1
الفصل الأول: عودة ذلك الرجل
اجتاح المكان صخب هائل، كالعاصفة التي تهوي بمطر غزير فيغمر كل شيء ويشل الحركة.
كانت تلك اللحظة إعلان النهاية. الحرب الطويلة التي استمرت لسنوات انتهت أخيرًا. السحب الداكنة سكبت مطرًا رماديًّا غسل الدماء المتراكمة ورائحة الحديد العالقة في الهواء.
أربع سنوات من الحرب سرقت الكثير، ومع ذلك تركت وراءها شعورًا غريبًا بعدم التصديق، وكأن الواقع نفسه لا يزال غريبًا على العيون.
كانت “لازل” تضع كفّها على زجاج النافذة المبلل ببخار الرطوبة، تحدق في الأراضي الموحشة التي عادت صامتة بعد الخراب.
…لقد هُزمت بلادها.
سقط الوطن في أيدي العدو.
النبلاء الكبار الذين كانوا مفخرة المملكة قُتلوا على يد قادة العدو وسقطوا في التراب.
في قلب هذا الواقع المريع، راحت لازل تستعيد صورة المستقبل القاسي الذي ينتظرها.
“إن كان صخب جنود العدو يقترب، فهذا لا يعني سوى أن الدور سيأتي على بيت إيبور، أسرة الكونت… أليس كذلك؟”
ارتجفت أطراف أصابعها الباردة حين أدركت أن حياتها المليئة بالطموع ستُطوى بالموت قريبًا.
عضّت شفتيها بقوة.
“لا، سيكون كل شيء بخير… لن يحدث شيء…”
كانت قد رتّبت أمر الهرب مع أسرتها، ما إن تنتهي الاستعدادات سيرحلون إلى مكان بعيد. كل ما عليها هو أن تصمد إلى أن يحين الموعد.
لكن… “متى سنغادر إذن؟”
المُستخدم الذي كلّفوه بجمع الأخبار وعد بأن يأتي فور اكتمال التجهيزات. مرّت ساعتان منذ ذلك الوعد، ولا خبر.
أما هدير جموع الأعداء فقد صار يسمع بوضوح حتى هنا. صوت حناجرهم الجهورية ارتطم بأسوار القلعة كأنه يطرق الأبواب.
تنفست لازل تنهيدة ثقيلة ممزوجة بالقلق، وأدارت جسدها مبتعدة عن النافذة. المنظر وراء الأسوار أعاد إلى ذهنها وجهًا لم تكن راغبة في تذكره. أفكار غير مرحب بها أخذت تجرّ أخرى خلفها.
“…هل مات ذلك الرجل حقًا؟”
أم أنه نجا بمعجزة، وعاد إلى مكانه؟
في بداية الحرب، كان هناك شخص دفعته هي بنفسها نحو ساحة القتال.
بينما تنبش ذاكرتها، قبضت بخفة على طرف ثوبها. لكن اللحظة انقطعت على حين غرّة؛ ضوضاء صاخبة اجتاحت القصر بأكمله.
صرخة حادّة اخترقت الأجواء.
ارتجفت لازل لا إراديًا، والتفتت نحو الباب في فزع.
“آ… آنستي! آنسة لازل!”
اندفع الباب بعنف، واقتحمته الخادمة بوجه شاحب. كانت مرتبكة إلى درجة أنها نسيت أصول التصرّف تمامًا، أمسكت بيد لازل وسحبتها بعجلة نحو الخارج.
“يجب أن تهربي حالًا! جيوش كرومبيل… لقد اقتحموا الطابق السفلي!”
“ماذا تقولين؟! العدو هنا…؟ أبي؟ أمي…؟!”
لم تستطع حتى أن تسأل عن أختها الوحيدة، إذ ازداد وجه الخادمة قتامة أكثر.
كانت لازل تركض خلفها بخطوات متعثرة، بينما ارتجفت شفتاها وهي تهمس:
“هل… هل أُسروا على يد جنود كرومبيل؟”
“لا… لا، ليس هذا بالضبط…”
“كفّي عن التلعثم وقولي الحقيقة! ماذا حدث لهم؟!”
ارتفع صوت لازل حادًّا تحت ضغط القلق والاختناق. وحين استوعبت أن العدو قد دخل بالفعل، اجتاحها إحساس متأخر بالكارثة.
لكن حتى لو تعرّض أهلها للخطر، فهي تعرف أن مصيرها لن يكون مختلفًا عنهم.
الهرب لن يجلب سوى نهاية أكثر قسوة كلما ابتعدت.
غير أن جواب الخادمة، الذي جاء بعد لحظة تردد طويلة، كان أبعد بكثير عمّا توقعته لازل…
“لقد رحلوا قبلك…”
“ماذا؟!”
“السيد الكونت والسيدة، ومعهما الآنسة الكبرى… لقد غادروا قبل ساعة. كان معهم من الأمتعة ما أثقل العربة، فاضطررنا لتجهيز عربة صغيرة تخصك وحدك، ولكن متأخرة…”
تجمد عقل لازل للحظة، غير قادرة على استيعاب ما تسمعه.
