لم تطيع إيلين كلامها. بل والأسوأ من ذلك، كانت تنكره من جديد.
بالنسبة لكورِيليا، كان من الغريب جدًا أن تسير الأمور على غير هواها. فأليست إيلين كائنًا من المفترض أن ينهار أمامها؟
لكن نظرة إيلين إليها، وكأنها تنظر إلى حشرة، جعلت قشعريرةً تسري في جسد كورِيليا.
‘متى كبرت هكذا؟’
كانت كورِيليا لا تزال تتذكر الطفلة الصغيرة التي كانت تتشبث بقدميها. تتذكر ضعفها، وعجزها عن فعل أي شيء.
ألم تكن تطمئن دائمًا حين تنظر إلى إيلين تلك؟
كانت كورِيليا تظن أن إيلين، بما أنها نشأت في ظروف مشابهةٍ لها، فلا بد أن تصبح مثلها. لكن كل توقعات كورِيليا خابت. فلم تكبر إيلين كما تصورتها.
“لمجرد أني لم أرتدِ الفستان الذي أرسلتهِ لي…..حاولتِ ضربي.”
قالت إيلين ذلك، ثم أمسكت بيد كارون. فما كان من كارون إلا أن وقف بجسده بينها وبين كورِيليا ليبعدها عنها.
كان يشعر في تلك اللحظة أن حياته كلها قد أُنكِرت.
لم يكن لأنه لم يصدق كلام إيلين، لكن مواجهته بهذه الصورة جعلته يندم لأنه لم يخرج من الماضي في وقتٍ أبكر.
أمسك كارون بمعصم إيلين وهو يحدق في كورِيليا بنظراتٍ حادة.
كانت يده ترتجف، محاولًا كبح الغضب المتصاعد في داخله.
“أنا…..لن أناديكِ أمي بعد الآن.”
“ما هذا الكلام يا كارون؟ هل تصدق ما قالته إيلين حرفيًا؟ تلك الفتاة تكذب مجددًا فقط لأنها لا تحبني..…!”
كلام كورِيليا جعل كارون يشعر بالمهانة.
لم يكن غضبه موجّهًا نحو كوريليا فقط، بل كان أيضًا إذلالًا لنفسه لكونه كان ساذجًا.
“من الأفضل أن تصمتي الآن. إن سمعتُ المزيد من هذا الهراء…..لا أعلم ما الذي قد أفعله.”
“….…”
“تنحّي حالًا.”
كان كارون يرتجف من خيبة الأمل والخيانة، بقدر ما كان يثق بها من قبل.
ومن خلال نظرته الباردة، أدركت كورِيليا أنها فقدت أحد جنودها. كقطعة خرجت من رقعة الشطرنج.
نظر كارون إلى كورِيليا وشارلوت بنظراتٍ قاتلة، ثم تحرك مبتعدًا.
***
أمسك كارون بمعصم إيلين وقطع قاعة الحفل بسرعة. بينما راح النبلاء في القاعة يتهامسون وهم ينظرون إلى وجه كارون المتجمد المرعب.
“يا إلهي، يبدو أنهما تشاجرا مجددًا.”
“سمعتُ أن حالها تحسّن مؤخرًا، لكن يبدو أن السيدة إيلين ميؤوسٌ منها حقًا.”
كارون عضّ على أسنانه من الغيظ بسبب هذه الشائعة السخيفة. لكنه أدرك أن التصرف بعاطفة في هذا المكان لن يغيّر شيئًا.
كان يشعر بنظراتٍ لا حصر لها موجهةً نحوه بينما أسرع بخطاه مغلقًا أذنيه عن كل شيء.
فريدين، والفرسان المتدربون التابعون له، وديتريون، والقديسة…..
‘هل كنت الوحيد الذي لم يلاحظ؟ هل كانوا جميعًا يعرفون الحقيقة؟’
لم يكن يدري إن كان هو الوحيد الذي عاش متغاضيًا عن الحقيقة طوال هذا الوقت. و كل ما فعله الآن هو أن يمسك بيد إيلين ويتوجه نحو القاعة المركزية في الأكاديمية، حيث يتدرب الفرسان المتدربون التابعون لفِريدين.
ويا للصدفة، فقد كان نفس المكان الذي سمع فيه حقيقة إيلين، لكنه لم يجد مكانًا أكثر أمانًا من هذا.
حتى لحظة وصوله إلى القاعة المركزية، لم يستطع أن يقول شيئًا بسبب الاضطراب والعجز اللذين شعر بهما.
بل وحتى حين روت إيلين كل الحقيقة، لم يستطع تصديقها على الفور.
عض كارون على شفتيه بقوة.
ماذا لو كان في مكان إيلين؟ ماذا لو مرّ بنفس ما مرت به؟
“أنا آسف.”
“….…”
“أنا آسف لأنني لم أدرك الأمر حتى الآن.”
“…….”
“أنا آسف…..لأني اتهمتكِ دون أن أعرف شيئًا.”
ارتجف صوت كارون وهو يتكلم.
أخيرًا أدرك أن إيلين كانت تتحمّل وتصبر وحدها طوال تلك السنوات. لكنها كانت صحوةً متأخرة جدًا.
إيلين، وهي تنظر إلى كارون، شعرت وكأن أحدًا يعصر قلبها بألمٍ لا يُحتمل.
“هل…..تثق بي؟”
“أجل.”
“أحقًا تصدق كلامي، كارون؟”
“أصدق. أصدق أن كل الشائعات كانت كذبًا، وأنكِ لم تفعلي شيئًا خاطئًا..…”
اهتزت عينا إيلين بخفة، ثم أرخت رأسها على كتف كارون.
