في ذلك اليوم الذي التقت فيه بكلايتون مجددًا بعد خمس سنوات، لم تستطع أن تمحو من ذاكرتها صورته وهو يتحدث عن موت الطفل بكل بساطة.
وجهه البارد وهو يتحدث بصوت خالٍ من المشاعر، كما لو كان يتحدث عن سحق حشرة، ظل محفورًا في قلبها ولا يكف عن تعذيبها.
صحيح … لم يكن ينوي إنقاذه من البداية.
لماذا هَرَبَت إلى “إيستر” في المقام الأول؟
لكي تحمي الطفل من براثن ذلك الرجل.
ومع ذلك، كم كانت ساذجة حين صدّقت وعوده.
رجل لم يتردد في محاولة قتل دمه و لحمه ، كيف له أن يُبقي على حياة طفل من رجل آخر؟
لقد كانت ساذجة جدًا …
ذاك الحنين العابر إلى لحظات نادرة من لطفه معها ، جعلها تنكر الحقيقة، وتقنع نفسها بأنه لا يمكن أن يكون قاسيًا إلى ذلك الحد.
و هكذا، شدّت داليا قبضتيها بإحكام.
القلق لعدم قدرتها على رؤية ابنها المريض ، و الخوف من احتمال موته في أي لحظة، كان كافيًا ليجعلها تفقد صوابها.
“من البداية ، أنت …”
بدأ صوت بكاء الطفل يتردد في أذنيها.
حين فكرت في دميان ، و هو الآن وحيد في مكان غريب لا يعرف فيه أحدًا ، مكشوفًا ، مهمَلًا … شعرت أن أنفاسها تُسحب منها.
“داميان …”
هل كان خيارها هو الأسوأ بالنسبة إليه؟
هل كان عليها، في ذلك الوقت، أن تهرب مع الطفل بأي وسيلة؟
ندمٌ عارم و وساوس لا نهائية أخذت تنهش روحها.
“أنت لم تكن تنوي إنقاذ ابني من الأساس …!”
وإلا، كيف لم يستطع حتى الآن أن يحصل على العلاج؟
داليا، التي لم تستطع كبح مشاعرها الجياشة، ضربت صدر كلايتون بقوة.
وكلايتون، الذي تلقى ضرباتها بصمت، أنزل نظره نحوها.
عيناها البنفسجيتان كانتا تفيض باللوم، بعدم الثقة، بالحقد.
لكن الغريب…
ما كان يؤلمه أكثر من قبضتيها وهما تضربانه دون توقف، هو تلك النظرة في عينيها—نظرة شخص لم يعد يثق به.
ترى، ما الذي أمثله بالنسبة لهذه المرأة؟ بل، هل تراني إنسانًا أصلًا؟ أيمكن أنها تعتبرني وحشًا؟ هل فكرت بي ولو لمرة واحدة كزوج لها؟
كلما انطلقت نظرات داليا المليئة باللوم نحوه ، كانت تلك الجراح المفتوحة في داخله تستدرج أفكارًا سوداوية تغزو عقله.
من المؤكد أنها تراه وغدًا، لا يجد حرجًا في قتل طفل دون تأنيب ضمير، مستهترًا بوعودٍ قطعها ذات يوم.
وحين بلغ تفكيره هذا الحد، شعر بمرارة في فمه.
هل ظلّ يستمع إلى ملامة داليا طيلة ذلك الوقت؟
عندها، قال كلايتون بصوتٍ مبحوح بعض الشيء:
“…لم أفكر أبدًا في قتل الطفل”
توقفت يد داليا عند سماع كلماته، التي كسرت الصمت.
“لقد وعدتُكِ بذلك.”
هدأت انفعالات داليا أمام صوته الهادئ.
“كل ما في الأمر أن الحصول على الدواء تأخر فقط. لكنه سيُحل قريبًا.”
بما أنه قد أمر بالحصول على الدواء بأي وسيلة كانت ، فلا بد أن يتمكن من تأمينه بطريقة أو بأخرى.
