1
“Ты всего лишь женщина, которая хочет привлечь внимание людей.”
“لستِ سوى امرأة ترغب في الحصول على انتباه الناس.”
“Я не настолько пуста внутри, как ты, чтобы убивать каждого, кто встаёт на моём пути, только чтобы навязать свои мнения всем, даже если я не права.”
“أنا لستُ فارغةً من الحياةِ مِثلكَ حتى أقتلَ كلَّ شخصٍ يعترضُ طريقي فقط لأفرضَ آرائي على الجميعِ، حتى وإن كنتُ مخطئة.”
••••••••
“أي هراء هذا الذي تتحدثين عنه؟! هل أنتِ غبية؟! أنتِ مجرد مخادعة تسعين فقط لإيذائي! سأشتكي للبوليتسيا إن حدث لي أي مكروه غدًا!”
عاد الصوت المألوف نفسه يتردد في أذنيها. نفس الاتهامات، نفس الشكوى البائسة.
ها قد عدنا إلى الهراء ذاته…
فكرت يكاترينا بينما تراقب المرأة المتذمرة. الجميع يأتي طالبًا المساعدة، يريدون أن تقرأ لهم الطالع، ثم ينتهي الأمر بالسباب والتشكيك. كانوا دومًا يرددون: “أنتِ مخطئة”، “أنتِ غبية”، “أنتِ لا تعرفين شيئًا”.
أخفضت يكاترينا نظرها ببرود، تكتم ضيقها، ثم قالت بصوت هادئ لكن حاد
“أجل، أجل… فقط غادري.
وعندما يتحقق ما أخبرتكِ به بالأمس،
لا تنسي أن تحضري نقودكِ غدًا.”
لم ترد المرأة سوى بإغلاق الباب خلفها بقوة تكفي لتعكس انزعاجها، بينما بقيت يكاترينا تحدق في الباب المغلق بعينيها البنيتين الباردتين.
“كما هو متوقع…”
تمتمت لنفسها، ثم تنهدت بضيق وهي ترفع يديها إلى شعرها، تفركه بعصبية. أسندت رأسها فوق الطاولة التي جلست خلفها، تتنفس بعمق بينما الغروب يلف المكان بصمته. لم يكن يُسمع سوى صوت الغربان وهي تحلق فوق المنزل، تضيف لمسة كئيبة إلى ذلك المساء الهادئ.
عندما أشرق الصباح التالي، وقفت يكاترينا أمام المرآة في غرفتها الصغيرة. رتبت شعرها الأسود فوق كتفيها بحركة واثقة، ثم أخذت أحمر الشفاه، ومررته على شفتيها ببرود. نظرت إلى انعكاسها في المرآة، ابتسمت بسخرية خفيفة، وهمست
“هذا أفضل.”
ارتدت يكاترينا ثيابها بهدوء. كانت قد استعدت مسبقًا لهذه اللحظة، حيث كانت تعلم جيدًا أن يومها سيكون مثل أي يوم آخر، مليئًا بالروتين والضغوط. نظرت إلى نفسها في المرآة للحظة طويلة، ثم تمنت لو كانت تستطيع الفرار من واقعها، لكن هذا ليس خيارًا متاحًا. هي الفتاة الوحيدة في منزل والديها، المسؤولة عن دفع تكاليفه بالكامل، وهو عبء ثقيل لا تستطيع الهروب منه.
بعد أن انتهت من ترتيباتها الصباحية، خرجت من غرفتها بخطوات سريعة، متجنبة أن تعود إلى التفكير في مشاعرها المتشابكة. انزلقت يكاترينا حافية القدمين على الأرض الباردة، توجهت نحو الباب الخلفي للمنزل، حيث كانت النوافذ تترك الضوء يدخل بشكل قاتم، مما جعل الجو ضبابيًا قليلًا. كان المنزل في أحد الأزقة الهادئة بعيدًا عن صخب الشوارع الرئيسية، لكن الحياة التي تسير فيه كانت معقدة بقدر تلك الشوارع المزدحمة.
خرجت من الباب وابتسمت بشكل غير مألوف عندما شعرت بنسيم الصباح البارد على وجهها. كان الهواء عليلًا، لكنه مليء بنكهة المجهول. أغلقت الباب خلفها بحذر، ثم تابعت سيرها بخطوات ثابتة.
