في البداية، ظنّت أنه مجرد وهمٍ سمعي.
لذا ابتسمت بمرارة و أكملت سيرها.
و لكن …
“داليا!”
حين سمعت صوتًا ينادي اسمها مرة أخرى ، التفتت داليا بجسدها.
و بينما كانت تتلفت يمنة ويسرة باحثة عن مصدر الصوت، وقع بصرها على كلايتون، الذي كان يركض نحوها ممتطيًا حصانه.
“كلايتون —!”
وما إن رأت الشخص الذي كانت تتوق لرؤيته حتى انطلقت نحوه غريزيًا بكل جوارحها. غير أن الفارس الذي كان يمسك بها شدّ وثاقها مرة أخرى.
“لقد فات الأوان ، داليا” ،
قالها أليكسيون ، و هو يقترب منها و يتمتم.
نعم ، لقد تأخر كلايتون.
القارب قد أبحر بالفعل ، و هم وصلوا لتوهم.
لم يكن أمامه سوى الوقوف على الرصيف عاجزًا، لا يستطيع التقدّم ولا التراجع، فقط يضرب الأرض بقدميه حنقًا.
“ولكن، كيف استطاع اللحاق بنا بهذه السرعة؟”
ضاقَت عينا ولي العهد وهو يحدّق بكلايتون، الذي كان ينظر إلى داليا.
بما أن خطتهم بإستخدام النهر للوصول إلى الميناء قد كُشفت ، فلا بد من تعديل الخطة.
كان عليه أن يفكر في طريقة لخداعهم، مثل اتخاذ مسارات أكثر تعقيدًا، أو تقسيم الأفراد لإحداث تشويش، حتى وإن كان الأمر محفوفًا بالمخاطر.
لم يكن يتوقع أن يُلاحَق بهذه السرعة، ولكن ما حدث قد حدث. على الأقل، تمكنوا من الهرب بفارق ضئيل، ويمكن التفكير في ما بعده لاحقًا.
“زيدوا السرعة”
“نعم، سيدي”
و بأمرٍ قصير من ولي العهد ، بدأ القارب يعبر النهر بسرعة أكبر.
كانت داليا تراقب اليابسة و هي تبتعد أكثر فأكثر، وعضّت على شفتيها.
بدأ إنذار داخلي يدق في عقلها: إن استمرت على هذا النحو، فلن يكون هناك رجوع. كان عليها أن تفعل أي شيء ممكن.
نظرت حولها.
قريبًا منها ، كان هناك حاجز السفينة (الدرابزين).
سأقفز في الماء.
رغم أن الماء بارد، إلا أن السفينة لم تبتعد كثيرًا بعد.
ربما يمكنها السباحة حتى الشاطئ.
بدأت داليا تراقب الفارس الذي يمسك بذراعها بحذر.
ويبدو أنه مع ابتعادهم عن اليابسة، بدأ يفقد يقظته، إذ أن قبضته بدأت تتراخى.
كانت لديها فرصة واحدة فقط.
ابتلعت ريقها الجاف، وأخذت تراقب اللحظة المناسبة.
وعندما شتّت الفارس نظره للحظة، انتزعت ذراعها منه بكل قوتها.
ثم بدأت تجري نحو الحاجز من دون أن تلتفت.
قليلاً فقط بعد …
إذا قفزت من هذا القارب ، فستستطيع الوصول إلى كلايتون.
جمعت كل ما تبقى لديها من قوة و ركضت بكل ما أوتيت.
و أخيرًا ، عندما كانت يدها على وشك لمس الحاجز …
“آه!”
شخصٌ ما جذب شعر داليا بقوة. ترنحت داليا من الألم الذي نتج عن الإمساك العنيف بشعرها ، ثم رفعت رأسها.
“لا يجوز لكِ فعل ذلك، داليا.”
من أمسك بها كان ولي العهد.
تلفظ أليكسيون الكلمات بإبتسامة ساخرة على شفتيه.
“هذا خطير ، أليس كذلك؟”
كان ينظر إليها بنظرة متعجرفة، وكأنه كان يتوقع بدرجة ما أنها ستقفز.
