2
New chapter
ألقى الشاب نظرة سريعة على يكاترينا، ليست نظرة إعجاب بل أشبه بتقييم. عيناه كانتا تفحصانها كما لو كان يزن شيئًا ما، ليس رغبة وإنما نية خفية بدت وكأنها استغلالية. لم يستمر طويلاً قبل أن يعيد تركيزه إلى ناديا، يتحدث معها بحديث سريع غير واضح.
شعرت ناديا أن الجو قد يصبح متوتراً، فنهضت فجأة وأمسكت بيد يكاترينا.
“هيا، دعينا نذهب إلى ساحة الرقص، هذه الأجواء مملة هنا.”
سحبتها نحو قاعة الرقص، حيث كانت الأضواء الملونة تتراقص مع الموسيقى الصاخبة. دخلت ناديا المكان وكأنها ملكة المسرح، الفستان الأزرق الذي كانت ترتديه كان قصيرًا ومثيرًا، يبرز منحنيات جسدها بخفة وأناقة. سرعان ما بدأت تتمايل على الإيقاع، تتحرك برشاقة وثقة وكأنها جزء من الموسيقى نفسها.
أما يكاترينا، فكانت تقف أمامها، تراقبها بابتسامة خفيفة، مستمتعة برقص صديقتها دون أن تشارك. كانت حركات ناديا تجذب الانتباه من حولها، لكن سرعان ما انطلقت بعض الأصوات المشجعة من الخلف، تطالب يكاترينا بالانضمام.
“هيا، شاركيها!”
قال أحدهم بصوت مرتفع وسط الضجيج.
نظرت يكاترينا بخجل إلى ناديا، التي توقفت لحظة، تمد يدها لصديقتها وتبتسم بتشجيع.
“لا تخافي، فقط اتركي الموسيقى تأخذكِ.”
عندما اقتربت يكاترينا من وسط ساحة الرقص، لم يظهر على وجهها سوى هدوء غامض. الموسيقى كانت تصدح بألحان سريعة وصاخبة، لكنها لم تسرع بالاندماج كما توقع الجميع. في البداية، اكتفت بالوقوف بثبات، تتأمل من حولها، ثم أخذت خطوة واحدة صغيرة إلى الأمام.
كانت خطواتها الأولى أشبه بمقدمة لقصة طويلة. رفعت يدها برشاقة، وكأنها تدعو شيئاً خفياً للمشاركة، ثم أغلقت عينيها لوهلة قصيرة. عندما فتحتها، بدا وكأن شيئاً ما قد تغير. جسدها بدأ يتحرك بتناغم عجيب مع الموسيقى، لكن ليس بطريقة تابعة للإيقاع، بل كأنها هي من تقود اللحن ذاته.
تمايلت بخفة، ساقها ترتفع بانسيابية وكأنها تسبح في الهواء. كانت كل حركة تبدو وكأنها مرسومة بدقة، تتحدث بلغة لا يفهمها سوى من يحمل روحاً مختلفه. أيديها تلوح بأناقة وكأنها تلقي تعاويذ ساحرة، ووجهها يعكس مزيجاً من الجديه والجاذبية التي خطفت الأنظار.
الموسيقى، التي كانت تحاول في البداية تحديها، بدأت تتغير تدريجياً، وكأنها تُخضع نفسها لها. الإيقاع الصاخب خفت قليلاً، واستبدل بنغمات أشبه بطقوس قديمة تتماشى مع حركاتها. أصبحت يكاترينا محط الأنظار، والرقصة التي قدمتها لم تكن مجرد خطوات عادية، بل مشهداً أشبه برقصة ساحرات قدامى تُحيي أسراراً منسية.
كلما تحركت، تزايدت دهشة الموجودين. بعضهم توقف عن الرقص تماماً لمتابعتها، بينما انطلقت همسات مشحونة بالذهول. شعر الجميع وكأنهم أمام شيء يتجاوز المألوف.
اختتمت يكاترينا حركاتها بتدويرة رشيقة تلاها توقف مفاجئ، وكأن الزمن ذاته انصاع لإرادتها. ثم نظرت إلى ناديا، التي كانت تقف مذهولة، ترفع يدها لتصفق وهي تضحك بحماسة.
“يكاترينا، كنتِ تخبئين هذا عنا؟!”
قالت ناديا، صوتها مليء بالإعجاب.
أما يكاترينا، فاكتفت بابتسامة خفيفة، تمسح على جبينها وكأنها تحاول التظاهر بأن ما حدث كان عفوياً، لكن داخلها كانت تعرف أن تلك اللحظة كانت جزءاً من ذاتها الحقيقية، التي لا تظهر إلا نادراً.