بينما كانت تسير عبر الزقاق، كانت تنظر حولها بعيون ثابتة، وكأنها تتوقع شيئًا ما أن يحدث. فهي تعرف تمامًا أن حياتها لا تشبه حياة الفتيات الأخريات في سنها. معظمهن يذهبن إلى مدارسهن، يعشن حياة عادية، بينما هي تحمل على عاتقها الكثير.
كانت ثانويتها تقع في الجزء الأبعد من المدينة، بعيدة عن الأضواء والمناطق المزدهرة.
تلك الثانوية لم تكن معروفة كثيرًا، لكنها كانت تتمتع بسمعة بين الطلاب بأنها مكان هادئ ، وإذا كنت تبحث عن الهدوء، فذلك المكان المثالي.
الفصول كانت ضيقة، والأجواء غالبًا ما تكون خانقة، لكن يكاترينا اعتادت على ذلك. كان من السهل عليها أن تتنقل بين الصفوف دون أن تُلاحظ كثيرًا، لان الجميع كان يسعى خلفها من الفتيات.
استقلت الحافلة التي تأخذها إلى مدرستها، وهي دائمًا تجلس في الزاوية الخلفية حيث لا يراها أحد.
الحافلة كانت مكتظة أحيانًا، لكن يكاترينا كانت دائمًا تفضل الجلوس بمفردها، تعيش في عالمها الخاص.
ومع مرور الأيام، أصبح بإمكانها معرفة وجوه الركاب بشكل دقيق، وبسهولة يمكنها أن تلتقط الإشارات الصغيرة التي تدل على أنهم قد سمعوا عنها في المنطقة.
داخل الحافلة، كان الجميع مشغولًا بمحادثاتهم أو هواتفهم المحمولة، لكن يكاترينا كانت تختلف.
كانت أفكارها مشتتة بين ما حدث في الليلة السابقة، وبين قراءة الطالع التي كانت قد أجرتها لبعض الزبائن في تلك المنطقة.
ومع مرور الوقت، اكتشفت أن العديد من الناس الذين يطلبون منها أن تقرأ لهم طالعهم هم في الواقع في حاجة لشيء أبعد من مجرد التسلية.
هم بحاجة إلى الأمل أو الإشارة التي قد تغير حياتهم، ومع كل مرة تقرأ فيها الطالع، كان عبء الحياة يزداد ثقلاً على قلبها.
بمجرد أن وصلت إلى مدرستها، كان الجميع في انتظارها. الفتيات يلتقطن أنفاسهن في انتظار أن تجيب يكاترينا على أسئلتهن المتعلقة بالمستقبل.
البعض منهن كن يراهنها بنظرات متلهفة، بينما كانت هي تقف هناك، مبتسمة ببرود، تراقب كيف أن الجميع يعلقون آمالهم على كلماتها، كلمات قد تكون بداية تغيير في حياتهن.
•••
“يكاترينا! يكاترينا! تعالي هنا!”
رفعت رأسها ببطء، عيناها الداكنتان متعبتان كأنما تحملان عبء العالم. أجابت ببرود، دون أن تلتفت تمامًا.
“ليس الآن… أنا لستُ في مزاج جيد اليوم. لذا، لن يكون هناك قراءة طالع لأي شيء. اليوم على وجه الخصوص.”
ساد الصمت في الفصل، قبل أن تبدأ الفتيات بالانسحاب واحدة تلو الأخرى. وجوههن خيبة ممتزجة بالحيرة، وكأن يكاترينا هي المحور الذي تُسير عليه حياتهن. ومع ذلك، لم يكن أيٌّ منهن تُدرك ذلك، وليس كأنها هي أدركته أيضًا. فهي، في النهاية، هي مجرد فتاة في السابعة عشرة من عمرها.
بعد لحظات، تقدمت ناديا، صديقتها المقربة، لتجلس بجانبها. وضعت حقيبتها بهدوء على الأرض وحدّقت فيها لبضع ثوانٍ قبل أن تكسر الصمت
“ما الذي يشغل بالكِ؟ تبدين غارقة في التفكير أكثر من المعتاد.”
