(كنت أظنه سيتركني وشأني تمامًا… لكنه يقول إننا ما دمنا تزوجنا، فعلينا أن نعيش معًا؟)
هل يعني أنه سيعاملني كزوجة أمام الناس؟
لو كان ألكسيو هو من قال هذا، لكان قصده أن يعذبني حتى أفقد عقلي وعظامي.
ظلت تحدّق فيه متوترة، حين التفت إليها كايلو بنظرة خاطفة وقال بنبرة جافة:
“ما الذي تفعلينه واقفة هناك؟ ألا تأتين؟”
“آه، كـ… كنتُ قادمة الآن…”
“هل تشعرين بتوعك؟”
اقترب منها بخطوات ثابتة، وعيناه تتفحصان حالها بصمت.
شعرت لازيل بحرارة وجهها حين تذكرت أن ثوب نومها فضفاض، وأنه قد يرى ما لا يجب أن يُرى من الأعلى، فأمسكت بطرفه على عجل، ثم قالت بنبرة احتجاجية:
“لم يحدث شيء البارحة! فلا سبب يجعلني أشعر بتوعك!”
رفع حاجبه وقال ببرود:
“مجرد أننا لم نكمل الأمر حتى نهايته لا يعني أنه لم يبدأ شيء.”
ضحك بخفة حين رأى محاولتها المرتبكة لإخفاء بشرتها، أما لازيل فاشتعل وجهها حُمرة وهي تستعيد في ذهنها ما جرى ليلة أمس من مداعبات محرجة.
نعم… لم يكن حقًّا “لا شيء”.
عضّت على شفتيها في خجل مكتوم، وهمّت بالنهوض من السرير، لكن جسدها اهتز فجأة، فشهقت من الدهشة.
كايلو كان قد مرر ذراعه بين ركبتيها ورفعها عاليًا في لحظة واحدة.
صرخت بخفة وهي تُطوّق عنقه تلقائيًا.
(ما الذي يفعله بحق السماء؟!)
حين استعادت وعيها، أدركت أنه كان يحملها نحو طاولة الطعام.
لم تفهم دوافعه. لم يكن هناك أي سبب يجعله يعاملها برفق.
هل ضاق صبره فقط ويريد أن يتناول فطوره بسرعة لأنها تأخرت؟
“أستطيع المشي وحدي! إذا أنزلتني الآن فسأذهب بنفسي…”
“تبدين منهكة.”
“هذا لا يخصك! لا داعي لأن تقلق بشأنه.”
لم يكن خادمها بعد الآن.
حتى ليلة أمس… ربما كانت مجرد عادة قديمة تتسرب منه رغم إرادته؟
لكنّ النظرة التي وجهها إليها كانت مشبعة بعدم الرضا، كأن في صدره كلامًا كثيرًا لم يقله بعد.
وقبل أن تتمكن من قراءة ملامحه، أدار وجهه للأمام وقال ببرود هادئ:
“أيّ زوجٍ يتجاهل زوجته؟”
“هاه…؟”
خرجت منها همهمة مذهولة، كأنها لم تفهم ما سمعته. هل أخطأت السمع؟
لكنه لم يُعد الجملة. اكتفى بسحب الكرسي لتجلس، ثم جلس في مواجهتها.
قال بنبرة لا تحمل أي عاطفة:
“كلي.”
ترددت للحظة، تحدّق فيه بخوف متحفّظ، ثم أمسكت الشوكة بين أصابع مرتجفة.
لكن قبل أن تلمس الطعام، مدّ يده وسحب الطبق منها.
بسرعة ماهرة، قطع الطعام إلى قطع صغيرة مرتّبة، وأعاده أمامها.
حدّقت فيه لازيل مدهوشة.
(ماذا… ماذا يحدث؟)
شعور غريب بالارتباك اجتاحها من هذه اللمسة اللطيفة غير المألوفة.
بدا وكأنه شعر بارتباكها، فقال قبل أن تنطق:
“لست مضطرًا لتحمل مشهدك وأنتِ تتعذبين أمامي من أجل قطعة لحم.”
قالها ببرود قاسٍ، ثم بدأ يتناول طعامه بترتيب أنيق.
لكن مهما حاولت، لم تستطع أن ترى في تصرفه سوى… نوع من العناية.
كانت حيرتها تتعمق.
وبينما ظلت ساكنة متوترة، رفع كايلو بصره إليها.
عيناه الزرقاوان، الباردتان كالجليد، سددتا نظرة مباشرة نحوها.
“هل يجب أن أُطعمك بيدي كي تبدئي بالأكل؟”
كلماته القاطعة أزاحت كل أفكارها.
“لا، لا… سآكل!”
