جلست إيلين على جذع شجرةٍ وأغمضت عينيها لتأخذ قسطًا من الراحة.
حدّق فيها فريدين مطولًا. فحتى داخل أراضي قوم الذئاب، لم تكن تبدو عليها أي علامة خوف.
من الطبيعي أن يشعر أي شخصٍ يدخل أرض قوم الذئاب، المعروفين بقوتهم وعدائيتهم، بالخوف. بل في الأساس، لا أحد كان ليجرؤ على مجرد التفكير في دخول هذه الأرض.
“حين أنظر إليكِ، أشعر وكأن هذا المشهد مألوف.”
“….…”
“كأنني نسيتُ شيئًا ما.”
قال فريدين تلك الكلمات بدافع شبه تلقائي. لكن كلماته، رغم أنها خرجت بصوتٍ خافت، الا أنها كانت كافيةً لهز مشاعر إيلين. فارتجفت أطراف أصابعها برقة.
أما فريدين، دون أن ينتبه لردة فعلها، واصل كلامه.
“كأنني……نسيتُ أمرًا بالغ الأهمية.”
وقبل أن ينهي كلامه، خطر في بال إيلين ما يملكه فريدين من قدرة خارقة.
في الماضي، حين انكشف أنه يملك “عينٌ ترى الحقيقة”، فقام الإمبراطور باضطهاده بشدة.
كنت أظن أن قدرته لا تتعدى رؤية ماضي الآخرين، لكن……هل كنتُ مخطئة؟ هل يُعقل أنه رأى ماضيِّ؟
شعرت إيلين بالخوف. إن كان قد رأى تلك النهايات المأساوية……وإن علم أنه مات بسببها……
“آنسة إيلين؟”
أفاقت إيلين من أفكارها على صوت فريدين الذي يناديها.
عيناه الزرقاوان الصافيتان كانتا تحدقان بها. و عندما رأت انعكاس صورتها في عينيه، شدّت شفتيها بصمت.
كانت تبدو كجرو تائه تخلّى عنه صاحبه. لا بد أن وجهها بدا بائسًا في نظره أيضًا.
وبشق الأنفس، فتحت فمها وأجابته.
“ما الذي تعنيه بكلامك؟”
“……لا تهتمي. ربما توترتُ فجأةً وبدأ رأسي يضج بالأفكار. فالمكان هنا ليس آمنًا على أي حال.”
عندها فقط أدرك فريدين أنه قال شيئًا في غير محله. و بالفعل، لا بد أن ما قاله أربك إيلين بشدة.
لكنها تظاهرت بعدم الانتباه لكلامه وغيّرت الموضوع بسؤالٍ جديد.
“هل أنت قلقٌ من أن يؤذيكَ شعب الذئاب؟”
وقفت إيلين أمام فريدين، تنظر إليه من الأعلا وهو لا يزال جالسًا.
“ولكن، لماذا أتيتَ إلى هذا المكان؟”
“لم أستطع البقاء بعيدًا. آمون، وليليا، وحتى أنتِ يا آنسة إيلين……جئتم إلى هنا بسببي.”
“….…”
“كثيرون ضحوا بأنفسهم لحمايتي حتى الآن. لم أعد أطيق أن أقف مكتوف الأيدي وأشاهد نفس الشيء يتكرر.”
“لا أحد سيفكر في الأمر بهذه الطريقة.”
ابتسم فريدين بخفة عندما سمع كلماتها.
“إن كان الأمر كذلك، فأنا مرتاح. على الأقل، إن أتيتُ إلى هنا، فلن يموت آمون أو ليليا. وحتى لو أُمسكت كرهينةٍ بدلًا عنهما، فلن يجرؤوا على قتلي بسهولة عندما يعرفون من أكون.…..ربما.”
قال فريدين ذلك وهو يعبث بسلسلة قلادته. ثم ابتسم بمرارة وحدّق في إيلين.
كانت تنظر إليه بنظراتٍ مفعمة بالشفقة.
في الحقيقة، منذ وقت ما، بدأت تنظر إليه دائمًا بذلك الحزن في عينيها. ولم يكن فريدين يعرف متى بدأ ذلك بالضبط.
