فتش كل غرفة في القصر. بل لم يترك مكانًا يُحتمل أن يدخله إنسان دون أن يفتشه كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، لكنه لم يرَ أثرًا لأولئك الذين كان يبحث عنهم بلهفة.
هل ظل هائمًا في أرجاء القصر طويلاً هكذا؟
عاد كلايتون إلى الغرفة التي كان داميان يقيم فيها.
“… داليا”
همس بإسم داليا، فقط لاحتمال أن تكون هناك، لكنه لم يتلقَ أي رد.
حرك كلايتون ساقيه المتيبستين واقترب من السرير الذي بدا فوضويًا.
جلس هناك، ومد يده يتحسس المكان الذي كان الطفل ينام فيه. لقد اختفت الحرارة من السرير منذ وقت طويل، وكان باردًا.
ربما كانت هنا معه.
داليا كانت دائمًا تبقى بجوار الطفل حتى بعد أن ينام.
وحتى لو لم تكن كذلك، فلو شعرت بأن شيئًا مريبًا يحدث في القصر، كانت لتأتي مسرعة لتحمي داميان.
كلايتون، وهو يمرر يده على الملاءة، قبض يده بغضب.
اجتاحه شعور بالذنب. تهاونه ، و غباؤه حين اعتقد أنه لا أحد سيحاول إيذاءهما ، صارا كسهام مغروسة في قلبه.
كان يجب أن أحضر حراسًا أكثر.
من البداية، كانت هناك حدود لعدد الأفراد الذين يمكنه اصطحابهم إلى إيستر بدلًا من الإمبراطورية.
إحضار عدد كبير من الفرسان كان سيُعد إهانة للمملكة.
لذلك جاء بأقل عدد ممكن. في حينها ظن أن هذا هو الخيار الأمثل، لكنه بات الآن نادمًا على قراره أشد الندم.
لم يكن عليّ إرسال لويد أولاً.
وفي خضم كل ذلك ، أرسل لويد إلى الإمبراطورية بصحبة نخبة من الفرسان. ماذا لو أن أولئك الفرسان كانوا لا يزالون في القصر؟ هل كان الوضع ليكون مختلفًا قليلاً؟
أو ماذا لو أنه لم يأخذ الفرسان معه حين توجه إلى جنوب إيستر؟
عندما قيل له إن الوضع الأمني في الميناء سيء ويجب أن يصطحب أكبر عدد من الجنود، كان عليه أن يرفض.
كان يجب أن يعتمد على قوته لحماية نفسه، ويركز على تأمين القصر بدلًا من ذلك.
ندم على كل شيء. لم يشعر يومًا بهذا القدر من العجز.
انحنى كلايتون برأسه من شدة الألم ، و مرر يده بين خصلات شعره بعنف.
هل داليا بخير؟ هل تعرضت لأذى؟ هل ترتجف الآن من الخوف مع الطفل؟ عشرات التصورات السيئة أخذت تنهش قلبه في تلك اللحظة.
حينها، اقترب كاديسون، الذي كان يحقق في القصر.
“دوق”
وبدأ يقدم تقريرًا بناءً على شهادات الناجين الذين استعادوا وعيهم، وآثار الأحداث التي وُجدت في القصر.
“يبدو أنهم استخدموا عطرًا منومًا”
“… عطر منوم؟”
“نعم. وجدنا هذا المسحوق الأبيض في أماكن عديدة، حيث سقط الخدم والفرسان.”
ناول كاديسون قطعة قماش كان عالقًا بها مسحوق أبيض إلى كلايتون. أخذها الأخير و مرر بأصابعه فوقها متأملًا المسحوق عن كثب.
كانت رائحة القرفة التي تلسع أنفه تشير بوضوح إلى هوية ذلك المسحوق.
“في إيستر، بسبب تفاوت درجات الحرارة بين النهار والليل، تُغلق النوافذ عادةً خلال الليل. لذا، في بيئة لا يوجد بها تهوية طبيعية، عندما ينتشر العطر المنوم، لا يستطيع الناس مقاومته ويسقطون مباشرة.”