أجابت يكاترينا بصوت خافت، وكأنها تخاطب نفسها أكثر مما تخاطب ناديا
“آه، نعم، أنا أفكر… الشيء الوحيد الذي يُبقيني على قيد الحياة هو قراءة الطالع، فهو ما يجعلني أحصل على النقود لدفع فواتير المنزل. ولكن، هذا الأمر أصبح محيرًا… صحيح أنني لا أخطئ أبدًا في أي قراءة، لكن هذا أيضًا يضعني في مواقف خطيرة.”
التفتت إليها بحيرة وعيون مثقلة بالهموم، قبل أن تضيف بنبرة منخفضة، وكأنها تخشى أن يسمعها أحد
“ماذا لو أرادوا قتلي ذات يوم؟ ماذا لو قرأتُ طالعًا خطيرًا، ثم جاءني تهديد… ثم قُتلت؟”
توقفت للحظة، ثم همست بصوت مرتجف
“أنا لا أريد أن أموت… على الأقل، ليس قبل أن أفقد عذريتي.”
اتسعت عينا ناديا للحظة قبل أن تضحك بصوت عالٍ، ثم وضعت يدها على فمها وهي تحاول كبح نفسها
“آسفة! لكنكِ مثيرة للشفقة والطرافة في الوقت ذاته. تريدين فقدان عذريتكِ قبل الموت، ومع ذلك تكرهين الرجال! كيف يمكنكِ أن تناقضي نفسكِ بهذه الطريقة؟”
همهمت يكاترينا بضيق ووضعت يديها فوق الطاولة، تسند رأسها فوقهما كمن يحمل فوق كتفيه أعباء العالم بأسره
“أجل… لأن الرجال الحقيقيين لم يعودوا موجودين. كل ما نراه حولنا ذكور يبحثون فقط عن المتعة.”
صمتت ناديا قليلاً، ثم استقامت في جلستها وهي تقول بحماس
“على أي حال، يكاترينا، أنتِ بحاجة لتغيير أجوائك، أليس كذلك؟”
التفتت إليها يكاترينا ببطء، عيناها تعكسان تعبًا يتجاوز عمرها.
“أجل، أريد شيئًا يغير من هذا الملل.”
ابتسمت ناديا بمكر وهي تنهض فجأة من مكانها، تمسك يدي يكاترينا وتسحبها دون سابق إنذار.
“إذن عليكِ أن تستمتعي! سنذهب إلى حفل الليلة! سيكون هناك حفل عند التاسعة مساءً، وأغلب طلاب الفصل سيحضرون. ما رأيكِ؟ أليس هذا كافيًا لكسر أجوائك الباردة؟”
توقفت يكاترينا للحظة وهي تنظر إلى ناديا التي بدت متحمسة بشكل مفرط، قبل أن تهمس ببرود.
“سنرى…”
لكن في أعماقها، تساءلت عما إذا كانت حفلة عابرة ستكفي لتبدد تلك الغيوم الداكنة التي تحيط بها دائمًا.
•••
“هل كان آركانوف مرتبطًا بشخصية سياسية من قبل، أم أن له تاريخًا خاصًا؟ كيف تمكن من الصعود إلى قمة السلطة بهذا الشكل؟ إنه أمر لم يحققه أحد منذ أيام سيميون موغيليفيتش، والأكثر غرابة أن الرجل ما يزال شابًا في منتصف الثلاثينيات!”
فرك الرجل العجوز رأسه بعنف، وعينيه تومضان بحالة من الهذيان.
“لا تسألني! لا تسألني! هذا الرجل… لا أستطيع أن أتصور كيف وصل إلى هذا، ولا كيف يمكن أن يكون ذلك! ربما كان الحظ هو من سانده!”
“كلا، الحظ ليس كل شيء، العقل هو من يوجهه. كأنه يتنبأ بكل ما قد يحدث له، كما لو أن كل خطوة يخطوها محسوبة بدقة. حتى أن البعض يخشى أن يتحركوا في وجوده.”
<الطبيب الذي تحول إلى سيد الجريمة>
فالنتين أندرييفيتش آركانوف، الرجل الذي وُلد ليكون قائداً، لم يبدأ حياته مجرماً. بل كان طبيباً عسكرياً في القوات المسلحة الروسية. خدمته في خطوط المعركة الأمامية جعلته شاهداً على الموت والفوضى، لكنه لم يكن مجرد طبيب، كان يُعرف بذكائه الشديد، سرعته في اتخاذ القرارات، وقدرته على إدارة الأزمات.
