“كلايتون …!”
ما إن تأكد أليكسيون أن من يقف أمامه هو دوق ساير ، حتى انعوج وجهه بغضب.
تمتم بصوت يملؤه الغيظ:
“إذًا كل هذا كان من تدبيرك.”
قال ذلك وهو يركل بالأوراق المبعثرة على الأرض بقدمه.
أدار كلايتون رأسه مائلًا و هو يحدق بأطراف قدم أليكسيون و كأنه يزدريه.
“طبعًا أنا من فعلها ، من كنت تتوقع أن يفعلها غيري؟”
لم يكن في نبرة صوته أي احترام للدماء الإمبراطورية.
لم يكن هناك داعٍ لأن يُظهر الاحترام لمن تخلّى عنه الإمبراطور بنفسه.
ومع ردّ كلايتون هذا، اشتدت حدة النظرات في عيني أليكسيون.
نظر إليه وكأنه على وشك أن يفترسه.
“لقد أصبحتَ مغرورًا جدًا يا دوق. يبدو أنك اطمأننت لمجرد نجاحك في صفقة مع والدي … لكنك تظن حقًا أنه سيتركني خارج العاصمة إلى الأبد؟”
قال أليكسيون ذلك بثقة ظاهرة على وجهه.
ولم يكن غريبًا، فهو الابن الشرعي الوحيد للإمبراطور والملكة.
ولهذا السبب تم التغاضي عن جرائمه الكثيرة طوال تلك السنوات.
حتى كلايتون نفسه ، أومأ برأسه و كأنه يوافق على ذلك.
“من يدري؟ لم أفكر بذلك بعد. لكن، دعني أخبرك بشيء …”
اقترب كلايتون من أليكسيون بخطوات بطيئة، وهمس له بصوت خافت: “هل أنت واثق بأنك ستبقى حيًا حتى يستدعيك جلالته من جديد؟”
“…ماذا؟”
تجمد جسد أليكسيون من برودة صوت الدوق ، و شعر بألم ينبض في عينه التي لم تعد ترى شيئًا بها.
هل يُعقل؟
نظر أليكسيون إلى كلايتون بعينين ممتلئتين بالخوف، وهو يدرك الحقيقة …
دوق ساير يريد قتله.
“من الآن فصاعدًا، عليك أن تحذر في كل لحظة. عليك أن تشك في الشاي الذي تشربه، والطعام الذي تأكله، وحتى الأشخاص الذين تبقيهم بالقرب منك.”
“…”
“و عندما يحلّ الليل، لن تستطيع النوم بسهولة. سترتجف من الخوف حتى لحظة إغماض عينيك ، و إن استيقظت مع طلوع الفجر ستتنفس بإرتياح فقط لأنك ما زلت حيًا. لكن الليل سيعود من جديد … و في كل مرة ، سيتكرر الخوف والطمأنينة حتى تفقد صوابك”
كلما زادت كلمات كلايتون، ازداد وجه أليكسيون شحوبًا حتى صار كالرماد.
“وأينما ذهبت، لن يكون هناك حراسة مشددة كقصر الإمبراطور. حتى لو كانت الحراسة بنفس المستوى، فلا شيء يعجزني عن اختراقه”
أنهى كلايتون كلامه، ثم تراجع خطوة مبتعدًا عن أليكسيون.
“انتحار ولي العهد المعزول … أليس سببًا وجيهًا نوعًا ما؟”
ثم راح يبتسم بإبتسامة ملتوية ، مستمتعًا بتأمل وجه أليكسيون المتجمد من الخوف.
لم يستطع أليكسيون أن ينطق بكلمة واحدة.
فولي العهد المخلوع لم يعد بإمكانه استخدام فرسان الإمبراطورية كحرس شخصي.
لذا، كان عليه أن يبحث عن حرسه الخاص بنفسه.
ولكن…
ماذا لو أن أولئك الحراس الذين سأستأجرهم كانوا في الحقيقة قتلة أرسلهم دوق ساير؟
تسللت تلك الفكرة إلى رأسه فجأة، وسرعان ما اجتاحه الخوف.