مرت أمام عينيها لمحاتٌ من الماضي. الماضي الذي لم يصدقها فيه أحد، سوى فريدين.
كم انتظرت أن يقول لها أحدهم إنه يصدقها. وكم تمنت أن يقول لها أحدهم: “كم عانيتِ حتى الآن.”
وضع كارون يده على كتفها المرتجف برفق. لم يكن بارعًا في مواساة الآخرين. لكنه لم يكن غبيًا إلى درجة أنه يجهل ما يجب فعله الآن.
عانق كارون شقيقته الكبرى بحذر وراح يربت على ظهرها بلطف.
اتكأت إيلين عليه وأغمضت عينيها للحظة. فثد كان حضن شقيقها دافئًا.
“دعينا نخبر والدي بكل ما حدث لكِ حتى الآن.”
كانت كلماتٍ عذبة جدًا.
لو كانت إيلين في أيام جهلها القديمة، لربما كانت ستتردد للحظة أمام كلامه، وربما كانت ستطيعه في النهاية.
لكن إيلين تعرف. تعرف حتى ما الذي سيحدث مستقبلًا في قصر الماركيز ليسيروس.
تراجعت بهدوء مبتعدةً عن كارون.
“لا، كارون. فقط تظاهر بأنكَ لا تعرف شيئًا.”
“أختي؟”
“إن فعلتَ شيئًا كهذا، فلن تتركك كورِيليا وشأنك.”
“……”
“أنت ما زلتَ ضعيفًا، كارون.”
توقعت إيلين أن يغضب من كلماتها المباشرة، لكنه لم يفعل شيئًا.
ظل صامتًا لفترة، ينظر إليها بعينين محمرتين، ثم استدار وغادر القاعة المركزية دون أن ينبس بكلمة.
كانت إيلين تدرك أن كلماتها كانت قاسية. وربما كان كارون يشعر بالحزن لأنه لم يستطع مساعدة عائلته.
لكن إيلين لم تكن تريد أن يتورط كارون في انتقامها. فالحزن أيضًا، لا يمكن الشعور به إلا حين يكون المرء على قيد الحياة.
تَقط- تَقط-
بدأ المطر يتساقط بخفة.
حين عادت إيلين إلى ذهنها وجدت نفسها شاردة، ثم خرجت فجأة تحت المطر دون تفكير.
حتى في ذلك اليوم الذي خرجت فيه لتطهير الوحوش، كان المطر يتساقط. وفي ذلك اليوم، التقت بفِريدين.
‘أريد أن أراه…..أشتاق إليه.’
كانت تشتاق إليه بشدة.
أرادت أن تشعر بأنه ما زال حيًا. و أن تسمع أنفاسه، وتلمس وجهه.
سارت إيلين دون وجهة، بينما المطر يبلل فستانها.
ربما عليها أن تغادر هذا المكان قريبًا لتقوم بما يجب عليها فعله. للم يكن لديها وقت لتضيعه بالعجز.
‘لهذا…..لا يجب أن أمرض الآن..…’
فجسدها الضعيف ما زال لا يحتمل الكثير، وإذا ابتلت بالمطر، فستمرض بسهولة.
كما أنه، مهما واصلت السير، فلن تتمكن من لقاء فريدين بهذه الطريقة. فهو نجم الحفل، رجلٌ مشغول للغاية. و ما كانت تفعله إيلين لم يكن له أي معنى له.
لكن، وقبل أن تذهب بعيدًا، اتسعت عيناها فجأة. فمن بعيد، رأت فريدين يبحث حوله كما لو كان يبحث عن شيءٍ ما.
كان تمامًا كما حدث يوم مهمة تطهير الوحوش…..
تراجعت إيلين خطوتين إلى الوراء دون أن تشعر. ففي كل مرة تشتاق فيها إليه بشدة، كان فريدين يظهر أمامها فجأة وكأنه قدرها.
وما إن رآها واقفةً هناك بصمت حتى أسرع نحوها راكضًا.
“سيدة إيلين، هل أنتِ بخير؟ حين رأيت كارون يغادر مسرعًا، أقلقني الأمر فجئتُ أبحث عنكِ.”
“….…”
“لا يمكن، لقد قال لكِ شيئًا جرحكِ مجددًا، أليس كذلك؟”
‘الكلمات التي جُرحت، أنا من قلتها.’
ابتلعت إيلين الكلمات التي لم تستطع البوح بها. بينما أمسك فريدين بمعصمها برفق، ثم مال بجسده ليحميها من المطر المنهمر.
راقبته إيلين بصمت وهو يفعل ذلك. و كان دفء يده الممسكة بمعصمها حارًا على نحوٍ غريب.
‘فريدين…..هل ما فعلته اليوم كان صوابًا؟ بشخصيتك اللطيفة، قد توبخني إذا علمت بما فعلت.’
احمرت عينا إيلين، وراحت أطراف أصابعها ترتجف تحت تأثير مشاعرها المتصاعدة.
ألم تقسم على أن تبتعد عن فريدين؟ ألم تقرر أن تصبح شريرةً طواعية لتنقذه؟ ألم تفعل؟
ومع ذلك، تسللت إليها الرغبة مجددًا دون استئذان.
حين تفكر في ما سيحدث لاحقًا، فهي تدرك أن وقتها معه بات محدودًا جدًا. فهل يُعدّ كثيرًا لو سمحت لنفسها برغبة صغيرة…..أخيرة؟
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 52"