كان من المرير أن يضطر إلى تبرير أنه ليس الشرير الذي تظنه. بل كان ذلك مؤلمًا إلى حد ما.
ولهذا السبب، باتت مواجهته لداليا أمرًا شاقًا عليه.
وسرعان ما أدار ظهره وابتعد عنها.
بينما كان يسير باتجاه الباب للخروج ، التقى بنظرات الخادمة التي كانت مترددة وهي تحمل وجبة الطعام.
ومن نظرتها، بدا أنها لاحظت أن الأجواء داخل الغرفة ليست طبيعية.
نظر كلايتون إلى الطعام الذي في يد الخادمة وتمتم بهدوء:
“تناولي طعامك أولًا.”
وبهذه الكلمات، خرج كلايتون من الغرفة.
رغم أنه شعر بنظرات داليا تلاحق ظهره، لم يلتفت.
كان خائفًا من رؤية نظراتها إليه.
تسارعت خطواته عبر الممر، وصوت حذائه كان يتردد في المكان بصمت.
نظرات داليا المليئة بالشك والريبة لم تكف عن تمزيق قلبه.
تلك العيون التي كانت تبتسم له في السابق ، صارت اليوم كالسكاكين تطعنه.
“هل أنتَ بخير …؟”
ربما بدا له هشًا و ضعيفًا في تلك اللحظة.
سأله كاديسون، الذي تبعه بصمت منذ خروجه من غرفة داليا.
نبرته كانت أكثر حذرًا من المعتاد و هو يخاطب سيده.
لكن وجه كلايتون بدا و كأنه يتساءل: “ما الذي قد لا يجعلني بخير؟” ، فأغلق كاديسون فمه.
على مدى سنواتٍ عديدة وقف كاديسون إلى جانب كلايتون ، و شهد سقوط سيده مراتٍ لا تُحصى في كل ما يخص السيدة.
حتى بعد أن وجدها أخيرًا بعد كل ذلك البحث، لم يتغير شيء. لا يزال يسير وحده وسط بؤسه.
لكن كاديسون، الذي لم يكن يجرؤ على البوح بمشاعره هذه، سارع بتغيير الموضوع: “سأحرص على تأمين العلاج في غضون أسبوعين كحد أقصى.”
إذا لم يتمكن من استمالة جورج في النهاية، فقد كان ينوي تهديده بأي وسيلة للحصول على العلاج.
لكن عند سماع كلمة “العلاج”، توقف كلايتون فجأة عن المشي.
لقد تذكّر داميان دون قصد.
“و الطفل؟”
“أعتقد أن الطبيب يفحصه الآن. سمعت أن حرارته ارتفعت بشدة خلال النهار.”
“…”
ظل كلايتون يستمع بصمت إلى كلمات كاديسون، ثم غير اتجاهه الذي كان متوجهًا فيه نحو الغرفة، وسرعان ما اتجه إلى حيث يوجد دميان.
داليا لم تكن تعرف، لكن داميان كان يقيم في نفس القصر.
ذلك لأنهم لم يتمكنوا من العثور على مكان آمن يفصل بين الاثنين في مملكة إيستر، بدلًا من الإمبراطورية.
كما أن إبقاء الاثنين في نفس المبنى كان أفضل من الناحية الأمنية أيضًا.
السبب الذي جعله لا يُخبر داليا بهذه الحقيقة كان بسيطًا:
حتى وإن تم التحكم في خروجها من الغرفة، فإن معرفتها بأن داميان في نفس المبنى قد يدفعها للتفكير في أمور غير ضرورية.
مثل التفكير في الهرب مجددًا مع الطفل …
وبينما كان كلايتون غارقًا في أفكاره، كان قد وصل إلى مكان وجود داميان.
وبالصدفة، كان الطبيب يفحص الطفل، وما إن رأى كلايتون حتى نهض من مقعده.
“ما حالة الطفل؟”
“مقارنة بالنهار، فقد انخفضت حرارته كثيرًا والآن هو نائم. لكن المشكلة الأساسية لم تُحل بعد…”
في وقت سابق من النهار، كانت حرارته قد ارتفعت بشكل مقلق، لدرجة أن الطبيب ظن أن الوضع قد يتدهور كثيرًا.