الخوف من أنه قد يُقتل فعلاً.
كان ذلك الشعور، لأول مرة في حياته، غريبًا ومربكًا لأليكسيون.
كلايتون، الذي كان يراقب تعابير أليكسيون المتقلبة، ودّعه بابتسامة هادئة قبل أن يغادر المكان بكل هدوء.
“إذن، أتمنى لك يومًا هادئًا”
لكن، منذ ذلك اليوم …
لم يعرف أليكسيون يومًا هادئًا واحدًا.
* * *
[ولي العهد أليكسيون ، يُخلع من منصبه!]
انتشر خبر خلع ولي العهد كالنار في الهشيم في أرجاء الإمبراطورية.
وكان الإعلان الرسمي يُرجع السبب إلى تدهور حالته الصحية ، و أنه بحاجة إلى التوجه إلى منطقة هادئة للاستجمام.
لكن لم يصدق أحد هذا الكلام.
“من الذي يخلع شخصًا لأنه مريض؟ هذا كذب واضح. لا بد أن هناك سببًا آخر.”
قالت رايتشل وهي تطوي الصحيفة التي كانت تقرأها، وتضعها بقوة على الطاولة.
ثم أكملت كلامها بارتياح ظاهر:
“على أية حال ، بغض النظر عن السبب، فهذا خبر رائع لإمبراطورية جرانوس. كنت حقًا قلقة من المستقبل لو أصبح هذا الرجل إمبراطورًا”
ابتسمت وكأن عبئًا ثقيلًا قد أزيح عن صدرها، ثم سألت:
“أليس كذلك ، داليا؟”
هزّت داليا رأسها موافقة، وقد كانت تستمع بصمت لكلمات رايتشل.
“نعم، حقًا إنه لأمر مريح.”
قالت ذلك بابتسامة رقيقة، ثم ارتشفت من فنجان الشاي الذي كانت تمسكه.
فقد كانت هذه هي المرة الأولى منذ مدة طويلة التي تلتقي فيها برايتشل، التي جاءت من الشمال فور سماعها بعودة داليا إلى العاصمة.
رايتشل، التي أصبحت الآن أمًا لطفلين، لم تعد تلك المرأة التي كانت تبكي وهي تعانق داليا أول مرة.
كل تركيزها كان منصبًا على داميان الصغير.
“داميان ، هل أعجبك البارفيه؟ هذا هو أشهر طبق في هذا المقهى.”
“نعم! لذيذ جدًا!”
أومأ داميان بقوة برأسه و هو مغطى ببقع الشوكولاتة حول فمه، وكأنه يُظهر مدى إعجابه. يبدو أن البارفيه الذي أوصت به رايتشل قد نال استحسانه.
“يا إلهي، كم هو لطيف …”
قالت رايتشل وهي تمسح فم الطفل بمنديل وهي تنظر إليه بحنان بينما كان يستمتع بتناول البارفيه.
“يبدو أن داميان طفل هادئ حقًا. لو رأيتِ توأمي في البيت ، لعرفتِ كم هما شقيان …”
هزت رايتشل رأسها و كأنها لا تزال مرهَقة منهما.
فسألتها داليا بصوت فيه شيء من الخيبة:
“لمَ لم تصطحبيهما معك؟ كنت أرغب برؤيتهما أيضًا”
لكن رايتشل لوّحت بيدها بسرعة كما لو أن الأمر خارج عن المنطق تمامًا: “هذا مستحيل تمامًا. لو أحضرتُهما، لما تمكنتُ حتى من الحديث معكِ ، داليا. لكن في المرة القادمة ، تعالي لزيارتنا في منزلنا. لا زلتُ لا أملك الشجاعة للخروج برفقتهما”
أخبرتها رايتشل أنها أنجبت توأمًا من الذكور قبل ثلاث سنوات، ثم بدأت بسرد مغامراتهما الشقية و المشاكل التي سبّبوها، واستمرت بذلك لبعض الوقت.
