عندما سمع الطفل قوله “سأحميك”، ظل يحدّق فيه بصمت ، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة. رغم أن الألم أنهكه و سلبه طاقته ، إلا أن نوره الطفولي لم يختفِ.
و رغم أن الطفل لم ينطق بأي كلمة ، ربما لأنه لم يعد يملك القوة للتحدث ، إلا أن نظراته بدت و كأنها تقول “شكرًا لك” و توجه له امتنانًا صامتًا.
لسببٍ ما ، شعر كلايتون بوخز في قلبه ، فإبتسم للطفل بإبتسامة خفيفة. كان يرغب في حمايته مهما كلف الأمر ، حتى و هو يعاني من الألم ، لأنه بقي نقيًا رغم كل شيء.
و بعد أن مرّر يده على رأس الطفل للمرة الأخيرة ، سلّمه إلى الفارس الذي كان يقف بجانبه.
“خذه إلى الطبيب فورًا. إذا حدث أي شيء ، أبلغني على الفور”
“نعم ، مفهوم”
أخذ الفارس الطفل و امتطى حصانه و غادر المكان بأمره.
و في تلك الأثناء ، كان كاديسون يتفقد المخبأ و اقترب مسرعًا.
“يا دوق!”
بدا أن كاديسون اكتشف شيئًا ، و كان صوته يحمل نبرة استعجال.
“يبدو أنهم غادروا المكان منذ وقتٍ قريب، لأن الجمر لا يزال مشتعلًا في نار المعسكر بالخارج. وهناك آثار عجلات عربة على الأرض، إذا تحركنا الآن فقد نتمكن من اللحاق بهم!”
لحسن الحظ ، لم يتأخروا كثيرًا.
تنفس كلايتون بعمق و امتطى حصانه خارج المخبأ ، ثم انطلق بأقصى سرعة نحو الاتجاه الذي سلكوه.
“داليا …”
عندما رأى أن داميان تُرك وحيدًا في المكان ، تأكد من أمرٍ كان يشك فيه. لم يكن إرسال الرسالة برغبة من داليا.
“اصبري قليلًا فقط ، داليا”
سآتي لإنقاذكِ قريبًا.
شدّ على لجام حصانه بقوة و هو ينطلق.
* * *
في هذه الأثناء ، كانت العربة التي تقلّ داليا و ولي العهد تتابع طريقها بسرعة دون أن تتوقف.
كانت داليا في حالة صدمة من احتمال موت داميان ، غير مدركة لما يجري حولها، حتى جعلها اهتزاز العربة تستفيق من شرودها.
لا يمكنني البقاء مكتوفة الأيدي هكذا.
أدارت رأسها نحو النافذة، تنظر إلى المنظر الذي كان يمرّ بسرعة. القفز من عربة تسير بهذه السرعة لم يكن خيارًا واقعيًا؛ فذلك كان يعني الموت أو إصابة خطيرة على الأقل.
لكن هل ستكون هناك فرصة للهرب؟ من شدة توترها بدأت داليا تقضم أظافرها. حتى هذه اللحظات التي تمر بلا جدوى ، كان داميان يقاسي فيها الألم وحده.
منذ اللحظة التي أدركت فيها أنه تناول السم ، شعرت و كأن كل ثانية تمر هي عذاب داخل الجحيم.
و بينما كانت تشعر بأن قلبها يحترق ، بدأت العربة تخفف من سرعتها تدريجيًا ، و كأنهم اقتربوا من وجهتهم.
نظرت داليا من النافذة محاولة معرفة المكان.
و ما رأته أمامها كان نهرًا.
كانت إيستر دولة جزيرية صغيرة محاطة بالبحر. وكان هناك نهر عظيم يعبر تلك الجزيرة، وينتهي مجراه بالاتصال مع البحر.
هل يعقل أنه ينوي ركوب قارب عبر النهر للوصول إلى الميناء؟
وكما توقعت، لم تكن مخطئة، إذ لم يكن بعيدًا عنهم قارب واحد، لا صغير ولا كبير، قد ظهر في الأفق.