شدّ أليكسيون قبضته على شعر داليا بقوة أكبر، فانفجر ألم حاد كأن فروة رأسها تتمزق.
عبست داليا وأطلقت أنينًا خافتًا.
اقترب ولي العهد و همس بتحذير هادئ في أذن داليا، وفي ذات الوقت لف ذراعه حول خصرها.
“يجب أن تظلي هادئة. إن حاولتِ إثارة أعصابي هنا، فلن تحصلي على أي شيء جيد”
“اتركني!”
لكن داليا لم تهدأ كما طُلب منها، مما جعل ولي العهد ينقر لسانه مستاءً، وقبل أن يتراجع بقليل…
مرّ سهمٌ حاد عبر الهواء، وكاد يصيبه، ثم …
“آاااه!”
صرخ ولي العهد من الألم، وأسقط شعر داليا من يده.
ثم بدأ يصدر أنينًا فظيعًا وهو يغطي عينه.
“عيني … عيني …!”
غطى عينه اليسرى بتعبير من العذاب، والدم الأحمر ينزف بغزارة من بين أصابعه.
نظرت داليا بسرعة نحو مصدر السهم وسط هذا الموقف المفاجئ، فرأت كلايتون عند الرصيف، لا يزال ممسكًا بالقوس في وضعية إطلاق السهم.
“سموك!”
بدأ الفرسان الذين كانوا على السفينة بالارتباك بسبب إصابة ولي العهد، ولم تضيع داليا هذه الفرصة، فقفزت مباشرة إلى فوق الحاجز دون تردد.
“أمسكوها حالاً!”
صرخ ولي العهد وهو يغطي عينه، بعدما رأى داليا تهرب، لكنه كان قد تأخر بالفعل. كانت داليا أسرع هذه المرة، فقفزت فوق الحاجز وألقت بنفسها في النهر.
بلاش-!
ارتطم جسدها بالماء البارد، وغطاها بالكامل في لحظة.
دوى صوت صفير في أذنيها بينما اخترقت برودة الماء التي تشبه الجليد جسدها كالإبر.
رغم أن الزهور كانت تتفتح في فصل الربيع، إلا أن مياه النهر كانت باردة كالجليد. لكنها كانت تتوقع ذلك ، لذا لم تكن هذه المشكلة.
لكن المشكلة كانت …
“جسدي … ثقيل للغاية!”
السبب في ثقل جسدها كان أن الفستان الذي ترتديه امتص الماء وأصبح ثقيلاً جِدًّا.
وفوق ذلك، كان عمق الماء أعمق مما توقعت، فكلما حاولت الصعود إلى الأعلى لم تجد له نهاية.
نفسي …!
بدأ نفسها ينقطع.
كلما فتحت فمها، تدفقت المياه إلى داخل رئتيها بلا توقف، مما جعل التنفس أمرًا عسيرًا.
ومع نفاد قوتها للصعود إلى السطح، بدأ جسد داليا يهبط ببطء نحو الأسفل بلا حول ولا قوة.
وحين خرج آخر نفس كانت تحتفظ به من بين شفتيها، تصاعدت فقاعات الهواء إلى وجهها ثم اختفت.
“هل سأموت هكذا؟” فكّرت، وبدأ وعيها يتلاشى شيئًا فشيئًا.
و في تلك اللحظة ، شقّ شخصٌ ما الماء مقتربًا منها.
كلايتون …؟
اقترب منها كلايتون بسرعة ، أمسك يدها وسحبها نحوه، ثم ضمّها إلى صدره. شعرت بجسدها يرتفع تدريجيًا نحو الأعلى، وفي ذات اللحظة، لامست يده القوية خد داليا.
ثم …
غطت شفتيها الباردتين شفتاه الدافئتان.
الهواء الدافئ الذي تسلل عبر شفتيها المنفرجتين قليلاً حرر مجرى تنفّسها المختنق.
ومع ذلك الإحساس الغريب الذي اخترق فمها ، استعادت داليا وعيها ببطء و فتحت عينيها بهدوء.
ورغم أن رؤيتها كانت ضبابية، إلا أن ملامح وجهه كانت واضحة وضوح الشمس.