تحركت أدوات الطعام في يدها بخفة، وصوتها يرتجف قليلًا وهي تضع الطعام في فمها.
كانت القطع الصغيرة مناسبة الحجم، لذيذة الطعم… ومع ذلك لم تكن تعرف إن كان الطعام يمر من فمها أو من أنفها.
طوال الوقت، كان نظره مسلطًا عليها بلا انقطاع.
عيناه تراقبانها وهي تأكل، بثبات مزعج جعلها تشعر أن الهواء نفسه يثقل صدرها.
شعرت أنها ستختنق، لكنها تظاهرت باللامبالاة قدر استطاعتها.
قال أخيرًا بنبرة آمرة منخفضة:
“اشربي.”
ومع ذلك، كلّما بدأت لازيل تأكل بسرعةٍ طفيفة، كان كايلو يمدّ إليها كأس الماء فورًا، في توقيتٍ دقيق كأنه يراقب أنفاسها.
(إنه لطيف… أكثر من اللازم. لكن، ما الذي يخفيه وراء هذه اللطافة؟)
هل ينوي أن يطعمني جيدًا ويغذّيني كما تُربّى الماشية في المنزل، فقط ليلتهمني بعد أن أمتلئ؟
أم أنه ينتظر اللحظة التي أطمئن فيها تمامًا، ليغرس خنجره في ظهري؟
لم تكن لازيل قادرة على سبر أغواره أو فهم نواياه.
وحين انتهيا من الطعام، حملها كايلو إلى السرير من جديد، ثم غادر بصمت دون أن ينبس بكلمة.
(هل سيعود؟)
انتظرت، متشبثة ببصيص أمل، لكن انتظارها ذهب هباءً.
لم يعد هو، بل دخل الخدم واحدًا تلو الآخر، يساعدونها في الاستعداد لصباحها.
بعد أن ألبسوها ثوبًا دافئًا من طبقات الصوف الناعم، وأضافوا فوقه معطفًا سميكًا من الفراء، بدت كدمية ثقيلة في غلافها الشتوي. كانوا مصرّين أن تخرج في نزهة بعد الطعام “لصحة جسدها ونشاطها”، كما قالوا بإلحاح.
“كفى، أعتقد أن هذا يكفي.”
لكن إحداهن أسرعت وهي تهتف:
“سيدتي الدوقة، ما زال هذا!”
ثم قبل أن تتمكن من مغادرة الغرفة، وضعوا على رأسها قبعة صوفية ناعمة ذات حواف عريضة.
لم تُعامَل بهذه العناية منذ مغادرتها قصر فيلسيو.
تأملت صورتها في المرآة.
كانت مغطاة من رأسها حتى قدميها بطبقات سميكة من القماش والفراء، بحيث لم يبقَ فيها أثر لأنوثة الدوقة أو هيبتها.
بدا شكلها أقرب إلى كرة قطنية متدحرجة منه إلى امرأة من الطبقة النبيلة.
(هذا كثير فعلًا… أليس مبالغًا فيه؟)
لكن ما إن تمتمت بهذه الجملة حتى انتفض الخدم في اعتراض صادق:
“كيف يمكن أن تقولي ذلك، سيدتي؟! لقد أخبرنا الدوق أن صحتك ضعيفة! يجب أن تحمي نفسك من البرد حتى في أقصر نزهة!”
استمعت لازيل لكلماتهم الحريصة، واحدًا تلو الآخر، وشعرت بشيء يختلط في صدرها؛ حرج، ودفء غريب، وغصّة لا تعرف لها اسمًا.
منذ متى… لم يقلق أحد عليها؟
في موطنها، لم يكن هناك أحد يمدّ لها يد الحنان أو يسأل عن صحتها.
الشخص الوحيد الذي فعل… كان كايلو.
لكنه اختفى من حياتها لأربع سنوات، بعدما طردته ببرودٍ لا يغتفر.
ومنذ رحيله، لم يبقَ حولها سوى الاحتقار والازدراء والإهانات والعنف.
ولذلك، رغم كل شيء، لم تستطع أن تمنع نفسها من الشعور بالندم… لكونها هي من دفعته بعيدًا.
“سيدتي؟”
“آه، نعم…”
همهمت وهي تحاول أن تستعيد ثقتها بنفسها، بينما لون وجنتيها يزداد ورديًا بين الخجل والارتباك.
(أكانت أختي روني دائماً تشعر بهذا الدفء عندما يعامَلها الناس كالسيدة؟)
خرجت لازيل أخيرًا إلى البهو، تصحبها بضع خادمات.