كان من الواضح أنه، بدلاً من المخاطرة بالسفر عبر اليابسة، اختار الإبحار في النهر للوصول إلى الميناء، ومن هناك إلى الإمبراطورية.
عضّت داليا شفتيها و قد أدركت خطة ولي العهد.
لم يخطر ببالها أنه سيلجأ إلى هذا الخيار ، إذ إن استخدام النهر للتنقل إلى الميناء كان شائعًا فقط في نقل البضائع.
إذا ركبوا ذلك القارب ، سيكون من الصعب على كلايتون تتبعهم …
فلا يمكن خوض معركة وسط البحر وهم على متن القارب، وحتى إن لاحقهم كلايتون بالحظ، فلو وصل قارب ولي العهد إلى الإمبراطورية أولًا، فلن يكون بوسعه فعل شيء.
لأن أليكسيون، بمجرد أن تطأ قدماه أرض الإمبراطورية، سيبدأ باستخدام سلطته كولي عهد دون تردد.
يجب أن أؤخّرهم قدر الإمكان.
على الأقل كي يتمكن كلايتون من إدراك أنهم فرّوا عبر النهر خارج العاصمة.
لكن كيف؟
حتى لو حاوَلَت البقاء في العربة بالقوة ، فسيضحكون بسخرية ويجبرونها على النزول بالقوة.
بينما كانت غارقة في التفكير، توقفت العربة أمام الرصيف.
وفي اللحظة ذاتها، طرق أحدهم باب العربة كما لو أنه كان بانتظار هذه اللحظة.
“لقد وصلنا.”
عندها، فتح ولي العهد الباب وهمّ بالنزول، لكن داليا فتحت فمها فجأة وقالت: “لا أفهم.”
التفت أليكسيون نحوها متفاجئًا ، وكأن نظراته تسأله: “ما الذي لا تفهمينه؟”
“لماذا تريد اصطحابي إلى الإمبراطورية؟ ما الذي تنوي فعله هناك بي؟ ما الذي تريده حقًا؟”
لم تكن تلك الأسئلة نابعة من رغبتها الحقيقية في معرفة الجواب. بل كانت مجرد حيلة لتضييع الوقت، لكنها، في الوقت ذاته، كانت تشعر بفضول حقيقي حيال خطط هذا الرجل الذي يحاول أخذها معه إلى الإمبراطورية.
عندها، هزّ ولي العهد كتفيه و أجاب ببرود:
“كما قلت سابقًا، أنا فقط أستعيد ما كان لي منذ البداية.”
تذكّرت حين قال لها سابقًا إنها كانت له منذ أن كانت في رحم أمها. كلما فكرت في ذلك، بدا لها وكأنه حديث شخص مجنون.
“هل تعتزم الزواج بي عندما نعود إلى الإمبراطورية؟”
“ولم لا؟ ليس لدي زوجة على أي حال”
وجود زوجة أو لا لم يكن هو جوهر المشكلة بالنسبة لداليا.
“هل تظن حقًا أن هذا ممكن؟”
نظرت إليه بدهشة، غير قادرة على فهم كيف يمكن له أن يبدو وكأن الأمر لا يمثل له أية مشكلة.
تنهدت داليا بعمق و أكملت:
“كما تعلم، يا سمو الأمير، أنا لا أزال رسميًا زوجة دوق ساير. حتى لو كنتَ ولي العهد، فلا يمكنك ببساطة أخذ امرأة متزوجة دون سبب قانوني واضح.”
كانت على يقين من أن أليكسيون خطط لاستغلال داميان.
في وقت أصبح فيه دم العائلة المالكة ثمينًا ، فإن عودة زوجة دوق مفقودة مع طفل من دمهم كانت لتمنحه فرصة رفع دعوى لإبطال زواجها و الزواج بها.
لكن الورقة التي كان ينوي استخدامها اختفت.
فالرجل الذي تخلّى عن داميان بيديه، ما الذي ينويه الآن بأخذها إلى الإمبراطورية؟ لم تكن تفهم.
إلا أن الرد الذي تلا من ولي العهد، كان صادمًا بما يكفي ليملأ وجهها بالذهول.