وكأنها تمسكت بحبل نجاة نزل من السماء، أغمضت عينيها مجددًا و أسلمت جسدها بين يديه.
وسط سكون بدا و كأن الزمن قد توقف فيه ،
كان الاثنان يتقاسمان أنفاسهما معًا.
وكأنهما وحدهما في هذا العالم.
* * *
خرج كلايتون من الماء و هو يحمل بين ذراعيه داليا، التي كان جسدها مرتخيًا تمامًا.
عند رؤية الاثنين وقد ابتلّا بالكامل، اقترب كاديسون بسرعة.
نظر إليهما بتوتر و سأل بصوت قلق:
“سيدي الدوق! هل أنت بخير؟ و سيدتي…؟!”
من دون أن يرد على قلق كاديسون، وضع كلايتون داليا على الأرض بلطف.
و سرعان ما بدأت تسعل بقوة و تقيأت الماء من رئتيها.
“أين أنا …؟” ، قالت داليا بينما عادت لها أنفاسها ، و كانت عيناها تبحثان في المكان محاولةً فهم ما يجري.
فما إن رآها تستعيد وعيها ، حتى سحبها كلايتون إلى حضنه و احتضنها بشدة.
“… اه”
تنهدت داليا براحة عندما أدركت أخيرًا أنها نجحت في الهروب من ولي العهد. ثم بادلت العناق مع كلايتون ، الذي كان يحتضنها.
“شكرًا لك ، كلايتون …”
لأنك أنقذتني.
و لأنك آمنت بي.
لم تفهم ما الذي كان يخيفه إلى هذا الحد، لكن بدا أن يديه، اللتين تحتضنانها، ترتجفان بخفة. وربما في محاولة لطمأنته، بدأت داليا تربّت على ظهره بهدوء لفترة طويلة.
وبينما كان كاديسون يقف بجانبهما وهو يتنفس بإرتياح ، قال: “قارب ولي العهد ابتعد كثيرًا بالفعل”
عند سماع هذا ، رفع كلايتون رأسه ، فرأى القارب الذي تحول إلى نقطة صغيرة في الأفق. لكن لم يعد يهم ما إذا كان ولي العهد قد رحل أو لا.
فـ داليا كانت إلى جانبه ، وهذا كل ما كان يهمه.
خلع كلايتون الرداء الذي كان قد تركه قبل أن يدخل الماء، وألبسه لداليا.
“هيا، لنعد الآن.”
أومأت داليا برأسها موافقة.
لكن في تلك اللحظة، ظهر فارس يقترب منهما على ظهر حصان من بعيد.
كان ذلك الفارس هو من أمره كلايتون سابقًا بأخذ داميان إلى الطبيب، قبل أن ينطلق لملاحقة ولي العهد.
لماذا هو هنا؟
كان من المفترض أن يكون الآن مع داميان لدى الطبيب.
بدا شعورٌ سيء يتسلل إلى كلايتون، فبدأت خطواته تتسارع.
“سيدي الدوق …؟”
حتى داليا لاحظت تغير تعابير وجهه، فنهضت معه ونظرت إلى وجه الفارس الذي كان يقترب.
حاول كلايتون أن يتجاهل الإحساس السيء الذي يغلف الموقف، وبدأ يتحدث: “ما الأمر؟ ألم أطلب منك أن تأخذ الطفل إلى الطبيب؟”
سأل كلايتون بصوت منخفض بينما كان يراقب الفارس الذي يلهث وهو يلتقط أنفاسه.
مسح الفارس عرقه المتساقط من ذقنه بظاهر يده ثم أجاب:
“بناءً على أوامر سموك ، أخذت السيد داميان إلى الطبيب فورًا. و لكن. .. حالته كانت أسوأ مما كنا نظن، فجئت مباشرة لإبلاغك”
عندما سمعت داليا كلام الفارس، شحب وجهها على الفور.
“أسوأ مما كنتم تظنون؟ ماذا تقصد بذلك؟”
“أ-أعني …”
نظر الفارس إليهما بتردد، وكأنه غير قادر على البوح بالحقيقة، ثم تابع: “أعتقد … أنه من الأفضل أن تتهيأوا نفسيًا.”
التعليقات لهذا الفصل "124"