في تلك الأثناء ، كانت داليا لا تزال في القبو ، جالسة إلى جانب داميان تحرسه.
كانت تنظر إلى ابنها القابع في أنفاسه المتقطعة ، بعينين ممتلئتين بالقلق.
“داميان …”
لحسن الحظ ، كان أليكسيون قد وفى بوعده.
فبعد أن أرسلت الرسالة ، لم تمضِ مدة طويلة حتى أعطى داميان الدواء.
لكن الحمى لم تنخفض إلا للحظات قليلة، ثم سرعان ما عادت عالية من جديد.
جربت أن تعطيه المزيد من الدواء، لكن لم يتغير شيء.
كانت مشاعرها تحترق قهرًا.
لو كان الأمر بيدها ، لحملت طفلها و ركضت باحثة عن طبيب في الحال.
لكن الواقع كان قاسيًا، فهي لم تستطع حتى الخروج من هذه الغرفة الضيقة. و شعورها بالعجز كأم ، كان يخنقها.
في تلك اللحظة، وبينما كانت غارقة في قلقها، تحركت شفتي داميان النائم بصوت خافت: “أمي …”
“نعم ، حبيبي ، أنا هنا … أمك معك”
“أين … أين سامانثا؟ قبل قليل ، سامانثا قالت إنها … ستنفخ لي فقاعات صابون …”
تفاجأت داليا من كلام داميان المفاجئ و سألته بصوت مرتبك: “سامانثا؟ سامانثا ليست هنا، يا داميان”
“لكنها قالت … لقد وعدتني …”
كانت نظرات الطفل شاردة، وكأن عينيه فقدتا تركيزهما.
ربما كان يهذي بسبب الحمى، وربما بدأ يهلوس … بدا أن حالته تزداد سوءًا.
حينها، شعرت داليا أن استمرار الوضع على حاله قد يشكل خطرًا حقيقيًا.
نهضت على الفور، وعندما همّت بطرق الباب لتنادي أحدًا…
انفتح الباب فجأة ، و ظهر رجل أمامها — أحد حرّاس ولي العهد.
لم تكد تستوعب ظهوره المفاجئ، حتى استعادت وعيها بسرعة، وتقدمت نحوه قائلة: “أرجوك، دعني أرى صاحب السمو. حالة داميان لا تتحسن إطلاقًا، أعتقد أنه بحاجة لطبيب فورًا، أرجوك دعني—”
لكن الرجل لم يدعها تُكمل، إذ أمسك بيدها وجذبها فجأة.
“لـ، لحظة فقط …!”
حاولت أن تفلت من قبضته وتسحب يدها، لكنها لم تكن نِدًا لجندي مدرب تدريبًا خاصًا.
فقوتها لم تكن تكفي لمقاومة شخص مثله.
وهكذا، جُرّت إلى الخارج رغمًا عنها.
وكان بإنتظارها هناك عربة، مما زاد من شعورها بالقلق.
حاولت أن ترفض الصعود، لكن مقاومتها كانت عبثية تمامًا.
في النهاية، أدركت أنه لا مهرب، فتقدمت نحو العربة دون مقاومة.
وما إن فتحت الباب، حتى وجدت “أليكسيون” ولي العهد في انتظارها داخل العربة.
نظر إليها بإيماءة من رأسه، وكأنه يقول لها “اصعدي”.
“…إلى أين نحن ذاهبون؟”
“لا يمكننا البقاء هنا إلى الأبد، أليس كذلك؟ لقد ودّعتي كلايتون برسالتكِ ، والآن … حان وقت العودة إلى الإمبراطورية.”
بدا على وجه داليا العبوس، متأثرةً بسلوك الرجل الذي تصرف وكأن ما قاله أمر بديهي. كانت تعلم في قرارة نفسها أن هذا اليوم سيأتي، وإن كان قد أتى أسرع مما توقعت.
في سرّها، كانت تأمل أن يأتي كلايتون قبل أن تُجبر على الرحيل إلى الإمبراطورية، لكن يبدو أن الوقت لم يسعفه.
أو ربما، صدّق مضمون الرسالة كما هو دون شك.
كانت تفكر إن كان بإمكانها أن تصمد في هذا المكان بأي طريقة ، لكنها سرعان ما أدركت أنها عاجزة ، فإستسلمت للأمر الواقع.