رغم إحاطته بالمآسي، لم تكن حياته العسكرية السبب الوحيد لتحوله. بل جاءت الصدمة الأكبر عندما تم توريطه ظلماً في قضية فساد عسكري.
أُلقيت عليه التهم ليكون كبش فداء لضباط أعلى منه رتبة. خسر كل شيء؛ سمعته، مهنته، وحتى أسرته التي نبذته. وجد نفسه وحيداً في عالم لا يرحم، مملوءاً بالغضب والرغبة في الانتقام من النظام الفاسد الذي أطاح به.
بدأ فالنتين مسيرته الإجرامية في أزقة موسكو المظلمة كجزء من “اللصوص في القانون” (فوري)، وهي جماعة إجرامية تسيطر على التنظيمات السفلى في روسيا. استخدم ذكاءه الطبي وخبراته العسكرية ليصبح مفيداً للعصابة. أدار عمليات جراحية سرية لأفرادها، وعالجهم من إصابات معارك الشوارع. بمرور الوقت، لم يعد مجرد مساعد، بل بدأ في صعود السلم الإجرامي.
لم يكتفِ بالبقاء كجزء من هذا العالم. كان طموحه يطغى على أي ولاء، وبدأ يخطط للإطاحة بالرئيس الذي يدير “اللصوص في القانون”. كانت خطته محكمة، تسلل إلى دائرة الرئيس، اكتسب ثقته، ثم قتله في عملية دموية صدمت الجميع. فور أن جلس على العرش، بدأ بتطهير العصابة من كل من عارضه أو شكك في سلطته، مستخدماً أسلوباً يمزج بين الوحشية والدهاء.
بعد أن بسط سيطرته على “اللصوص في القانون”، بدأ فالنتين يوسع نفوذه ليشمل قادة المافيا الروسية. ركز أولاً على أكبر قطاعات الجريمة.
غسيل الأموال، سيطر على شبكات مصرفية غير قانونية، مما جعله يتحكم في تدفق الأموال السوداء.
أما تجارة الأسلحة والمخدرات، عقد صفقات مباشرة مع المافيا الدولية، مما زاد من قوته وشبكة علاقاته.
وبالنسبة لتهريب البشر فقد أسس عمليات واسعة لنقل البشر عبر الحدود، مستغلاً المهاجرين والمجتمعات الضعيفة.
لزيادة تأثيره، حرّر السجناء من أكثر السجون الروسية حراسة، وحوّلهم إلى عبيد في شبكته الإجرامية. استخدمهم كأداة للقوة، وخلق جيشاً لا يتوقف عن العمل من أجله.
لم تكن السيطرة على موسكو وسانت بطرسبرغ أمراً سهلاً. هذه المدن كانت تضم مجموعات إجرامية متفرقة، ولكل منها قائدها الخاص. واجه فالنتين هذا التحدي بوحشية لا مثيل لها.
في موسكو شن حملة إرهاب على العصابات المحلية، مستخدماً فريقاً من القتلة المحترفين الذين دمروا معاقل المنافسين. من نجا منهم لم يكن أمامه خيار سوى الانضمام إليه.
في سانت بطرسبرغ هنا استخدم تكتيكاً مختلفاً، التفاوض المزيف والوعود بالمشاركة في الأرباح. وعندما استدرجهم إلى طاولته، كشف عن قوته الحقيقية وأجبرهم على الولاء.
بمجرد أن أصبحت الجريمة المنظمة تحت سيطرته، توجه فالنتين إلى هدفه التالي وهو النظام السياسي الفاسد.
بدأ من الابتزاز جمع ملفات دقيقة عن فساد السياسيين والمسؤولين، بما في ذلك أدلة قد تؤدي إلى الإعدام.
ما أفاده أيضاً هو الصداقة المزيفة حيث قدم نفسه كحليف لهم، مستخدماً وعوداً بالحماية والتمويل. ثم توجه إلى الترهيب ، فعندما يرفض أحد التعاون، كان فالنتين يُظهر قوته بتهديدات خفية، مثل إرسال هدايا تحمل رسائل دموية.