“…”
“وأيضًا، من خلال فحص جثث الحراس عند البوابة، اتضح أنهم ضُربوا بدقة في نقاطهم الحيوية دون أي تردد. يبدو أن من فعلها هم أشخاص مدربون تدريبًا عاليًا”
استمع كلايتون لتقرير كاديسون، وبدأ يجمع الخيوط واحدة تلو الأخرى.
عطر منوم برائحة القرفة، وقتلة مدربون تدريبًا عاليًا … لم يكن هناك سوى جواب واحد.
“…أليكسيون.”
ولي العهد.
العطر المنوم شائع الاستخدام، ولكن العطر الذي يفوح برائحة القرفة كان، بقدر ما يعرف كلايتون، يُستخدم فقط من قبل فرسان القصر الإمبراطوري.
ذلك العطر الخاص كان يُصنع بوصفة سرية لا يعرفها سوى القصر، وكان فعّالًا لدرجة أن له رائحة فريدة كالقرفة.
وقد علم بهذه الحقيقة قبل سنوات عن طريق المصادفة.
على الأرجح أن ولي العهد لم يكن يعلم أن كلايتون يعرف عن هذا النوع من العطور و استخدمه دون حذر.
وإذا كان من نفّذ العملية هم رجال مدربون تدريبًا عاليًا ، فالأرجح أنهم من الحرس السري المكلف بحماية ولي العهد.
أولئك الرجال يظلون مختبئين في الظلال أينما ذهب ولي العهد، مستعدين لحمايته. وقد أقسموا بالولاء للقصر، ولذلك كانوا على استعداد لتنفيذ أي أمر يصدره أليكسيون ، مهما كان.
هل كان ذلك الرجل في إيستر؟ …
عضّ كلايتون شفته من الغيظ. كيف لم ينتبه لذلك من قبل؟
لو علم أن ولي العهد في إيستر ، لما ترك داليا وحدها أبدًا.
بدأ القلق ينهش قلبه مجددًا. و لكن في المقابل ، شعر بشيء من الراحة.
طالما أن ولي العهد هو من أخذ داليا، فهي على الأقل لن تكون في خطر على حياتها، بل وحتى لم تتعرض لأي أذى.
و داميان ، بما أنه تأكد أنه ابنه ، فلابد أن يتم الاهتمام به جيدًا أيضًا.
“هاه…”
تنهد كلايتون تنهيدة ارتياح، وسقطت كل التوترات من على كتفيه. ولكن بعد لحظات، ارتجفت زوايا فمه ساخرًا من نفسه.
كم أنا مثير للشفقة.
هل كان هناك يوم شعر فيه بالعجز والضعف أكثر من الآن؟
وبينما كان يوبخ نفسه بصمت، لمح شيئًا غير طبيعي في الغرفة أثناء تجوال نظره عشوائيًا.
“ولكن … لماذا …”
مرر راحة يده على ملاءة السرير التي كان جالسًا عليها، لكنه لم يشعر بأي بقايا من العطر المنوم.
“لا توجد أي آثار للعطر المنوم هنا، أليس كذلك؟”
لم يكن هناك أي دليل على استخدام العطر المنوم في الغرفة. فقط أغطية السرير كانت مبعثرة قليلًا، ولا توجد أي علامات على حدوث مقاومة أو صراع.
“وفقًا لما تحققنا منه، لم نعثر على أي آثار للعطر المنوم في الطابق الثاني باستثناء الممر. على الأرجح استخدموه فقط لتقييد أولئك الذين يُحتمل أن يقاوموا…”
“…إذن، داليا؟”
“ماذا؟”
“… هل يعني هذا أن داليا لم تُبدِ أي مقاومة؟”
“ذلك…”
تلعثم كاديسون في كلامه، وكأنه لم يفكر في الأمر حتى تلك اللحظة.
شعر وكأنه قد لمس شيئًا لم يكن يجب لمسه.
بدأت افتراضات سيئة تظهر فجأة في ذهنه، افتراضات مشؤومة، مثل أن داليا ربما تبعت ولي العهد طواعية…
لكن سرعان ما هزّ كلايتون رأسه.
“لا، مستحيل.”
ذلك غير ممكن. فهي قد وعدته منذ أيام قليلة فقط… بأنها لن تتركه مرة أخرى.
