلى أتون الحرب قبل سنوات… عاد الآن، لكن كقائد لجيوش الأعداء.
“كل ما يفعله… هو انتقام موجّه إليّ.”
لم تشك لحظة في ذلك.
فهي التي صنعت هذا الجرح بيديها، وما تراه الآن ليس إلا النتيجة الحتمية لخيانتها الماضية.
صوت وقع حذائه العسكري البارد، وهو يطأ الثلج المتراكم، توقف أخيرًا أمام عربة ترفرف فوقها راية كرومبيل.
قال ببرود:
“سآخذك إلى قلعي في كرومبيل.”
“….”
“بمجرد أن تصعدي إلى هذه العربة، ستتركين خلفك لقب آل إيبور. حتى يوم زواجك بي، ستكونين مجرّد فلاحة وضيعة. وإن أصبحتِ زوجتي، فلن تكوني سوى غنيمة حرب.”
قرأ في عينيها الباهتتين ما يكفي، فابتسم ساخرًا ثم أضاف:
“إن أردتِ الهرب، فهذا وقتك. اقتليني وارحلي.”
كانت كلمات يعرف مسبقًا أنها مستحيلة. ففتاة فقدت وطنها لم يعد لها مكان تذهب إليه. ومع ذلك… بدا وكأنه إنذار صريح:
“ما لم تقتلينني، فلن تهربي مني أبدًا.”
قال بصوت أكثر حدّة، يضغط على أعصابها:
“فكري جيدًا. وإن حاولتِ قتلي ثم سقطتِ بسيوف جنودي… فلن نفترق حتى هناك.”
كان تهديدًا أراد به أن يحطم ما تبقى من قوتها.
لكن المفاجأة أن نظرات لازيل أشرقت بوضوح لم يظهر عليها من قبل.
حرّكت شفتيها المتردّدتين، خرج منها نفس أبيض متناثر مع كلماتها:
“…لن أهرب.”
خطيئتي.
أنا التي مزّقته بيدي، وجرحته، ثم ألقيت به بعيدًا.
منذ اليوم الذي اختفى فيه من عالمي… ربما كنت أتهيأ لهذه اللحظة فقط.
أن يعود، ليوقع بي عقوبة أشد من الموت.
“مخيف… مفزع… لكن لا بأس. أخيرًا… سأكفّر عن الذنب الذي ظلّ يعذبني.”
شعرت بعيونه وهي تتفحص وجهها بدقة، حتى بدأ يتحرك مجددًا بخطوات واثقة.
صعد العربة الثقيلة، حاملاً إياها، ثم أنزلها برفق على المقعد.
في تلك اللحظة، تركت لازيل كل شيء خلفها: بلادها، قصر آل إيبور، عائلتها، وكل ما كان يربطها بالماضي.
“لازيل ويندمور.”
“….”
“ذلك سيكون اسمك الجديد قريبًا.”
قالها وهو يضعها في الداخل، كأنما يمنحها قدرًا جديدًا لا مهرب منه.
في الخارج، استمرت الثلوج تتساقط، لكن دفء العربة أزاح شيئًا من قسوة البرد.
“انطلقوا.”
كان مختلفًا عن الرجل الذي عرفته قديمًا، حتى بدا لها غريبًا. ومع ذلك حاولت أن تلتقط أنفاسها ببطء، تقاوم الإحساس المفاجئ بالوهن.
“كايلُو…”
تردّد اسمه في ذهنها وهي تذوب في حافة اللاوعي.
ذلك الرجل الذي رغبت فيه بشدّة، وأحبّته، واشتهته حتى اضطرت يومًا أن تنبذه… عاد أمامها الآن.
***
قبل أحد عشر عامًا.
في أواخر الشتاء، حين بدأ البرد يفقد قبضته شيئًا فشيئًا.
بعد أن انقطعت العاصفة الثلجية بأيام، خرجت لازيل أخيرًا من الغرفة التي حُبست فيها طويلًا.
“آنستي، ماذا لو أصابك البرد؟ جسدك ضعيف أصلًا…”
ابتسمت بخفة، وقالت:
“لا تقلق. وإن مرضت… أليس دورك أن تعتني بي أكثر من ذي قبل؟”
تحت الغطاء السميك من الفرو الذي يزيّن رأسها الأشقر المتدفق كالشلال، أجابت لازيل بخفة، وابتسامة رقيقة تتناثر من شفتيها مثل ندف الثلج الصافية:
“لا تقلقي.”
كان صوتها ضاحكًا، نقيًا ببرودته وشفافيته، أشبه بضحكة الطفولة.
