“كلايتون!”
صرخت داليا بإسمه بصوت أشبه بالصيحة.
كان وجهها قد أصبح شاحبًا إلى حدٍّ أنه بدا أزرق اللون.
نظر كلايتون إلى الطفل الذي كان يحمله لويد بعينيه فقط.
كان مظهر لويد، وهو يضع يديه على أذني الطفل ويبتعد به وكأنه يخشى أن يسمع كلامه، يبدو مثيرًا للسخرية.
أبعد كلايتون نظره عن الشخصين البعيدين ، ثم اقترب مجددًا من داليا. همس لها بصوت أكثر انخفاضًا.
“هل كنتِ تعتقدين أنني سأُنقذ ابنكِ؟”
دقّ-!
شعرت و كأن قلبها يهوي إلى ما تحت الأرض.
كان صوته البارد يتردد في رأسها.
رفعت داليا رأسها المتخشّب و نظرت إلى وجهه.
وجهه الخالي تمامًا من أي شفقة أو رحمة كان يؤكد أن كلماته كانت صادقة.
عندما أدركت المعنى ، بدأت ترتجف بشدة.
إن لم يساعد كلايتون في تأمين دواء الطفل … فذلك يعني أن داميان سيموت.
بعد أن اكتشف كلايتون أمرها ، لم يعد من الممكن التواصل مع الكونت فريتون. لا ، في الحقيقة ، لم تعد واثقة من إمكانية الهرب من قبضة كلايتون أصلًا.
الوحيد القادر على إنقاذ داميان الآن هو كلايتون.
قبضت داليا يدها بقوة.
كانت تعلم أن التوسل إلى كلايتون لإنقاذ داميان –الذي يمثل خيانتها له– تصرفٌ أناني. لكنها لم يكن أمامها خيار آخر.
صمتت لوهلة ، ثم جثت على ركبتيها أمامه.
و توسلت بصوتٍ خافت و مليء بالرجاء:
“أرجوك … أنقذ طفلي … أنقذ داميان.”
“…”
“سأفعل أي شيء… فقط احصل على الدواء، أرجوك …”
انحنت داليا حتى لامس جبينها الأرض.
“أنقذ الطفل …”
انزلقت دموعها المتجمعة إلى الأرض الحجرية الباردة.
في هذه اللحظة، لم تعد داليا ترى شيئًا أمامها.
كانت مستعدة لفعل أي شيء من أجل إنقاذ داميان.
ظل كلايتون يحدّق بها وهي منحنية أمامه، ثم جثا على ركبتيه ليتقابل مستواهما. رفع رأسها بأصابعه برفق.
“…أي شيء ، أليس كذلك؟”
انعكس وجهها في عينيه الحمراوين ، و هي تومئ ببطء بدلًا من الإجابة.
هل كان ذلك بسبب أن المرأة التي جثت على ركبتيها من أجل طفل رجلٍ آخر قد أثارت اشمئزازه؟
في لحظة اجتياح مشاعر الغضب ، خرجت الكلمات من فمه دون أن يتمكن من التحكم بها.
“هل يمكنكِ أن تعيشي بقية حياتِكِ دون أن تري الطفل؟”
“ماذا …؟”
كنت أتمنى أن تتألمي كما تألمت أنا.
كنتُ أتمنى أن تعيشي كل يوم بصعوبة ، تمامًا كما كنتُ أنا أعاني حتى من التنفس يومًا بعد يوم.
“سألتُكِ إن كان بإمكانِكِ أن تعيشي دون أن تري الطفل لبقية حياتِكِ.”
“هـ … هذا…”
لماذا؟
حين ترددت داليا في الرد، ابتسم هو ابتسامة ملتوية، كما لو أنه كان يتوقع هذا تمامًا.
“حتى هذا لا تستطيعين تحمّله؟”
أنا تحملتُ ما هو أسوأ من ذلك.
“……”
رغم أنها تعهدت بأنها قادرة على فعل أي شيء من أجل الطفل، لم تستطع أن تنطق بكلمة بسهولة.
ألن أرى داميان مرة أخرى إلى الأبد؟
هذا شيء لم تتخيله أبدًا. حتى عندما كانت مفصولة عنه بسبب الأميرة، كانت تشتاق إليه بشدة.