وما إن تجاوزت عتبة جناحها، حتى انكشفت أمامها ممرات قلعة ويندمور العارية، الباردة، التي تفتقر إلى أي أثر من الفخامة.
خرجت منها تنهيدة قصيرة.
(يا إلهي… كم هي متهالكة.)
مهما حاولت، لم تستطع التكيّف مع هذا المكان. أن يكون هذا مقرّ إقامة دوق؟!
أما الغبار الذي يعلو كل زاوية، فحدث ولا حرج.
(بما أنني خرجت على أية حال، ربما يجدر بي أن أستغل الفرصة لتفقّد هذا المكان البائس عن قرب.)
منذ بلغت رشدها، كانت لازيل مجبرة على القيام بكل شؤون القصر في منزلها القديم، بأمرٍ من زوجة أبيها، كلوندا.
كانت تدير شؤون الخدم، وتشرف على ترتيب القاعات والحدائق، وتنظم الولائم وتستقبل الضيوف، وكل ذلك بينما كانت كلوندا لا تطيق حتى رؤيتها.
وإن لم ترضَ عن عملها، كانت ترفع العصا دون تردد.
“أهكذا تخططين لإحراجي؟! سيضحك الضيوف من عائلة إيفور بأسرها بسببك!”
ربما لهذا السبب أصبحت لازيل لا تطاق من الفوضى والإهمال.
لم تستطع أن تتقبل منظر القلعة القذر.
(ما هذا بحق السماء…)
الثريا المعلقة في السقف كانت قديمة إلى حدٍّ يوحي بأن الغبار سينهمر منها لو حرّكها الهواء قليلًا.
لكنها لم تستطع أن تلوم الخدم كثيرًا — فعددهم كان ضئيلًا على هذا الحجم الهائل من القصر.
(ربما ليست مشكلة النظافة وحدها… فجوّ القصر نفسه كئيب، كأنه يخلو من الحياة.)
أحست بالضيق وهي تتأمل الجدران الباهتة والنوافذ التي تسرب منها الهواء البارد.
(بصفتي سيدة القصر الآن… هل يحق لي أن أغيّر في شكله قليلًا؟)
فكرت بذلك وهي تواصل السير نحو الخارج.
توقفت العاصفة التي هطلت ليلًا، وبدت الساحة الخارجية بيضاء نقيّة كصفحة ورقٍ لم تُمسّ.
زفرت بخفة، فخرج بخار أنفاسها رقيقًا في الهواء البارد.
سارت عبر حديقة القصر، والثلوج تئن تحت خطواتها الثقيلة.
ثم التفتت إلى الخلف.
كان المشهد واسعًا، والقلعة القديمة تمتد أمامها بكل عظمتها الباردة.
شحب أنفها واحمرّت وجنتاها من البرد، لكنها استنشقت الهواء النقي بعمق.
كانت تفكر مليًّا: كيف يمكن تحويل هذا المكان المتهالك إلى بيتٍ يمكن العيش فيه؟
ثم توقفت فجأة.
تجمدت ابتسامة صغيرة على شفتيها، وانفتح فمها قليلًا.
(لحظة… صحيح أنني أصبحت “سيدة ويندمور”، لكن… هل أملك حقًا السلطة لتغيير أي شيء هنا؟)
كانت تعلم أن زواجها لم يكن إلا شكلاً من أشكال الانتقام.
هي ليست أكثر من زوجة بالاسم، لا أكثر.
أن تتصرف في القصر كما تشاء سيكون تجاوزًا لا يُغتفر — “إفراطًا في أداء دور السيدة”.
تذكرت بوضوح كلماته في يوم لقائهما بعد الحرب الطويلة:
“في اللحظة التي تصعدين فيها إلى عربة الزواج، تكونين قد تخلّيتِ عن اسم إيفور. قبل زواجك منّي في كرومبيل، لن تكوني سوى فلاحة تافهة. وحتى بعد أن تصبحي من أهل البيت، لن تكوني سوى غنيمة.”
تمامًا كما قال.
صحيح أنها لم تُعامَل كفلاحة بعد الزواج، لكنها لم تنل أيضًا أكثر من موقع “الغنيمة”.
ثم ارتفع صدى صوتٍ قديم في ذاكرتها — صوت روني وهي تصفعها بالكلمات:
“أنتِ لستِ شيئًا في عائلة إيفور، لازيل. فلا تتظاهري وكأنكِ أحدهم.”
ارتجفت قبضتا لازيل، ثم تراختا ببطء وهي تُخفض رأسها.
(نعم… كيف يمكنني أن أتصرف كالسيدة الحقيقية؟ أنا فقط أملأ مقعد الزوجة، دون معنى، دون مكانة…)
التعليقات لهذا الفصل " 10"