منذ صغرها عُرفت ابنة آل إيبور الثانية بضعف جسدها وأمراضها التي لا تفارقها؛ أحيانًا كانت حادّة الطبع، وأحيانًا ساذجة، لأنها لم تعرف من العالم الخارجي سوى القليل.
“لكن تلك الأيام انتهت منذ زمن… لم أعد مريضة كما كنت.”
قبل عام واحد فقط، لم تكن تفعل أكثر من التقلّب واهنةً في فراشها، أما الآن فقد استعادت عافيتها على نحو مدهش، كالأرض العطشى حين يتسلّل إليها الربيع. حتى وجنتاها، اللتان كانتا شاحبتين كالموت، بدأتا تكتسبان لون الحياة من جديد.
لازيل نفسها لم تعد تشغل بالها بمرضها، لكن نورا، وصيفتها، لم تزل سجينة القلق.
زفرت الأخيرة تنهيدة ثقيلة ثم أضافت بصوت أكثر حذرًا:
“ألم يقل السيّد إنه سيصطحبك قريبًا إلى قصر الدوقية؟ لو أصابك البرد الآن فسيحزن كثيرًا…”
“أحقًا؟”
أجابت لازيل بابتسامة خفيفة، وفي تلك الملامح التقطت نورا لمحة شوقٍ دفين إلى العائلة.
فالحقيقة أن الفتاة، ابنة الكونت الثانية، قضت معظم سنواتها في هذا القصر الريفي البعيد.
الأسباب التي أعطيت لذلك كثيرة: وجود طبيب بارع يقيم في المكان، أو أن هدوء الطبيعة المحيطة أنسب لشفاء جسدها.
“لكن كل ذلك لم يكن سوى أعذار…”
فالكونت في أعماقه كان يخجل من ابنته العليلة، ويكره أن يراها الناس بهيئتها الذابلة.
كان يقول للآخرين إنها تمكث هنا للنقاهة، لكنه لم يأخذها معه قط إلى أي مجلس أو اجتماع اجتماعي.
حتى إذا حضر الضيوف، كان يقشعر لمجرد احتمال أن تظهر ابنته أمامهم بجسدها الهزيل.
“يُقال إن أم الكونت أُصيبت بمرض عضال، ومنذ ذلك الحين صار لا يطيق رؤية أي مريض دون أن يفقد أعصابه…”
تلك الشائعات كانت تتردّد سرًا بين الخدم. ويقال إنه حين أمر بنقل لازيل إلى هذا القصر، أوصى بلهجة صارمة ألا تعود إلى البيت إلا في أضيق الحدود.
“كل ذلك لم تعلمه الآنسة بالطبع…”
ومع ذلك، حين زارها الكونت قبل وقت قصير ورأى أنها استعادت عافيتها، قال لها أخيرًا إنه سيعيدها إلى البيت. بدا بصدق سعيدًا بعودة النضارة إلى وجهها.
“ألا يبدو أن السماء اليوم أوضح من المعتاد؟”
قالت لازيل وهي تتنشق الهواء البارد في الخارج.
حتى نورا، التي لم تكف عن القلق خشية أن تصاب سيّدتها بالبرد، انتهى بها الأمر إلى الابتسام أمام بهجة لازيل المشعّة.
مهما كان ماضيها، فالمؤكد أن مستقبلها لا بد أن يحمل أيامًا مشرقة.
لم تعد تلك الفتاة المريضة، العصبية، المتصلبة في عنادها.
بل فقط ابنة صغيرة، تتطلّع بحنين إلى دفء عائلتها.
***
“أبي!”
هرعت لازيل بوجه متلألئ أكثر من أي وقت مضى إلى صدر الكونت الذي حضر لاصطحابها.
“لازيل، بنيّتي… كيف حالك في هذه المدة؟”
“على خير ما يرام، يا أبي.”
كان ألكسيو، كونت إيبور، يستقبلها بابتسامة حانية.
ربّت على كتفيها بحنان مرتين أو ثلاثًا ثم سحب يده سريعًا، فيما لازيل، وقد بلغت الثالثة عشرة، ما زالت متشبثة بذراعيه متعطشةً لحنانه.
كانت تلك اللحظات الوحيدة التي تخفف فيها من حدتها المعهودة مع الخدم.
“هل انتهيتم من الاستعدادات؟”
“ليس بعد… لكنهم أوشكوا على الانتهاء.”
أجابت وهي تهز رأسها وتنظر إلى نورا الواقفة خلفها، وقد رفعت عينيها البنفسجيتين في إيماءة بدت أشبه بأمر صامت بالإسراع.