لكنه فكّر، ولو بشكلٍ غامض، كما تقول الشائعات……هل يُعقل أن إيلين تحبه؟ لكن عندما سمع أنها تريد فسخ الخطوبة، أدرك حينها أن الأمر لم يكن كما ظنه.
هل من الممكن أن الماركيز ليسيروس، الذي كان محافظًا على الحياد، انضم فجأةً إلى صف الإمبراطور؟ وأن إيلين اضطرت لخطبته من أجل مراقبته؟
إن كان الأمر كذلك، فربما يكون كلامها عن رغبتها في فسخ الخطوبة مبررًا إلى حد ما.
فريدين لم يستطع نسيان إيلين، حين غطّاها الدم وهي تحاول حماية آمون والأميرة. ولا تلك اللحظة التي قالت له فيها أن يكرهها.
في ذلك الحين، لم يفهم ما الذي كانت تعنيه بكلامها. لكنه كان قادرًا تمامًا على فهم نظراتها.
على الرغم من قولها “اكرهني”، كانت تنظر إليه بعينين مفعمتين بالمشاعر.
فريدين اعتاد نظرات الإعجاب أو الحب من الآخرين، بل وكم من مرة تلقّى اعترافات حب من أشخاص لا يعرفهم أصلًا.
لكن نظرات إيلين كانت مختلفةً تمامًا. وإن سُئل عن نوع هذا الشعور، لم يكن ليقدر على وصفه بالكلمات.
ذلك العمق العاطفي……لم يجرؤ حتى على تقديره.
“لماذا تريدين فسخ خطوبتنا يا آنسة إيلين؟”
عند سؤاله، أطبقت إيلين شفتيها بصمت.
“أنا……لا أريد فسخ الخطوبة معكِ.”
هبّت الريح، فتطاير شعر فريدين مع نسماتها. و كان الغروب يلوّن السماء، وشعره الأشقر اكتسى بحمرة الشمس الغاربة.
شفاهه الحازمة، وعيناه الزرقاوان الجميلتان……مع كل ذلك شعرت إيلين بانقباضٍ في صدرها.
حاولت أن تفسّر الكلمات التي سمعتها لتوّها. هل هي تحلم الآن؟ ما الذي قاله فريدين بالضبط……؟
‘لماذا……؟ لماذا تنظر إليّ بنفس النظرات كما في الماضي……؟ لماذا تجعلني أتوهم……بتلك النظرات الحنونة……؟’
كانت على وشك أن تتكلم، لكنها توقفت فجأة عندما شعرت بوجود أحدهم يقترب. فاستدارت بسرعة، وفريدين بدوره وقف منتبهًا لما يحدث.
توجهت أنظارهما معًا نحو نفس الاتجاه.
“اركض!”
“تحرّك بسرعة!”
كان هناك عددٌ من أفراد الذئاب متجمعين، وعلى مقربةٍ منهم كان هناك طفلٌ صغير. مع كل حركة تهديدية من الرجال، كان صوت نحيبٍ خافت يتسرّب من الطفل.
جسده، الذي رأوه للحظة، لم يكن فيه موضعٌ واحد سليم.
كان الذئاب يجرّونه قسرًا رغم أنه لم يكن قادرًا على الحركة. فحاول الطفل الدفاع عن نفسه قدر الإمكان، لكن ذلك لم يؤدِ إلا إلى زيادة جراحه.
كانت حركات ذراعيه النحيلتين تثير الشفقة.
تأملت إيلين عيني الطفل. عيناه الخاليتان كانتا توحيان بأنه فقد نصف إرادته في الحياة.
شعره الأسود المموج، وعيناه الحمراوان……عرفت إيلين هويته على الفور.
كان هو الساحر الذي سيقود يومًا ما الذئاب في المستقبل، ويقوم بمجزرةٍ ضد أبناء الإمبراطورية.
تلاقت عينا إيلين وفريدين، ولا شك أنهما فكّرا في نفس الشيء. فتبعوا الذئاب بصمت.