حتى ذهابها مع ولي العهد لا بد أنه كان خيارًا لا مفرّ منه، بسبب خطر التعرض للأذى.
لابد أنها الآن تبحث عنه بقلق.
معتقدًا ذلك، نهض كلايتون من مكانه ،
“اجمع كل من يمكنه التحرك فورًا.”
سيذهب لإنقاذ داليا في أقرب وقت ممكن.
لكن في أعماق قلب كلايتون، كانت بذرة صغيرة من الشك قد بدأت تنمو بالفعل.
بذرة الشك في أن داليا قد تكون قد خانته مجددًا … رغم أنه لم يلاحظ ذلك بعد.
* * *
في تلك الأثناء، عندما استعادت داليا وعيها بعد أن فقدته بسبب ضربة من رجل غريب، وجدت نفسها في قبو قديم لا يحتوي سوى على سرير مهترئ.
لا بد أن هذا هو مخبأ ولي العهد.
فتشت القبو جيدًا لتتعرف على المكان، لكنه لم يكن يحتوي على نافذة واحدة، ما جعل من الصعب معرفة ما إذا كان الوقت ليلًا أم نهارًا.
بالرغم من أن الفصل ربيع، كان البرد في القبو قارسًا.
اقتربت من داميان ، الذي كان مستلقيًا على السرير، قلقة عليه، لتغطيه ولو ببطانية رقيقة إضافية.
لكن حين لمست داليا خد داميان بيدها، تفاجأت بشدة ونهضت فجأة.
“لماذا… لماذا يشعر بالحرارة؟”
لم يكن مصابًا بالحمى من قبل ، لكن جسده أصبح دافئًا فجأة. في تلك اللحظة، ومع صوت صرير بغيض، فُتِح الباب.
وظهر ولي العهد مع ضوء ساطع من خلفه.
نسيت داليا في تلك اللحظة أنها أُسرت على يد أليكسيون، وركضت إليه.
“سيدي!”
ثم أشارت إلى داميان وهي تتحدث بيأس.
“حالة داميان غير طبيعية. إنه يعاني من حرارة شديدة.”
نظر أليكسيون إلى داميان للحظة بعد أن حدق في داليا، ورأى الطفل يلهث بوجه محمّر.
“نعم، يبدو مريضًا فعلاً.”
“نعم، لذا أرجوك، استدعِ طبيبًا في الحال.”
لكن رده كان إمالة رأسه وهو يقول:
“هذا سيكون صعبًا بعض الشيء.”
سألت داليا، مذهولة من هذا الرفض الحازم:
“ماذا؟ ماذا تقصد…؟”
“إذا استدعينا طبيبًا الآن، فربما نُفضح ويُكتشف مكاننا. لذلك لا يمكننا ذلك. على الأكثر، سأجلب له خافضًا للحرارة… رغم أني لا أعلم إن كان سيفيد.”
كان من الصعب تصديق أن شخصًا ما قد يكون بهذه القسوة واللامبالاة أمام مرض شخص آخر، فكيف إذا كان هذا الطفل هو ابنه؟
واجهت داليا أليكسيون، غير مصدقة، وقالت:
“ما الذي تقوله؟ داميان ابنك! كيف يمكنك أن تكون بهذا البرود؟”
“ابني؟”
ضحك وكأنه سمع نكتة سخيفة. بدأ بابتسامة ساخرة ثم انفجر ضاحكًا بصوت عالٍ يتردد صداه في القبو.
أدركت داليا أن هناك شيئًا غريبًا في سلوك ولي العهد، فضحكه لم يكن ملائمًا للموقف، وكأنه فقد عقله، فتراجعت خطوة للخلف.
“آه، آسف، آسف. الأمر مضحك قليلًا… لأنك ما زلتِ لم تلاحظي.”
لم تلاحظ؟
ماذا؟
وقفت داليا صامتة، يتملكها شعور غامض بعدم الارتياح، حين تنهد أليكسيون وكأنه مجبر على قول ما سيقوله.
“آه، يا داليا الحمقاء.”
ثم أكمل حديثه بنبرة المتعاطف مع امرأة جاهلة لا تعرف شيئًا: “هذا الطفل … ليس ابني”
التعليقات لهذا الفصل "119"