فارتبكت نورا على الفور وانحنت رأسها، ثم هرعت تحثّ الخدم على إكمال الحزم بسرعة أكبر.
أما لازيل، فابتسمت ثانية وهي ترفع عينيها إلى أبيها.
“أبي، ريثما ننتهي… هل يمكن أن…”
“لازيل.”
قاطعها الكونت وهو يضع يده على كتفها برفق.
“بينما يجهّزون الأمتعة، عليّ أن أزور مكانًا قريبًا. مكثت هنا طويلًا وهناك أمور ينبغي أن أرتبها.”
“إلى أين؟! الخدم يتكفّلون بكل شيء… أرجوك، دعني أذهب معك.”
“لن أتأخر.”
بهذه الكلمات القصيرة، الحاسمة، قطع رجاءها، ثم غادر.
صعد العربة التي لم يمرّ على نزوله منها نصف ساعة، وغاب عن ناظريها من جديد.
ذلك الأب الذي اشتاقت إليه طويلًا… لم تكد تراه حتى ابتعد عنها ثانية.
كانت لازيل واقفة وحدها، تحدّق في المكان أمامها بذهولٍ وصمتٍ مثقل.
“ما هذا…؟”
شعور بالغربة تسلل إلى قلبها.
قد يكون طبيعيًا، فهي أمضت زمنًا طويلًا بعيدة عن أسرتها.
كانت تدرك ذلك بعقلها، لكنها مع ذلك لم تستطع أن تمنع مرارة الحزن من أن تتكشف في وجهها.
لم تكن هي من اختارت هذا البعد؛ بل دُفعت إليه دفعًا، حين تخلّت عنها أسرتها في طفولتها الغائمة الذكريات، ونُفيت إلى فيلسيو بحجة أن عليها أن تتعافى.
كانوا يودّعونها وقتها بكلمات مباركة: لتستعيد صحتها سريعًا وتعود.
“مباركة… نعم. لقد قيل إنها مباركة. لو كنت قد بقيت في قصر آل إيبور، ربما ما كنت لأتعافى على نحو يكاد يُشبه المعجزة.”
حاولت لازيل أن تزرع في نفسها أفكارًا مضيئة.
لم يتبقَّ سوى قليل من الوقت لتنسجم من جديد مع عائلتها. وبعدها، ستنعم بما طالما تمنّت: دفء علاقة عائلية حقيقية.
“لا بأس… من الآن فصاعدًا، لن يكون في حياتي إلا المعجزات.”
خرج نَفَسها الأبيض في الهواء البارد مع نبرة العزم التي سكنت صدرها.
كانت تتمنى أن يذوب الثلج المتراكم سريعًا، وأن يتقدّم الربيع الدافئ بخطاه نحوها.
***
“تسْسْ.”
في تلك الأثناء، كان ألكسيو إيبور، وقد استقل العربة مبتعدًا عن ابنته، يضغط بلسانه ساخطًا.
لقد بدأ يظنّ أخيرًا أن ابنته الثانية تخلّصت من ظلّها المريض الواهن، لكن مع ذلك تبِع الأمرُ ما يثير ضجره.
وكان كل ذلك مرتبطًا بما هو مُقدِم عليه الآن.
“لماذا يا جلالة الملك… لماذا أوكلت إليّ أمرًا تافهًا كهذا، بأن أتعامل مع عبد حقير؟”
ففي أحد الأيام، حين استُدعي ألكسيو إلى العاصمة، حمّله الملك مهمة قال إنها عظيمة.
لكن ما وصفه الملك بالـ مهمّة الجليلة، لم يكن بالنسبة إلى ألكسيو سوى عبء حقير.
قال الملك، بصوته المهيب:
“لقد رأيت أن أكلّفك بمسؤولية كبيرة. سمعت أن ابنتك الثانية ما زالت في فيلسيو تتعافى. ويقال إنها استعادت عافيتها، حتى إن الأحاديث بدأت تنتشر عن عودتها الوشيكة إلى قصر آل إيبور.”
“أها… يبدو أن تلك الأخبار وصلت حتى هنا إذن. هاهاها…”
أجاب ألكسيو بابتسامة مصطنعة.
“إذن، حين تذهب لتصطحبها بنفسك، ستأخذ معك عبدًا من هناك. صدفةً، يوجد في فيلسيو عبد بعينه، وأريدك أن تتكفّل بأمره.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 2 - خطيئتي 2025-09-07
- 1 2025-09-07
التعليقات لهذا الفصل " 2"