شيئاً فشيئاً، أصبح فالنتين الشخصية التي لا يستطيع أحد تجاهلها. الأموال التي جمعها من السياسيين استخدمها لتعزيز إمبراطوريته، مما جعله الرجل الأكثر سلطة في روسيا.
وصل فالنتين أندرييفيتش آركانوف إلى القمه حيث لقبوه بسيد الجريمة والجماعات ” آركانوف “
مع نهاية رحلته للصعود، كان فالنتين قد سيطر بالكامل على كل من “اللصوص في القانون” والمافيا الروسية. وضع نائباً على رأس “اللصوص”، والمافيا الروسية، وكل فرع سيطر عليه كان يحكمه رجل وجميعهم يخضعون له، أبقى القرار النهائي بين يديه. أصبحت كلمته قانوناً في عالم الجريمة، ورأى الجميع فيه سيداً لا يمكن تحديه.
بالإجبار والهيمنة، أصبح فالنتين ليس فقط رجلاً يسيطر على عالم الجريمة، بل قوة تتجاوز القوانين والسياسة.
•••
في غرفة معزوله عن العالم، كان فالنتين آركانوف واقفاً أمام طاولة العمليات، عيونه الزرقاء الثاقبة تلمع في الضوء الباهت.
في سن الخامسة والثلاثين، كان يبدو في قمة نضوجه، جسمه ممشوق ومثير للإعجاب، عضلاته التي اكتسبها طبيعياً من ممارسته المنتظمة للرياضة تُحيط بجسده بشكل متناسق، في كل حركة منه كان يبدو كأنه يجسد القوة نفسها.
شعره الأشقر المائل إلى الذهبي كان يتناثر بخفة حول جبينه، ورموشه الشقراء الطويلة كانت تضفي على عينيه لمسة من الجمال النادر، شيء لا يتناسب أبداً مع شخصيته المظلمة.
وكان وجهه مشدوداً وشفتيه ورديه قليلاً، مما جعل جماله بارزاً رغم المكان الذي يتواجد فيه، وكأنه لا يتناسب مع كونه زعيم الجريمة الأول في روسيا.
كان يرتدي بنطالاً أسود ضيقاً يلتف حول وركيه بشكل يناسب جسده الممشوق، وقميصاً أبيض أنيقاً يبرز ملامح صدره القوي.
وعلى يديه كان يرتدي قفازات طبية سوداء، يخلعها بحذر بين فترة وأخرى وهو يلتفت إلى الجسد الذي أمامه. لم يكن هناك أي دافع مادي وراء عمله، بل كان يفعله لمجرد الاستمتاع بذلك الشعور بالهيمنة. كانت يديه تتحركان بدقة متناهية بين الأدوات الجراحية.
“هذا جيد، يبدو إنه حقاً لم يكن يعاني من أي أمراض….”
همس آركانوف لنفسه وهو ينظر إلى الجسد أمامه، وكانت عينيه تعكسان تعبيراً غريباً، كأنما كان يراقب ضحيته كما يراقب لوح شطرنج.
“هل يشعر بالألم؟ لا أظن… لا شيء هنا سوى الجسد. مجرد جثة بيضاء بحاجة لترتيب… كلا ليس هناك حاجة للترتيب”
قال لنفسه بصوت خافت وهو يرفع يديه بين الأدوات الجراحية. كان حديثه الداخلي يقترب من الحافة، تلك الحافة التي لا يستطيع أحد غيره أن يفهمها.
كان يلتقط الأعضاء المستخرجة بحذر وبدقة، وكل جزء كان يلتقطه وكأنه ينقش به قطعة فنية جديدة.
كان يمرر يديه على الأنسجة بأدب، كما لو كان يتأكد من جودة كل قطعة، وكان يبتسم برقة في هذه اللحظات. ولكن ابتسامته كانت لا تشبه ابتسامة أي شخص عادي، بل كانت ابتسامة شخص يتمتع بالسلطة على الحياة والموت.
“ما الذي يدفعني للقيام بهذا؟”
سأل نفسه بصوت منخفض وهو يقترب من الجثة.
“ربما هي مجرد متعه؟… لكن في النهاية، هي سيطرة… سيطرة على كل شيء.”
تحركت يديه بشكل ميكانيكي، كانت يديه الماهرة تعمل بلا توقف كما لو أنها آلة. كل حركة، كل لمسة، كانت مدروسة بعناية.