مجرد التفكير بالأمر جعل قلبها يتفتت.
لكن، هل كان لها حق الاختيار أصلاً؟
عيناها البنفسجيتان المرتجفتان نظرتا إلى الرجل الواقف أمامها. وجهه الحازم لم يُبدِ أي نية للمساومة.
ابتلعت داليا شعورها باليأس بصعوبة وفتحت شفتيها أخيرًا.
“أ… أستطيع”
“……”
“فقط… أرجوك أنقذ داميان”
حتى إن لم تستطع رؤيته مجددًا، فذلك لا يهم.
طالما أنه على قيد الحياة وبصحة جيدة …
طالما تستطيع سماع خبرًا بأنه بخير في مكان ما …
فهذا يكفي.
ارتجف جسد داليا قليلًا وهي تنطق بتلك الكلمات بصعوبة.
نظر إليها كلايتون بصمت ، ثم وقف من مكانه.
بعدها أعطى أمرًا لكاديسون ، الذي كان يراقب الموقف بعينين قلقَتين من الجانب: “خذه.”
“…نعم، سيدي”
وما إن صدرت الأوامر، حتى اقترب كاديسون من لويد وانتزع داميان من بين ذراعيه.
عند لمسة الغريب، بدأ الطفل الذي هدأ مؤقتًا، بالبكاء من جديد.
“أمي! أمي!”
كان الطفل، وهو بين ذراعي كاديسون في طريقه إلى الخارج، يبكي بحرقة وهو ينادي داليا.
“داميان …!”
لم تستطع داليا أن تتجاهل داميان وهو يناديها بتلك اللهفة ، فنهضت من مكانها محاولة اللحاق به.
لكن—!
أمسك كلايتون بمعصمها، كما لو يذكّرها بالوعد الذي قطعته له قبل قليل.
نظرت داليا إلى الطفل ثم إلى كلايتون بالتناوب، وفي النهاية أغمضت عينيها بإحكام.
* * *
– في ليلة يغطيها ظلام دامس.
كان كلايتون يحتسي الشراب على ضوء القمر المنعكس على النافذة، وكأنّه يرسم لوحة صامتة. فجأة، وضع الكأس جانبًا بتعبير منزعج، و وكز لسانه بأسنانه.
سبب انزعاجه كان صورة داليا و هي تُدير وجهها عن الطفل قبل قليل.
ظننت أنني سأشعر بالارتياح …
لكن لم يكن هناك ارتياح. بل بالعكس ، كان هناك شعور مزعج ينهش جانبًا من قلبه منذ تلك اللحظة.
و بينما ظل غارقًا في ذكرياته و تفكيره بما حدث ، سُمع صوت طرق على الباب ، و دخل كاديسون إلى الغرفة.
“لقد أتممت كل ما أمرت به يا دوق.”
“و الطفل؟”
“يبدو أن صحته ليست على ما يرام ، فقد غلبه التعب ونام بسرعة.”
“…فهمت.”
لا يزال صوت بكاء الطفل ، الذي كان يصرخ و كأن العالم ينهار ، يرنّ في أذنيه بوضوح.
كان يظن أن الطفل سيظل يبكي طوال الليل مناديًـا على داليا، لكنه على ما يبدو لم يكن يملك حتى القوة لفعل ذلك.
تخيل وجه الطفل و هو نائم بين ذراعي داليا.
قالت إن اسمه داميان ، أليس كذلك؟
لم يتذكر وجهه جيدًا ، فقد كانت داليا تخفيه بين ذراعيها معظم الوقت.
يا تُرى، من يشبه هذا الطفل؟ هل يشبه داليا؟ أم ربما …
غرق كلايتون في شروده للحظات ، قبل أن يقطع كاديسون تفكيره بصوته: “و ماذا عن الابن الأكبر لكونت هيرتز؟”
“لويد، هاه …”
بدأ كلايتون يربّت بأصابعه على مسند الأريكة، مترددًا في قرار مصيره.
كان يرغب، في قرارة نفسه، بقطع رقبته في الحال،
لكن لويد هو الابن البكر لعائلة هيرتز، التي خدمت عائلة ساير لسنوات طويلة.