عادت ناديا تسحب يكاترينا بخفة نحو الطاولة، حيث يجلس الشباب الذين كانوا يراقبون كل شيء بصمت مريب. جلست يكاترينا بهدوء، لكنها سرعان ما توقفت عن الحديث عندما وقعت عيناها على الشخص الذي يجلس أمامها ذلك الرجل ذو الشعر الطويل الموشوم، بأصابعه المزينة بالخواتم الثقيلة.
همست لنفسها بصوت خافت، بالكاد مسموع.
“كنت أعلم أن هذا سيحدث…”
لم تكن نظرتها تخطئ. هذا الرجل ليس عادياً. كل إشارة في مظهره وهدوءه المريب يوحي بأنه ينتمي إلى عالم العصابات. نظرت بسرعة إلى ناديا بجانبها، تدرك فجأة خطورة الوضع.
يا إلهي، أي ورطة هذه؟ مالذي تعتقد ناديا نفسها تفعله؟ هل تستطيع حقاً دخول هذه الأماكن لأنها على علاقة مع هؤلاء الرجال؟
شعرت كأنها محاصرة، وعرفت أن عليها البحث عن طريقة للانسحاب.
“ناديا،”
بدأت بصوت خافت،
“أنا أشعر بالتعب حقاً… أعتقد أنني مضطرة للعودة إلى المنزل.”
لكن ناديا، بابتسامتها الهادئة المعتادة، وضعت يدها فوق يد يكاترينا برفق، محاولة طمأنتها.
“يكاترينا،”
قالت بلطف،
“روستوف ميلنيكوف ليس مجرد صديق… إنه أكثر من ذلك بقليل. وهو يعرف أنكِ تقرئين الطالع. يريدكِ أن تقرأي له طالعه لانه يرغب في القيام بشيئاً ما غداً.”
تسارعت أفكار يكاترينا، ووضعت رأسها بين يديها بتوتر.
“كنت أعلم أن الأمور لن تنتهي بهذه السهولة، ناديا…”
رفعت رأسها، نظرتها مليئة بالاستياء،
“لكن كان عليكِ أن تخبريني أنكِ على علاقة برجل عصابات.”
ساد الصمت للحظات، تبادل خلالها الشباب نظرات سريعة، وكأن كلامها أشعل شرارة غير متوقعة بينهم. روستوف، الرجل ذو الشعر الطويل، لم يبدُ متفاجئاً. بل ارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة وهو يتكئ ببطء إلى الخلف.
“أجل،”
قال هو بابتسامة جريئة،
“لا بد أن هذا كان واضحاً من مظهري، أليس كذلك، يكاترينا؟”
لكن يكاترينا لم تكن في مزاج للمزاح. نظرت إلى روستوف، عينيها تضيقان بشك.
“أنتَ لست رجلاً عادياً. كل شيء فيك يصرخ بذلك. أنتَ تُنفذ أوامر رؤسائك بحذافيرها، لا تترك أي تفصيل صغير، تماماً مثل الأفعى… تبتلع كل شيء دون أن تترك أثراً.”
ساد التوتر الطاولة للحظة، قبل أن يطلق أحد الفتيان الآخرين صفيراً منخفضاً تعبيراً عن الدهشة.
“واو…”
قالها وهو يهز رأسه بإعجاب.
لكن روستوف لم يتحرك. بدلاً من ذلك، مدّ يده ببطء نحو الطاولة، مظهره هادئ وبارد، كأنه يتحدى.
“أعطني يدك، روستوف ميلنيكوف.”
قالتها يكاترينا بنبرة حازمة، تمد يدها نحوه، عيناها مثبتتان عليه بثبات.
روستوف رفع حاجبه قليلاً، قبل أن يمد يده الأخرى نحو يدها. حركة صغيرة، لكنها تحمل الكثير من الدلالات. الجميع على الطاولة توقفوا عن الكلام، ينتظرون ما سيحدث.
أغمضت يكاترينا عينيها برهة عندما أمسكت يد روستوف، كأنها تبحر في أعماق خفية لا يراها أحد. خيم الصمت على المكان، حتى بدا وكأن كل شيء حولها قد توقف. الشباب الجالسون تبادلوا نظراتهم بترقب، بينما بقيت ناديا متوترة، تراقب صديقتها.
بعد لحظات من السكون، فتحت يكاترينا شفتيها، وصوتها خرج واثقاً، كأنه يقرأ من كتاب غامض.
“صراع… هدوء… رجل يمضي حيث… نصيب يفوز به… روح عالية… موت قريب… لكن… نهاية برضى.”