قالت بهدوء:
“حسنًا. سأذهب و أُحضر دميان الآن. لكنه مريض جدًا، لذا قبل أن نذهب ، نحتاج إلى طبيب …”
لكن الأمير قاطعها فجأة:
“لا. لن نأخذ الطفل”
“ما الذي تعنيه؟”
وفي اللحظة ذاتها، أُغلِق باب العربة، وانطلقت مباشرة وكأنهم كانوا بإنتظار لحظة الإغلاق.
صُدمت داليا من قوله إنهم لن يأخذوا دميان ، لكن لم يكن لديها وقت لتستوعب الأمر حتى بدأت العربة بالحركة المفاجئة ، فصرخت بفزع: “أوقف العربة فورًا! سأنزل الآن!”
ردّ عليها بهدوء مزعج:
“ابقِ مكانكِ ، الأمر خطير”
على عكس داليا التي كانت في قمة التوتر ، كان وجه أليكسيون هادئًا تمامًا، وهو ما زاد من قلقها وتوترها.
“أليكسيون!” صاحت بإسمه، متخلية عن كل مظاهر الاحترام.
ردّ بنبرة فيها بعض التململ:
“ليس لدينا وقت لنجرّ طفلاً مريضًا معنا. على أي حال، لن يعيش طويلًا.”
تجمدت ملامح داليا، وقد صدمتها كلماته الباردة، وكأن موت داميان بات أمرًا محتومًا في ذهنه.
“لن يعيش طويلًا؟ ما الذي تقصده؟”
سألت بغضب وارتباك ، لا تصدق ما تسمعه.
بأي حق يقول شيئًا كهذا؟ وما حجّته؟
أجاب، كأن الأمر لا يهمه:
“أعطيته الدواء، ولم يتحسن. هذا أفضل ما يمكننا فعله له في الوقت الراهن ، و إن لم يُجدِ نفعًا، فالعلاج لم يعد له قيمة.”
كانت على وشك الرد، لتوبّخه على استخفافه بحياة داميان ، لكن فجأة، نظرت إليه مطولًا بشك.
شيء ما لم يكن طبيعيًا …
كيف يمكنه أن يكون بهذه الثقة؟
بدا له وكأنه يعرف شيئًا لا تعرفه هي.
وكان في الأمر شيء مريب حقًا.
‘الآن بعد أن فكّرتُ في الأمر … أدركتُ أن أليكسيون كان يعلم أن دميان ستصيبه الحمى مجددًا’
في البداية، قال إن الدواء الذي أعطاه كلايتون لداميان ليس علاجًا حقيقيًا، وإن الطفل لن يُنقذ إلا إذا ذهبت معه.
لكنها لم تصدق كلام رجل كهذا، لأنها كانت تثق بكلايتون.
اعتقدت دون شك أن ما قاله أليكسيون كان كذبًا. و لكن ، و كأن ما قاله لم يكن إلا الحقيقة ، بدأ داميان يعاني من الحمى الشديدة مرة أخرى.
وبينما كانت داليا غارقة في التفكير، خطرت ببالها فرضية:
‘ماذا لو كان كلايتون قد خُدع أيضًا؟ وماذا لو كان الدواء الذي ظنه علاجًا هو في الحقيقة مؤذٍ لدميان؟’
بمجرد أن وصلت إلى هذا الاستنتاج ، شحب وجه داليا بشدة ، و بدأت تهمس بتلعثم:
“لا يعقل … أن يكون الدواء الذي تناوله داميان بإعتباره علاجًا هو في الواقع …”
كأن أليكسيون كان ينتظر منها أن تدرك الحقيقة، فأسند ظهره إلى المقعد وقال بهدوء:”بالنسبة لحالة داميان الآن، ذلك الدواء لا يختلف عن السم.”
ارتجف قلبها.
سم! أن يكون الدواء الذي أُعطي لداميان سمًا حقًا! دون أن تدري بذلك …
نظرت داليا إلى أليكسيون وهي تحاول أن تظل واقفة، مستندة بذراعها المرتجف.
“كان أنت، أليس كذلك؟ أنت من نسّق هذا الأمر مع طبيب البلاط الإمبراطوري، صحيح؟”
من البداية، لكي يتمكن ولي العهد من تسليمها دواء من العائلة الإمبراطورية، كان عليه أن يستميل شخصًا يعرف الدواء جيدًا. و ذلك الشخص كان جورج.