وفوق ذلك، فإن كونت فريتون يعلم بأن لويد لا يزال حيًا، لذا قتله هنا لم يكن خيارًا.
ثم هناك أمر آخر — لم يكن هناك وريث آخر لعائلة هيرتز غيره.
صحيح أن له أختًا توأم تُدعى “روز” ، لكن … من يدري؟
في تلك اللحظة، بدا أن كلايتون تذكّر شيئًا مزعجًا، فعبس حاجباه.
وبعد أن اتخذ قراره أخيرًا، فتح فمه وتكلّم:
“أرسل لويد إلى الإمبراطورية أولاً.”
رأى أن من الأفضل أن يرث لويد لقب الكونت بدلاً من أن ترثه تلك المرأة.
على أي حال، لم يكن عامة الناس يعلمون أن لويد قد هرب مع داليا. فقد تم التلاعب بالأمر و اعتباره مجرد “اختفاء” بسيط.
“سأقرر ما أفعل بلويد بعد عودتنا إلى الإمبراطورية”
قرر تأجيل البتّ في مصير لويد ، إذ كانت هناك أمور أكثر إلحاحًا يجب التعامل معها حاليًا.
“سنعود نحن أيضًا إلى الإمبراطورية في أقرب وقت ممكن. أعِد تنظيم الجدول الزمني بأقصى سرعة”
ومع ذلك، حتى مع تسريع الجدول، لم يكن من الممكن العودة إلى الإمبراطورية فورًا بعد وصولهم إلى المملكة.
فقد كان هناك العديد من الارتباطات والمواعيد المقرّرة مسبقًا.
حتى لو تم التعامل مع كل شيء بأقصى سرعة ، فسيستغرق الأمر على الأقل شهرًا.
“نعم، فهمت. لكن … بخصوص الدواء، ما الذي يجب علينا فعله؟ لقد تأكدنا بالفعل من مكان الطبيب الملكي السابق ، جورج.”
في الواقع، لم تكن هناك حاجة لبذل جهد للعثور عليه، فقد كان معروفًا للجميع أن الطبيب الملكي، الذي خدم البلاط الإمبراطوري لسنوات طويلة، قد تقاعد قبل عامين و عاد إلى مسقط رأسه.
والأهم من ذلك، أن بلدة جورج لم تكن بعيدة عن إيستر، مما يعني أنه من الممكن تمامًا تأمين الدواء أثناء إقامتهم هنا.
“أرسل أحد الرجال مع بزوغ الفجر لتأمين الدواء بأسرع وقت ممكن.”
الوعد يبقى وعدًا.
و بعد تلك الكلمات ، بدا أن كلايتون أنهى حديثه و أعطى أمرًا غير مباشر بمغادرة الجميع.
لكن …
“سيدي …”
“ماذا هناك؟”
تردد كاديسون في إنهاء جملته، وكأن هناك شيئًا ما لا يزال يدور في رأسه.
هل أقول هذا أم لا؟
أن أقول له إن الطفل يشبهك ، يا سيدي …
حتى بالنسبة له ، شعر أن ما يفكر فيه غير منطقي.
فألوان شعر و عينَي الطفل كانت دليلاً واضحًا على نقاء دماء العائلة الإمبراطورية.
ولكن … كلما أمعن النظر في وجه الطفل ، لم يستطع أن يتخلص من الشعور بأنه يشبه الدوق بشكل غريب.
لو كان لون شعره أسودًا و عيناه قرمزيتين ، تمامًا مثل الدوق ، لكان من السهل تصديق أنه ابنه فعلاً.
و بينما كان كاديسون مترددًا بين مشاركة انطباعه أو كتمانه ، هزّ رأسه في النهاية.
ففي ظل الظروف الحالية ، لو قال إن الطفل لا يشبه ولي العهد ، بل يشبهك يا سيدي … لما تسبب ذلك إلا في إثارة غضب الدوق.
“لا، لا شيء يا سيدي”
الطفل يعاني أصلًا من مرض وراثي خاص بالعائلة الإمبراطورية، فماذا سيغيّر إن قيل الآن إنه يشبهك؟
لذا، لزم الصمت و غادر الغرفة بهدوء.
التعليقات لهذا الفصل "107"