“أنتِ محقة يا داليا. لكن متى قلتُ إنني سأأخذك إلى العاصمة؟”
“ماذا تقصد …؟”
“نعم، أريدكِ أن تأتي معي إلى الإمبراطورية، لكن لا أنوي التوجه إلى العاصمة في الوقت الحالي.”
كلما تحدث أكثر، زاد شعور داليا بالتشاؤم وبدأ يرتفع من قدميها حتى سيطر على كيانها.
“لو كان لدينا داميان، لكنا تمكنا من إبطال زواجك. لكن الآن، لم يعد موجودًا. لكن، داليا…”
“…”
“لا يشترط أن يكون داميان هو الطفل الوحيد الذي يثبت العلاقة بيننا، أليس كذلك؟”
آه…
في تلك اللحظة، تذكرت أن إثبات النسب الملكي يمكن ببساطة أن يظهر بمجرد تناول دواءٍ معين.
لا يعقل … هل خطط لإنجاب طفل آخر مسبقًا؟
هل يمكن أنه قد خطّط لكل هذا بتلك الدقة و الخبث؟
عينا داليا اضطربتا بشدة واهتزتا يمينًا ويسارًا.
عندها، ابتسم أليكسيون وهو ينظر إليها.
“ولا تقلقي، داليا.”
اقترب منها وهمس في أذنها بصوت خافت:
“لدينا متسعٌ من الوقت لننجب طفلًا حقيقيًا أيضًا.”
ارتعش جسد داليا من كلمات الرجل.
“أن نُنجب طفلًا حقيقيًا”… بدا واضحًا أنه لا ينوي التخلي عنها. بدا مستعدًا لفعل أي شيء من أجل تحقيق هدفه.
تذكّرت داليا منظر أولئك الأشخاص الملقى بهم أرضًا عند مغادرتها القصر معه لأول مرة.
هذا الرجل الذي لا يتردد في دهس أرواح الآخرين كما لو كانوا حشرات، كان يُرعبها.
كانت خائفة، وشعرت بعجزٍ مطلق. هل يمكنها حقًا أن تهرب منه بقوتها وحدها؟ قبضت على طرف فستانها بقوة.
“هيا، لنذهب الآن يا داليا.”
مدّ أليكسيون يده نحوها بعدما نزل من العربة. نظرت داليا إلى يده الممدودة، ثم حوّلت نظرها إلى القارب الذي كان بإنتظارهم.
إن صعدتُ إلى ذلك القارب …
فلن ترى داميان مرة أخرى أبدًا. بمجرد أن خطرت لها هذه الفكرة، لم تستطع قدماها أن تتحركا.
“أنا…”
كانت تعلم أن رفضها للنزول من العربة لن يغيّر شيئًا.
ومع ذلك …
“…لا أستطيع الذهاب”
لم تستطع أن تصعد إلى ذلك القارب بهذه السهولة.
عندها، حدّق ولي العهد في داليا التي ترفض النزول، وتنهد بعمق، ثم أشار إلى الفارس الذي كان بانتظارهم أمام العربة.
“خُذها.”
“نعم، سيدي.”
ومع أمر ولي العهد القصير، بدأ الفارس في سحب داليا بالقوة.
“دعني!”
خطواتها نحو القارب لم تكن تختلف عن خطوات من يُقاد إلى حبل المشنقة. وبينما وضعت قدمها على متن القارب المتأرجح ، قاومت حتى النهاية، لكنها لم تفلح.
وفي النهاية، أُجبِرَت داليا على ركوب القارب.
نظرت خلفها بوجه مملوء بالأسى والندم.
لكن في السهل الشاسع خلفها، لم يكن هناك أي أثر للشخص الذي كانت تتمنى رؤيته.
“سنُبحر!”
وفور صعود الشخصين إلى القارب، دوّى صوت أحد الرجال، و بدأ القارب الذي كان راسيًا في الميناء يتحرك ببطء.
كلايتون …
كانت تراقب القارب و هو يبتعد عن اليابسة ، و في داخلها تهمس بإسم الدوق بهدوء.
“داليا!”
و آنذاك … ظهر كلايتون.
التعليقات لهذا الفصل "123"