لكن لحسن الحظ، انخفضت حرارته الآن بما يكفي ليغفو بارتياح.
وكان داميان يكرر هذه الحالة مرارًا وتكرارًا.
بالنسبة لطفل لم يتجاوز الخامسة من عمره، كان هذا أكثر مما يمكنه تحمّله.
كان لا بد من إيجاد سبب الحمى ومعالجته في أسرع وقت،
لكن الطبيب، رغم خبرته التي تمتد عشرين عامًا، لم يواجه حمى مماثلة من قبل، ولم يكن لديه خيار سوى إعطاء خافض للحرارة فقط.
نظر الطبيب إلى داميان بعينين مليئتين بالشفقة، ثم تكلّم بحذر: “كما أن الطفل ظلّ منذ قليل يطلب أمه مرارًا. في هذا العمر، من الأفضل له من الناحية النفسية أن تكون الأم بجانبه… هممم”
لكن ما إن رأى وجه كلايتون البارد حتى سكت على الفور.
كان الطبيب قد حاول التحدث بحذر، معتقدًا أن للطفل أمًّا لكنه لم يرها ولو لمرة واحدة.
لكن ما إن رأى وجه الرجل، أدرك أنه قد تسرّع في تقديره.
خشي أن يوبّخه فجأة، فسارع بجمع أغراضه وتراجع بخطوات سريعة.
“إ-إذًا، سأنصرف الآن … سأعود غدًا مرة أخرى. همم”
ثم غادر الغرفة بينما لا يزال يراقب تعابير كلايتون حتى اللحظة الأخيرة.
وهكذا، بقي الاثنان وحدهما في الغرفة.
نظر كلايتون مطولًا إلى وجه الطفل النائم.
ويبدو أن الطبيب لم يكن مخطئًا حين قال إن حالته قد هدأت قليلًا؛ فقد بدا وجه الطفل مرتاحًا أثناء نومه.
أخذ يتفحّص ملامح الطفل بهدوء، باحثًا عن ملامح داليا.
هل شكل عينيه يشبهها؟ أم أن أنفه أقرب إليها؟
لكن لأن الطفل كان مغمض العينين ، لم يكن من السهل تحديد مدى الشبه بينه و بين داليا.
ومع ذلك، كان هناك أمر واحد شعر حياله ببعض الراحة:
لم تكن هناك أي ملامح تذكّره بوجه وليّ العهد.
بل، على العكس تمامًا …
ما الذي أفكر فيه الآن …؟
هزّ رأسه وكأنه يحاول طرد فكرة عبثية خطرت له.
وفجأة، خرج صوت خافت من فم الطفل، الذي كان فمه مغلقًا بإحكام:
“أمــي …”
“…”
كان ينادي والدته وهو لا يزال في نومه.
وهنا، تذكّر فجأة ما قاله الطبيب عن أن الطفل ظل يطلب أمه كثيرًا.
خمسة أعوام فقط…
في عمر كهذا، من الطبيعي أن يشتاق لحضن والدته.
أن يُحتجز في هذا المكان و هو يعاني من حُمّى مرهقة دون وجود أحد يعرفه، لا بد أن ذلك كان فوق طاقته.
حين بلغ تفكيره هذا الحد، اجتاحه شعور مبهم بالذنب تجاه الطفل، وشفقة كبيرة عليه.
ورؤية وجه الطفل زادت من اضطراب قلبه.
لذا، قرر أن لا فائدة من البقاء هنا أكثر، وهمّ بالنهوض.
طَق-!
فجأة، أمسك أحدهم بطرف كمّه.
نظر كلايتون إلى اليد الصغيرة التي أمسكت به، ثم رفع عينيه ببطء.
كان داميان يحدّق إليه، لا يعلم متى استيقظ.
“…آه …”
همس دميان بصوتٍ ناعس مغمور بالنعاس:
“أنا آسف… كنتُ شقيًا…”
كانت تلك اعتذارًا غير متوقع منه.
التعليقات لهذا الفصل "110"