ومع مرور الوقت، وبينما كانت تنظر إلى الساعة، شهقت فجأة ونهضت من مقعدها: “يا إلهي، هل تأخرتُ لهذا الحد؟ إن تأخرتُ أكثر ، سيُحدِث التوأمان فوضى في البيت بلا شك! لقد قضيتُ وقتًا رائعًا اليوم. داميان ، تعال لزيارة منزل عمّتك قريبًا ، حسنًا؟”
“حسنًا-!”
راقبت داليا بإبتسامة خفيفة ظهر رايتشل و هي تبتعد مسرعة كمن تذكّر فجأة شيئًا مهمًا.
ثم مدت يدها نحو داميان:
“هيا بنا ، داميان؟”
“حسنًا!”
بدا أن داميان كان سعيدًا بعد أن تناول الحلوى ، إذ كانت خطواته خفيفة ونشيطة.
وبينما كان الاثنان ينتظران عربة تقلهما إلى القصر، حدث شيء مفاجئ.
“سيدتي”
عندما سمعت الصوت المألوف ، استدارت داليا على الفور، واتسعت عيناها بدهشة.
“… لويد؟”
كان لويد، الذي انقطعت أخباره منذ أن افترقا في إيستر.
وركض داميان الذي كان يُمسك بيد داليا نحو لويد بوجه مفعم بالبهجة.
“عمي -!”
“داميان”
ضمّه لويد بشدة و كأنه اشتاق له كثيرًا ، و كان واضحًا كم كان سعيدًا برؤيته مجددًا.
“كنت تستمع إلى أمك و تتصرف جيدًا، أليس كذلك؟”
“نعم! والآن صار عندي أب! إنه رائع جدًا!”
“… حقًا؟ هذا خبر رائع. مبارك لك ، داميان”
“هل تريد أن ترى أبي أيضًا ، عمي؟”
“هذا …”
“داميان.”
عندما بدا التردد واضحًا على وجه لويد بسبب سؤال الطفل البريء ، نادت داليا على داميان بلطف كي توقفه.
“تعال إلى هنا”
“حاضر …”
ربما لأنه أراد البقاء مع لويد لفترة أطول، برزت شفتا داميان وهو في طريقه إلى داليا. نظرت إليه داليا للحظة، ثم حوّلت بصرها إلى لويد.
“كيف كنت في الفترة الماضية؟”
“كنتُ بخير إلى حدٍ ما”
“أفهم …”
على الرغم من السنوات الخمس التي عاشاها معًا ، إلا أن الأجواء بينهما بدت غريبة و متوترة.
و لعل ذلك يعود إلى أن داليا ، من خلال حديثها مع كلايتون ، علمت بشكل طبيعي بما فعله الشقيقان هيرتز لتعكير الأمور.
في البداية، كانت تلوم الاثنين على ما فعلاه.
و لكن الآن … لا.
لقد أصبحت أمورًا من الماضي. لم يعد من المجدي أن نبحث الآن عمّن كان على حق و من كان مخطئًا. بدا الأمر سخيفًا.
كما أنه لولا وجود لويد ، لكان من الأصعب عليها أن تصمد خلال السنوات الخمس الماضية.
لذلك، لم تكن داليا تحمل أي مشاعر سلبية تجاه الشقيقين هيرتز. بل ، كانت تشعر بقليل من الذنب تجاه لويد.
فقد أدركت متأخرًا سبب بقائه بجانبها طوال تلك السنوات الخمس.
كانت فقط تخدع نفسها و تعتبر كل ذلك مجرد صداقة.
و لو أنها أدركت ذلك في وقت أبكر و رفضته بوضوح ، ألم يكن من الممكن أن يتغير المستقبل قليلًا؟ ألم يكن من الممكن أن لا يُضيّع لويد خمس سنوات من عمره عبثًا؟
و بينما كانت غارقة في مثل هذه الأفكار المعقدة …
كان لويد هو من كسر الصمت أولًا.
“أنا و روز سنغادر إلى المقاطعة غدًا. و على الأرجح ، لن تكون لدينا فرصة للعودة إلى العاصمة لفترة من الزمن”
تفاجأت قليلًا من حديثه عن مغادرة العاصمة، لكنها أومأت برأسها بعد برهة. لا بد أن ذلك كان الخيار الأفضل لهما.