ومع كل صرخة ألمٍ قصيرة يطلقها الطفل، شعرت إيلين بالاشمئزاز يتصاعد في داخلها.
كانت تتوقّع أن الساحر الذي ارتكب المجازر في الماضي قد يكون من بين اللاجئين، لكن لم يخطر ببالها أبدًا أنه تعرض لمثل هذه المعاملة.
لقد بدا الطفل وكأنه نسخةٌ من ماضيها. فشعرت بالغثيان يصعد في حلقها.
‘هذا……ظلمٌ لا يُحتمل.’
جسدها ارتعش، وكأنها توشك على الاندفاع نحوه، لكنها قاومت بشدة، وكبتت مشاعرها بصبر خارق.
“ماذا حدث للذين دخلوا حدود الأراضي؟”
“قالوا لنا أن نتركهم، وسيتعامل معهم بعد الانتهاء من هذا الأمر.”
تشنّج جسد إيلين. الساحر من قوم الذئاب الذي رأته في المستقبل، لم يكن قادرًا على الإبصار. والآن فقط، بدأت تفهم السبب.
حين حاولت الاندفاع للأمام، أمسك فريدين بذراعها ليمنعها،
“إجبار طفلٍ على هذا الشكل من التعذيب……ما السبب؟”
“علينا أن نتبعهم.”
“لا فرصة لنا يا آنسة إيلين. إن ذهبنا، فسوف نقع أسرى لدى الذئاب!”
تجمدت إيلين في مكانها. كلام فريدين كان قاسيًا، لكنه واقعي. في ظل هذا الوضع، ملاحقة قوم الذئاب تعني طلب الموت بوعي.
لكن ما قاله بعد ذلك جعل قلبها يغمره شعور لا يمكن وصفه بالكلمات.
“آنسة إيلين، ابحثي عن ليليا وآمون، واهربي معهما. سأشتّت انتباههم. حينها، يمكننا أيضًا أن نحمي عيني ذلك الطفل. ومهما حصل، لن يسمح والدي أن أُقتل على يد قوم الوحوش.”
“….…”
كانت نظراته صافية، و حازمة.
نظرت إليه إيلين بصمت، ولم تستطع قول شيء. كان شخصًا طيبًا……تمامًا كما تذكّرته من الماضي.
قاد قوم الذئاب الطفل إلى ساحة واسعة. وكان هناك بالفعل ما يقارب ستة من رجالهم متجمعين في ذلك المكان.
أحد رجال قوم الذئاب، الذي كان يحمل سوطًا، دفع الطفل بقسوة إلى الأرض. فشعرت إيلين بالغضب يشوّه ملامح وجهها وهي تراقب تصرفاتهم.
كان في يد أحدهم أداةٌ معدنية محماة بالنار. و لو ترددت للحظة، فقد يقع شيء لا رجعة فيه.
فريدين، وإن لم يكن قادرًا بعد على تغليف سيفه بالمانا، إلا أنه يملك مهاراتٍ قتالية تؤهله قريبًا ليكون فارسًا من الدرجة العليا.
وإيلين كذلك، فقد أعطت لنفسها مستوى مقاربًا لذلك من خلال قدراتها الاستثنائية.
لكن حتى مع وجود اثنين من فرسان النخبة، كان من الصعب التغلب على عشرةٍ من رجال قوم الذئاب.
ولهذا، ربما يشك فريدين في مهاراتها إن رآها تقاتلهم.
‘لكن لا خيار لدي. علي أن أنهي الأمر بسرعة.’
فكرت إيلين بذلك وهي تعدّل وضع سيفها.
“لنُنْهِ الأمر بسرعة. الزعيم قال أنه أمسك بالساحرة البشرية والفارس.”
“وهناك من تسلل إلى المنطقة أيضًا؟ من يجرؤ على ذلك؟ هل يريدون أن يموتوا؟”
قال رجال قوم الذئاب هذا وهم يقتربون من الطفل.
_________________________
بزر يامجانين! توقعت المستئذبين مظلومين وانهم بس يدافعون عن ارضهم بس لا مره يع
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 31"