“الحياة ليست أكثر من سلسلة من الأوامر. أنا من يصدر الأوامر هنا.”
قال وهو يتنهد برضا، مع أنه كان يدرك تماماً حجم ما يعنيه هذا الكلام. في عالمه الخاص، لم يكن يوجد مكان للضعفاء أو للمشاعر.
في تلك اللحظة، رفع آركانوف رأسه ليلتقي بمرآة الجدار المقابل. نظر إلى انعكاسه، عيون زرقاء، شعر أشقر مشدود خلف أذنه، عضلات بارزة، وشفاه وردية بعض الشيء، جسد يشع جمالاً ووسامة رغم كون صاحبه سيداً للجريمة.
“أحياناً أظن أن الناس لا يرونني كما أنا… يحكمون عليّ فقط من خلال الأفعال التي أرتكبها.”
قال لنفسه وهو يحدق في صورته، شعور غريب من التفرد يعتمر قلبه.
“لكن في النهاية، الجميع يركع أمامي، أليس كذلك؟”
كانت يديه تتوقف لحظة عن العمل، ينظر أمامه بعيون تغطيها غيوم من التفكير. فجأة، ابتسم ابتسامة ناعمة، مبتسماً لنفسه.
“الحياة مجرد لعبة. وأنا من يديرها.”
رفع العضو المستخرج بعناية، ثم نظر إليه للحظة وكأنما يتحقق من جودته، قبل أن يضعه في صندوق صغير داخل علبة خاصة، كانت تتمتع بتكنولوجيا متطورة للحفاظ على درجة حرارة مثالية، حتى لا يتعرض لأي تلف. كانت الأصوات الوحيدة التي تسمع في الغرفة هي أنفاسه المنتظمة، وصوت الأدوات الطبية التي كان يضعها بجانب الجسد بعد استخدامها.
“يجب أن تظل الأنسجة سليمة.”
همس لنفسه وهو يضع الكبد في علبة أخرى ، مراقباً بدقة كيف تغلف الثلوج العضو وتحفظه من التحلل. كان لديه مجموعة من العلب، كل واحدة مخصصة لعضو معين، وعليه أن يكون دقيقاً في فرزها.
عندما أكمل تنظيم الأعضاء داخل العلب وتأكد من سلامتها، وقف قليلاً ليأخذ نفساً عميقاً، ثم نظر إلى الجثة الممدة أمامه.
” اعتقد أن هذا كان… ممتعاً قليلاً؟”
خلع فالنتين آركانوف قفازاته بسرعه، وألقى بهما بعيداً ليطيرا في الهواء قبل أن يسقطا على الأرض.
تقدم بخطوات باردة، وكأنما كان يمشي على سجادة من صمت. لم يكن هناك سوى صوت نقر حذائه الأسود الذي يلامس الأرض، يعلن عن هيبته في المكان الخالي من أي صوت آخر.
وصل إلى المغسلة، فتح صنبور الماء، وراح يغسل يديه بحركات آلية. الماء البارد يتدفق من أنامله، يزيل آثار العملية التي نفذها لتوّه، لكنه لم يشعر بأي نوع من الراحة.
“لم يكن الأمر ممتعاً…”
تمتم لنفسه، وهو يمعن النظر في الماء الذي ينساب من بين أصابعه.
ثم، ببطء، رفع يديه ليمسح بهما شعره الأشقر الذي أصبح يلتصق قليلاً بماء المغسلة. نظر إلى نفسه في المرآة التي عكست ملامحه الهادئة، تلك العيون الزرقاء التي لا تظهر أي تعبير، والشفتين الوردية التي بدت وكأنها تتناقض تماماً مع عالمه المظلم.
“كل شيء يصبح أكثر مللاً…”
قالها بصوت منخفض، وكأنما يراجع فكرته، ثم أكمل بنبرة أكثر حدة
“ربما أنا بحاجة إلى شيء جديد.”
ابتسم ابتسامة غير مرئية، غير مكترث بما حوله، كما لو أن العالم بأسره كان مجرد لعبة في يديه.
“أجل، شيء جديد… لعبة جديدة أستطيع الاستمتاع بها.”