“أسرتي… رحلت قبلي؟”
كل ما في الأمر أنها أُقصيت، لتفسح مكانها لصناديق محشوة بأمتعة لا روح لها.
أمام وقع الصدمة، بدا المشهد أبيض باهتًا أمام عينيها، وكأنها تلقت حكمًا مؤجّل التنفيذ بالإعدام.
ومع ذلك، فالأمر لم يكن جديدًا عليها. لازل، رغم كونها الابنة الصغرى في بيت إيبور، لم تكد تعيش يومًا دون أن تظل في الظل، وراء أختها الكبرى. اعتادت نظرات التهميش والبرود، لكنها لم تظن قط أنهم سيتركونها خلفهم هكذا.
حتى لو كانت عربة أخرى بانتظارها…
“هذا ليس إلا تخلّيًا… تركًا صريحًا.”
شيء ما انكسر داخلها، كاد ينفجر من صدرها، لكنها عضّت شفتيها حتى كتمت كل شيء. لم يكن الوقت يسمح بالانفجار. فهي تدرك جيدًا أن الانفعال لن يغيّر المصير القاتم، ولا سيما والعدو قد اجتاح أسوار القصر بالفعل.
تُركت تتحرك كدمية في يد خادمتها، تُسحب بخطوات مسرعة نحو الباب الخلفي. هناك كانت تنتظرها عربة صغيرة، بائسة، كأنها صُمّمت على عجل.
“…هل ستُكتب لي النجاة فعلًا إن ركبتها؟”
بينما الأعداء أنفسهم قد وصلوا إلى هنا؟
زفرت زفرة عميقة، تحمل معها نذير يأس ثقيلًا، وكأن الهواء بات جمرًا في صدرها.
“لا وقت، آنستي! اصعدي بسرعة إلى العربة…”
فتحت الخادمة الباب، وأخذت تدفع لازل إلى الداخل. وما إن رفعت قدمها لتخطو داخل العربة، حتى اخترق أذنها صوت حادّ، قاطع، يبعث القشعريرة.
كان صوت شيء يُمزَّق، يتبعه رذاذ سائل لزج، لم يسبق أن سمعت مثله من قبل.
ثم دوّى أنين مكتوم في أذنها… أنين يخص الخادمة التي كانت قبل لحظة تمسك يدها.
ارتطم جسد ما بالأرض بصوت أجوف، وملأت رائحة الحديد الصدئ والدم المكان.
تجمدت لازل تمامًا.
لم يكن بإمكانها أن تتجاهل الدفء اللزج الذي تناثر على فستانها البنفسجي.
“….”
أنفاسها خرجت متقطعة، خشنة، بلا انتظام. قلبها ارتجف بعنف غير طبيعي، حتى عجزت عن الحركة أو الالتفات.
“خلفي مباشرة… هناك شخص يقف خلفي.”
ذلك الذي قتل خادمتها أمام عينيها.
اصطكت أسنانها بعضها ببعض من شدّة الارتعاش.
خطوات ثقيلة أخذت تقترب. وقعها، مع صرير حذاء معدني بارد، اخترق أذنيها وأحكم قبضته على صدرها.
قَطَرات دماء تساقطت من شفرة ما، رتيبة، منتظمة، تقطر على الأرض. كل صوت منها كان كالمطرقة تُدق في أعصابها.
ثم توقفت الخطوات.
اقترب ذلك الشخص حتى صار خلفها مباشرة.
“لازل إيبور.”
صوت غليظ، خافت، خرج من الظلام كسكين بارد. انقبض قلبها بشدّة، كأن صدرها سقط فجأة في هاوية.
لم تستطع تمييز ملامح الصوت وسط دوّامة أفكارها، لكنها أدركت أنه صوت منخفض، خشن، يحمل ثقلًا مخيفًا.
بيد مرتجفة، أدارت رأسها ببطء، مرغمة على مواجهة ما وراءها.
عينان مرتاعتان اصطدمتا بخوذة ملطخة بالدم، باردة كالموت.
فقدت ساقاها قوتهما، وانهارت على الأرض الصلبة في صوت ارتطام أجوف.
“هـ… هاااه…”
كان الموت، أخيرًا، يقف أمامها.
اللحظة التي عاد فيها الموت بوجهٍ مألوف
بمجرد أن وقعت عيناها على الرجل المدرع الواقف أمامها، تسللت إلى قلب لازل قناعة لا تقبل الشك: لقد جاء قابض الأرواح ليأخذ حياتها.
أسندت راحتَيها المرتجفتين إلى الأرض المبتلة بالدم، ورفعت رأسها تنظر إلى قامته المديدة دون أن تجد في جسدها القدرة على التراجع خطوة واحدة.
دماء خادمتها، التي ما زالت تنزف على الأرض، لطخت خصلات شعرها الذهبي المنسدلة ويديها المرتعشتين.
حينها فقط تحرك الرجل.
انتفضت لازل كغزالة محاصرة، لكنها فوجئت به لا يرفع سيفه، بل يمد يده الخالية لينزع خوذته ببطء.