لاحظ ولي العهد أن داليا أدركت الحقيقة ، فأمال رأسه قليلاً ، و كأن ابتسامة خفيفة ارتسمت على وجهه.
تمسكت بعقلها بصعوبة.
لم يكن المهم الآن كيف تناول داميان السم.
الترياق.
الشيء الذي يحتاجه داميان الآن هو الترياق.
تماسكت بصعوبة و سألته:
“أين الترياق؟”
“لقد أعطيتك إياه بالفعل”
“إذًا، الدواء الذي أعطيتني إياه حقًا كان …”
أومأ برأسه تأكيدًا.
“نعم ، ذلك الدواء كان الترياق. و لكن ، إن لم تظهر أي علامات تحسن بعد تناوله …”
أسند أليكسيون جسده إلى ظهر الكرسي و تابع:
“فربما الطفل سيموت في النهاية”
كانت سلسلة من اليأس المتواصل.
* * *
و في تلك الأثناء ، عندما وصل كلايتون إلى مخبأ ولي العهد، كان الجميع قد غادر بالفعل. راح يتفحص الآثار التي تركوها خلفهم، وهو يعضّ على شفتيه بقلق.
هل وصلتُ متأخرًا؟
كان يعتقد أنه أخيرًا سيتمكن من استعادة داليا، لكن الفرصة أفلتت من بين يديه مرة أخرى.
و بينما كان كلايتون يقبض على يده بإحكام من شدة الغضب ، سمع فجأة صوت سعال يأتي من خلف الباب ، الذي كان مفتوحًا قليلًا.
فتح الباب بدهشة ، فإزداد صوت السعال وضوحًا.
كان خلف الباب ممر يؤدي إلى القبو. و بمجرد أن أدرك كلايتون أن هناك من يوجد بالأسفل ، أسرع بخطاه.
وعندما وصل إلى القبو، وجد هناك داميان، لا أحد سواه.
لم يتوقع أبدًا أن يكون داميان بمفرده في هذا المكان ، فركض نحوه بسرعة.
“داميان!”
الطفل الذي كان قد تعافى تمامًا قبل بضعة أيام فقط و كان يركض في الخارج، كان الآن يعاني مجددًا من حمى شديدة.
ما الذي حدث له في هذه الفترة القصيرة؟
اقترب كلايتون من داميان بحذر و حمله بين ذراعيه.
و بمجرد أن شعر الطفل بحرارة جسد إنسان ، فتح عينيه ببطء.
“آه … عمي …”
ثم، ما إن تأكد من أن من أمامه هو كلايتون ، حتى حوّل نظره بعيدًا و سأل: “أين أمي …؟”
“هي …”
لماذا كان داميان وحده في هذا المكان؟
من المفترض أن ولي العهد ، بعدما علم بأن داميان هو ابنه ، قد أحضره معه. فلماذا تركه هنا وحده …؟
كان هناك شيء غريب يحدث.
ومع ذلك، لم يُظهر كلايتون أي توتر أمام داميان، بل تظاهر بالهدوء وأجاب: “أمك خرجت لإنجاز أمر ما، وستعود قريبًا.”
وبدا أن الطفل ارتاح لسماع ذلك ، فخف التوتر عن وجهه.
“هذا مطمئن … كنت خائفًا جدًا لأن لا أحد كان هنا منذ مدة …”
فكر كلايتون بحزن في الطفل الذي ظل في القبو المظلم وهو يبحث بيأس عن والدته.
“لكن، جسدي… غريب… إنه… حار جدًا…”
كانت حالة الطفل سيئة بوضوح.
و إن لم يره طبيب على الفور ، فقد تكون العواقب وخيمة.
تسارعت خطوات كلايتون وهو يصعد الدرج حاملًا داميان بين ذراعيه.
“لا تقلق. ستتحسن قريبًا”
“حقًا؟”
“…نعم.”
ثم ، و هو يمرر إبهامه برفق على خد الطفل الذي كان يحدق فيه ، وعده: “سأحميك ، وسأحمي والدتكٕ أيضًا.”
مهما حدث، لا بد له من ذلك.
وازدادت قوة قبضته وهو يحتضن داميان بقوة أكبر.
التعليقات لهذا الفصل "122"