بخطوات ثابتة، غادر الغرفة بهدوء، مغلقاً الباب خلفه بحركة باردة، دون أن يلتفت خلفه، تاركاً كل شيء في مكانه.
•••
“إلى أين سنذهب اليوم؟ لم أسألكِ، فقط أردت الخروج عن المألوف في حياتي.”
بينما كانت يكاترينا تضع الماكياج بعناية على وجهها، كانت ناديا تقف بجانبها أمام المرآة، مبتسمة وهي تلمس خصلات شعر يكاترينا السوداء وتعدلها بحركات دقيقة، يداها تتنقلان بين خيوط شعرها كأنها فنانة تنحت تمثالًا من الجمال.
“هناك حفل سيُقام في النادي الليلي ‘أوكتافا’.”
“نادي ليلي؟ وكيف سيقبلون القاصرين؟ أنتِ تعلمين أننا لم نبلغ الثامنة عشرة بعد.”
ابتسمت ناديا بسخرية خفيفة،
“من يهتم عندما تكون لي طرقي الخاصة؟”
ضحكت ناديا بخفة، بينما عرفت يكاترينا أن ناديا تمتلك من الأسرار أكثر مما كانت تتخيل. لكن هذه الإجابة زادت فضولها، فهي تعرف جيدًا أن ناديا قادرة على كل شيء.
توجهت ناديا إلى خزانة يكاترينا وبدأت تختار بعناية فستانًا يتناسب مع أجواء الحفل. اختارت فستانًا أسود ذا قصة ضيقة تظهر منحنيات جسدها بشكل مثير، لكن مع لمسة من الأناقة.
الفستان كان ذا أكمام شفافة تنتهي بحواف دانتيلية، بينما الجزء السفلي كان مفتوحًا قليلاً، ليظهر ساقيها في ضوء خافت. كانت التفاصيل اللامعة تضيف بريقًا للفستان، تمامًا كلمعان الحياة الليلية التي ستهيم فيها.
ارتدت يكاترينا الفستان بعناية، ثم وقفت أمام المرآة تنظر إلى نفسها. كانت عيونها تتأمل كل زاوية من ملامحها، تفكر، وتحاول أن تضع لنفسها تفسيرًا لما تراه.
“أبدو… كعاهرة؟”
سألت بلهجة تملؤها الحيرة والشك.
ناديا نظرت إليها بتقدير قبل أن تبتسم وتقول،
“على العكس تمامًا. تبدين في غاية الجمال والأناقة. هذا الفستان… يناسبك تمامًا.”
وقفت يكاترينا أمام المرآة، تحدق في انعكاسها بصمت. اقتربت ناديا، تراقبها بابتسامة ساخرة.
“يكاترينا… ما الذي تفعلينه؟”
قالت وهي تعقد ذراعيها،
“تحدقين في خصرك وكأنكِ امرأة حامل تتفقد بطنها.”
التفتت يكاترينا إليها بانزعاج، عاقدة حاجبيها وهي تتنهد.
“لا أعلم، لكن لدي شعور سيئ بشأن الحفل الليلة… لا أريد أن أتسبب في مشكلة.”
خطت ناديا بخطوات واثقة حتى وقفت خلفها، وضعت يديها على كتفيها برفق، وقالت بصوت هادئ ومطمئن
“ستذهبين إلى الحفل كـ يكاترينا، فتاة عادية. لا تفكري بالعرافة التي بداخلكِ، فقط استمتعي، حسناً؟”
صمتت يكاترينا قليلاً، ثم أومأت برأسها بتردد. كانت تعرف أن حدسها نادرًا ما يخطئ، لكنها حاولت إقناع نفسها أن هذه المرة قد تكون مجرد مبالغة منها.
أنا ما زلت صغيرة،. بحاجة إلى لحظات من الترفيه والمرح، وربما هذه فرصتي.
بأنفاس متثاقلة، التقطت حقيبتها السوداء الصغيرة المزينة بحزام ذهبي رفيع، وتبعت ناديا إلى الخارج. كانت ناديا تنتظر بجوار سيارتها الفاخرة ذات اللون الفضي، والتي تعكس ظروفها المادية الجيدة. فتحت ناديا الباب ليكاترينا بإيماءة مشجعة، ثم صعدت خلف عجلة القيادة.