“…أفهم. إذن ، في تلك المنطقة …”
قاطعها لويد و اعترف بصدق:
“لقد أحببتكِ”
“…”
“حقًا ، كثيرًا”
كانت ذلك أول اعتراف منه ، و آخر اعتراف.
و عند سماع اعتراف لويد العميق و الثقيل ، همست داليا بإسمه بخفوت: “…لويد”
“و أنا آسف. أعتقد أننا ارتكبنا الكثير من الأخطاء بسبب أنانيتنا”
“…”
ابتسم لويد ابتسامة خفيفة و هو يقول كلماته الأخيرة:
“أتمنى لكِ السعادة. إن كنتِ سعيدة ، فهذا يكفيني”
و هكذا ، وداعًا الآن.
و كأنه يقول إن هذا كل ما أراد قوله ، انحنى لويد برأسه قليلًا ، ثم استدار دون تردد و بدأ يمشي في الاتجاه المعاكس تمامًا لها.
لكن …
“لويد”
نادته داليا ، محاولة إيقافه و توقفت خطواته فورًا.
لكنه لم يلتفت.
“أنا أيضًا … ممتنة حقًا لكل ما فعلته في تلك الفترة. و أيضًا …”
ترددت داليا قليلًا في إنهاء عبارتها ، ثم أخرجت أخيرًا مشاعرها التي كانت تحتفظ بها في قلبها.
“أنا آسفة … و سأدعو من كل قلبي أن تكونا سعيدين”
“…”
أومأ لويد بصمت ، دون أن ينبس ببنت شفة ، ردًا على وداعها الأخير.
ثم واصل خطواته التي كان قد توقّف عنها للحظة.
وببطء، بدأ ظهره يختفي تدريجيًا من مجال رؤيتها.
“أمي؟”
شعر داميان بأن الأجواء أصبحت ثقيلة لسببٍ ما، فنادى والدته بحذر.
عندها تنهدت داليا تنهيدة قصيرة ونظرت إليه.
كانت ملامحها قد أصبحت أكثر ارتياحًا.
“هل نعود الآن؟”
إلى حيث يوجد كلايتون.
و في اللحظة التي ابتسم فيها داميان بدفء ، بعدما رأى وجه أمه و قد أشرق من جديد …
“داليا.”
كان كلايتون واقفًا أمام العربة التي سيستقلانها ، لا يُعلم متى وصل إلى هناك.
“أبي!”
و ما إن رأى داميان والده ، حتى ركض نحوه بسرعة و ارتمى بين ذراعيه. فرفع كلايتون الطفل بين ذراعيه وهو يبتسم له بحنان.
“كلايتون؟”
اقتربت داليا وهي تميل برأسها ، مستغربةً قدوم زوجها المفاجئ.
“انتهيت من عملي باكرًا اليوم. و علمت أنكما خرجتما ، ففكرت أن نتناول العشاء معًا.”
“إذن سنتعشّى في الخارج اليوم؟!”
ارتفع صوت داميان بحماس عند سماع كلام كلايتون.
“نعم. وماذا يريد داميان أن يأكل؟”
“أمم … أريد بارفيه!”
“لكن هذا ليس عشاءً”
“إذًا ، ماكرون! لا ، لا ، كعكة الفراولة!”
و بينما كان يسرد أسماء الحلويات التي يرغب في أكلها ، ارتسمت على وجه كلايتون ابتسامة مرحة ، ثم مدّ يده نحو داليا.
“هيا بنا”
نظرت داليا بهدوء إلى يد كلايتون الممدودة نحوها ، ثم ابتسمت و أمسكت بها برقة.
“حسنًا”
زوجان لطيفان و طفل يشبههما كثيرًا.
كان مشهدًا لعائلة سعيدة ، لا يشكّ أحد في ذلك.
<البطلة الهارِبة لم تَهرُب> – النهاية.
التعليقات لهذا الفصل "الفصل الأخير [النهاية]"