فتحت عينيها ببطء ونظرت إلى روستوف ببرود، كأنها تقيس وقع كلماتها عليه. ثم أضافت بصوت أكثر حدة، كأنها تصدر حكماً لا رجعة فيه.
“ستحصل على ما تريده، روستوف. بمعنى آخر، غداً ستتولى مهمة كبيرة، وستنجح فيها، لن يطولك الموت لا أنتَ ولا الطرف الآخر لكن… هناك شيء خطير لم استطع تفسيره.. ربما هو يتعلق بسلامتك وهذا الأمر يعتمد على ما تقرره انتَ.”
سحب روستوف يده ببطء، ونظراته لم تفارقها، محاولاً فك رموز كلماتها. للحظة، بدت ثقته المعتادة وكأنها تزعزعت قليلاً.
“كيف… كيف عرفتِ هذا؟”
قالها بصوت مبحوح، ثم استجمع نفسه بسرعة وسأل
“لكن هل تعرفين من هو الطرف الآخر؟”
هزت يكاترينا كتفيها بلا مبالاة، وملامحها استعادت هدوءها المعتاد.
“كلا. التفاصيل الدقيقة لا تظهر، وهذا ليس من شأني. لكنك لن تعرف من يكون حتى تواجهه بنفسك.”
ساد الصمت مجدداً، ولم يقطع هذا الصمت سوى نفس طويل أطلقه أحد الفتيان، مغمغماً.
“هذا جنون… لكنها لم تخطئ، أليس كذلك؟”
أما روستوف، فقد ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة، لكنها لم تصل إلى عينيه. ثم اتكأ ببطء إلى الخلف، يثق بأن كلماتها حقيقية وإنه سيحقق هذا بالفعل.
…..
كانت ناديا تقود السيارة في صمت، بينما جلست يكاترينا بجوارها متكئة برأسها على النافذة لأنها طلبت من السائق ان تقود هي، لذا تركها وغادر أما عن يكاترينا فكانت تحدق في الأضواء الخافتة للشوارع المظلمة. لم تكن مستمتعة حقاً في ذلك المكان.
كل شيء بدا فارغاً، كأنه عالم لا ينتمي إليها. صوت الموسيقى الصاخبة، ضحكات الغرباء، ونظراتهم المريبة، كل هذا لم يكن يناسب روحها، بل أشعرها بالاغتراب أكثر من أي وقت مضى.
عندما توقفت السيارة أمام منزلها، استدارت ناديا بابتسامة صغيرة.
“أراكِ غداً، يكاترينا. وأرجوكِ، لا تبالغي في التفكير.”
أومأت يكاترينا بصمت، وأغلقت الباب خلفها، تسحب خطواتها الثقيلة نحو باب منزلها. لم تكن تريد أكثر من أن تنسل إلى سريرها وتنسى كل ما حدث.
عندما استيقظت صباحاً رغم التعب الذي لا يزال يثقل جسدها. وقفت أمام المرآة تتفحص وجهها الشاحب.
“كان يجب أن أرفض الذهاب… هذا كله بسبب ناديا…”
تمتمت لنفسها بينما ترتب حقيبة المدرسة. ارتدت زيها المدرسي بتثاقل، وهي تحاول طرد أفكار الليلة الماضية من رأسها.
ولكن، قبل أن تنتهي من ارتداء حذائها، قطع تفكيرها صوت طرق عنيف على الباب. تجمدت في مكانها للحظة، ثم بدأت خطواتها الحذرة نحو الباب، وكل خطوة كانت تحمل معها ضربات متسارعة في قلبها.
أكملت ارتداء حذائها بعد ذلك.
“من…؟ من يكون الآن؟ هذا ليس وقت زيارات…”
همست لنفسها، وهي تقترب ببطء من الباب. وضعت يدها على المقبض بحذر، ثم فتحته جزئياً، لتجد أمامها روستوف ميلنيكوف وصديقيه يقفون هناك.
“صباح الخير، يكاترينا.”
قالها روستوف بصوت بارد ومريب، يبتسم ابتسامة ضيقة. شعرت يكاترينا برعب يجتاحها، حاولت أن تغلق الباب بسرعة، لكنه دفعه بقوة، فانفتح الباب على مصراعيه، ودخل إلى المنزل بخطوات واثقة، يتبعه صديقاه.
“ماذا تفعل هنا؟! أخرج فوراً!”
……………..
Instagram| ohyrita
Chapters
Comments
- 2 - العرافة الحقيقية 2025-05-14
- 1 - العرافة الحقيقية 2025-05-12
- 0 - المخادعة الصغيرة 2025-05-12
التعليقات لهذا الفصل " 2"