أدارت المحرك بصوت ناعم، واتجهتا نحو وجهتهما. طوال الطريق، كان صوت الموسيقى ينبعث خافتًا من المذياع، بينما ظلت يكاترينا تحدق من النافذة، تتأمل أضواء المدينة التي تزداد وهجًا كلما اقتربتا من النادي.
عند الوصول، أوقف السائق السيارة أمام بوابة النادي الليلي “أوكتافا” حيث اصطفت السيارات الفارهة، وامتدت طوابير طويلة من الأشخاص الذين ينتظرون دورهم للدخول. لكن ناديا تجاهلت كل ذلك، وسارت بثقة نحو الحارس، الذي أفسح لهما الطريق دون تردد.
دخلتا النادي، وغمرتهما الأضواء المتغيرة والموسيقى الصاخبة. كان الجو مشحونًا بالمرح والضوضاء. في الزوايا، جلس البعض يحتسون المشروبات، بينما اندمج آخرون في الرقص على الإيقاع السريع. كان الجميع يحاولون نسيان العالم الخارجي والاستمتاع بكل ما لديهم من طاقة.
لكن يكاترينا شعرت بالغربة وسط هذا الحشد. هذا ليس عالمي، فكرت وهي تمسح بعينيها المكان. جلست مع ناديا على طاولة خاصة بالقرب من الشرفة المطلة على ساحة الرقص.
نظرت يكاترينا إلى صديقتها بتساؤل
“كيف تمكنتِ من الحصول على هذه الطاولة؟ المكان مزدحم للغاية!”
أجابت ناديا بأبتسامة غامضة، وهي ترفع كأسها بهدوء
“سر المهنة، يا عزيزتي. عليكِ فقط أن تثقي بي.”
تنهدت يكاترينا ببطء، ورغم غرابتها عن المكان، حاولت أن تترك القلق خلفها وتستسلم لهذه الليلة.
” ربما عليَّ أن أجرب الاستمتاع… ولو لمرة واحدة.”
••••
كان الجو في النادي الليلي مليئًا بالحيوية والضجيج حين ظهرت مجموعة من الشباب فجأة، ثلاثة فتيان يبدون للوهلة الأولى غير عاديين. ملامحهم القوية ووشومهم التي تغطي أذرعهم وأعناقهم، والخواتم المعدنية التي تزين أصابع أحدهم، كانت تثير الفضول وتجعلهم يبدون كأنهم ينتمون إلى عالم آخر مختلف عن الحضور العاديين.
نهضت ناديا بحماسة وهي تبتسم، تعانق كل واحد منهم كما لو أنهم أصدقاء قدامى. وقفت يكاترينا بدورها، تحاول التماشي مع الوضع، فاكتفت بأبتسامة خفيفة وصافحتهم الواحد تلو الآخر. كانت تحافظ على لباقتها، لكنها شعرت ببعض التوتر من نظراتهم.
جلس الثلاثة الشباب معهم على الطاولة دون تردد. بدأوا يطلبون المشروبات الكحولية بينما اكتفت يكاترينا بعصير التفاح، الذي بدا أشبه بالمشروبات المسكرة في شكله فقط، لتجنب أي تعليق.
قطع أحدهم الحديث، كان شابًا ذا شعر أسود طويل قليلاً، تغطي الوشوم رقبته بأشكال معقدة، وعيناه تلمعان بشيء غير مريح.
“هذه صديقتكِ يكاترينا التي حدثتني عنها؟”
ضحكت ناديا بخفة، تلقي نظرة سريعة على يكاترينا قبل أن تجيب
“بالطبع، إنها هي، صديقتي التي لا أكف عن الحديث عنها.”
ألقى الشاب نظرة سريعة على يكاترينا، ليست نظرة إعجاب بل أشبه بتقييم. عيناه كانتا تفحصانها كما لو كان يزن شيئًا ما، ليس رغبة وإنما نية خفية بدت وكأنها استغلالية. لم يستمر طويلاً قبل أن يعيد تركيزه إلى ناديا، يتحدث معها بحديث سريع غير واضح.
________________
Instagram| ohyrita
Chapters
Comments
- 2 - العرافة الحقيقية 2025-05-14
- 1 - العرافة الحقيقية 2025-05-12
- 0 - المخادعة الصغيرة 2025-05-12
التعليقات لهذا الفصل " 1"