تابعت حركته كالمسحورة، حتى اتسعت عيناها حين انكشفت الملامح خلف الحديد البارد.
“……!”
انقطع نَفَسها، وارتجف صدرها كأن الهواء جُمد داخله.
شفاهها فتحت وأغلقت مرات عدة، ولم تستطع أن تُشكّل جملة كاملة، وإنما خرج صوتها متلعثمًا:
“أ… أنت… أنت…!”
شعر حالك السواد، كالليل البهيم.
عينان زرقاوان، باردتان حدّ الموت، لا يعلوهما سوى صمت قاسٍ.
ذلك الرجل كان شبحًا وسيفًا في آنٍ واحد، رسول موتٍ… لكنه أيضًا، في أعماق ذاكرتها، كان شاهدًا على خطيئة دفنتها. ذكرى شخص نبذته هي بنفسها في الماضي، ليعود الآن حيًا أمامها.
ارتجفت ثانية حين رفع الرجل سيفه، لا ليقتلها، بل ليزيح بطرفه الحاد خصلات شعرها الطويلة المتدلية، حتى كاد يلامس خط عنقها الرقيق.
ثم انفكت شفتاه المتصلبتان أخيرًا، وخرج صوته المنخفض:
“مضى وقت طويل… أراك مصدومة لأنني عدت حيًّا.”
ارتسمت عند طرف فمه ابتسامة هازئة، بلا صوت، أشبه بجرح يسخر من نزيفه.
وفي الخارج، تغيّر وجه السماء. المطر الرمادي تحوّل إلى ثلج أبيض يتساقط بهدوء، يغطي الأرض بسكون شاحب. ومع كل بلورة ثلج تهبط، ازداد قلب لازل برودة، حتى شعرت أن الصقيع قد اخترق صدرها.
اقترب السيف أكثر، خطف أنفاسها، ثم لامس رقبتها الخائفة.
“لازل إيبور… أميرة قلبي الصغيرة… هل أنقذك؟ أم أتركك لتسقطي؟”
لم تجد الكلمات طريقًا إلى لسانها. لم تستطع حتى أن تتوسل. أغمضت عينيها بشدّة، فالماضي بينهما ارتطم بوعيها في لحظة واحدة. لا أمل في النجاة، لا بصيص ضوء.
لكن، فجأة، انزاح السيف بعيدًا.
“ما… ماذا؟ لماذا لم يحدث شيء؟”
انتظرت الألم، انتظرت النهاية، لكنها لم تأتِ. فتحت عينيها ببطء، لتجد نظراته الزرقاء، الباردة كثلج الشتاء، مثبتة عليها بثبات لا يتزعزع.
وراءه، ظهر الجنود. كانوا بالعشرات، مصطفّين بانتظام، ينتظرون أوامره كما لو كان قائدهم الأعلى.
انحنى الرجل قليلًا، حتى صار على مستوى عينيها. مد يده وأمسك بخديها بين أصابعه، بقبضة لا تحتمل الفكاك.
“أعتذر، لكن الموت… لم يكن خيارك من البداية.”
“……”
“مباركٌ لك يا لازل. حياتك البائسة، الحساسة، باتت ملكي الآن.”
لقد اشترى حياتها، لا لينقذها، بل ليمتلكها.
“عليك أن تدفعي ثمنها.”
“ك… كيف…؟” جاء صوتها متحشرجًا، بالكاد خرج من بين شفتيها المرتعشتين.
فأجاب هو ببرود حاد:
“ستتخلين عن عائلتك، عن وطنك، عن كل ما كان يومًا عزيزًا عليك… وستتزوجينني. أنا الذي كنتِ تحتقرين وجودي.”
تجمدت عيناها. لم تستطع النطق.
ابتسم بمرارة، وأضاف كمن يثأر:
“لقد اشتريتك… بفتات من المال.”
كان ردًّا موجزًا، لكنه كالسوط، يجلد كرامتها ويعيد إليها ذكريات الإهانة الماضية.
ثم جذب ذقنها إليه قسرًا، واعتدى على شفتيها بقبلة لم يكن فيها سوى السطوة والقهر. ضغط كتفها إلى الأسفل، كما لو كان يختم عليها بوصمة لا فكاك منها.
“……!”
شهقت لازل، وانفلت نفس مرتجف من صدرها، ضاع بين فمهما والتصقت بأنفاسه. جسدها المرهق انهار، ولم تجد في نفسها قوة للمقاومة.
لم تعلم إن كان ما جرى خلاصًا أم انتقامًا، لكنه كان حقيقة لا لبس فيها: خطيئتها قد عادت لتطاردها.
لقد تخلّت يومًا عن عبدٍ كان تحت رحمتها، رمت به إلى الجحيم بلا رحمة.
والآن… عاد ذلك الرجل ليقتص.
عاد لا ليكون قاتلها فحسب، بل ليغدو زوجها، والسارق الأخير لكل ما تملك.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 2 - خطيئتي 2025-09-07
- 1 2025-09-07
التعليقات لهذا الفصل " 1"