الفصل التاسع
اقترب الخادم من الكونت مولدوفان وقدّم له معطفه ثم همس له ببضع كلمات.
حتى من دون أن أسمع، كنت أعلم ما قاله. لا شك أنه نقل إليه كلام آينس منذ قليل: “لا تقم بتصرفات لا داعي لها.”
ارتبك الكونت مولدوفان بشدة، فألقى نظرة نحوي ثم ابتسم بوجه محرج. بعدها انحنى أمامنا تحيةً وغادر قاعة الحفل.
ظللت أحدّق بظهر الكونت مولدوفان وهو يبتعد، ثم التفتّ إلى آينس.
“ما الذي تفعله الآن؟”
خرج صوتي حادًا على غير إرادة مني.
قال آينس بصوت منخفض:
“اخفضي صوتك. ألا ترين أن الناس يحدقون بنا؟”
نظرت حولي كما قال.
كان من الأساس كثير من العيون مسلطة علينا، والآن بعدما خاطبته بنبرة محاسِبة، شعرت أن أحاديث الآخرين بدأت تخفت شيئًا فشيئًا.
لو واصلنا الحديث هنا، فلن يمر الأمر من دون أن يولّد شائعات جديدة.
قال آينس:
“فلننتقل من هنا أولاً.”
ثم استدار بخطوات واثقة، ولم أجد بُدًا من اللحاق به متأخرة.
عندما وصلنا إلى الشرفة، خلع آينس معطفه وقدّمه لي. بقيت أحدّق في المعطف الممدود ثم رفعت رأسي إليه.
“ما هذا؟”
“إذا خرجتِ مرتدية ثيابًا خفيفة، فعلى الأقل غطي كتفيك بشال. لا تأخذي معطفًا من أمثال الكونت مولدوفان.”
سألته متبرّمة:
“كنتَ غريبًا منذ قليل، ما الذي يدفعك للتصرف هكذا؟”
لكن آينس لم ينتظر أن آخذ المعطف، بل وضعه بنفسه على كتفيّ. ثم أطلق تنهيدة ثقيلة.
“هذا لأنك ساذجة أكثر من اللازم.”
“أنا؟”
“نعم. ألا تدركين وضعك الآن؟”
“ولِمَ لا أدرك؟ أنا مجرد سيدة مطلقة من بيت لورد عادي.”
قال آينس بلهجة حادة:
“والمبلغ الذي حصلتِ عليه كنفقة الطلاق…؟”
صمتُّ.
حينها تذكرت بعض ما كان يتناقله الناس: كلمة “النفقة” كانت حاضرة في أحاديثهم.
بطبيعة الحال، لم يكن أحد يعرف الرقم الحقيقي. لكن من المؤكد أن هناك شائعات بأني حصلت على مبلغ ضخم بعد انفصالي عن دوق غراهام.
أدركت الآن ما يعنيه آينس. إنه يلمّح بأن الكونت مولدوفان ليس سوى طفيلي يطمع في تلك الأموال.
في الواقع، كانت نوايا مولدوفان مشكوكًا فيها منذ البداية.
حتى لو كانت مشاعره صادقة، فلن أستطيع تجنّب مثل هذه الشبهات، فالظروف كلها ضدي.
قال آينس:
“ابحثي قليلًا عن الكونت مولدوفان ومن حوله. عندها ستفهمين سبب تصرفي.”
ثم همّ بمغادرة الشرفة.
تابعتُ خطواته بعينيّ، وما إن مدّ يده ليفتح الباب حتى أوقفته.
“انتظر.”
“ماذا؟”
“أفهم ما الذي يقلقك، لكن لماذا تفعل هذا معي فجأة؟ ألم نقل إن كل واحد منّا يتجاهل الآخر؟ … أم تراك تظن أنني سأتعلّق بالكونت مولدوفان وأتنازل له عن كل أموالي؟”
ظل صامتًا.
ولم يكن من الصعب استنتاج ما تعنيه تلك الصمت.
أخذت نفسًا عميقًا أُخفي به ابتسامة ساخرة كادت تنفلت.
“حتى لو حاول أحدهم إغرائي، فلن يحصل شيء كهذا.”
حتى لو كان اعتراف مولدوفان مجرد كذبة، وأنه في الحقيقة يطمع بالمال الذي تركه آينس لي، فلن أعطيه شيئًا.
تلك الأموال كانت الضمان الوحيد لبقائي على قيد الحياة. لن أفرّط بها قبل أن أؤمّن نفسي.
لم يعد لدي طاقة لأُسقِط نفسي مجددًا في دوامة عاطفة عمياء.
“لا تقلق يا دوق. ما تخشاه لن يحدث، وأرجو أن لا يتكرر شيء كهذا مجددًا. ثم فكر قليلًا، تصرفك منذ قليل في قاعة الحفل، كيف تظن أن الآخرين رأوه؟”
ألقيت نظرة سريعة نحو القاعة المزدحمة بالأصوات.
كان بعض الحضور يرمقوننا بنظرات فضول، وما إن التقت أعيننا حتى أشاحوا كأن شيئًا لم يكن.
تصرفات آينس بالتأكيد بدت غريبة لهم.
قدومه للحديث معي، نزعه معطف مولدوفان عن كتفيّ وإعادته له، ثم خروجه معي معًا إلى الشرفة… كلها أمور غير مألوفة.
لو لم نكن مطلقين، لما كان في الأمر غرابة. لكن في وضعنا الحالي، قد يظن البعض أنني أستغل مولدوفان لاستدراج آينس مجددًا.
قلت له ببرود:
“لقد تطلقنا. كان هذا ما تريده بشدة يا دوق.”
ذكّرته مجددًا بحقيقة انفصالنا.
“فلنتعامل كأننا غير موجودين بالنسبة لبعضنا.”
كم كان سخيفًا أن أقول ذلك، وكأنني أنا من ترجّيت الطلاق.
بينما في الحقيقة، كان آينس هو من ألحّ عليّ مرارًا.
“أقدر قلقك، لكن لا أريد منك أي تدخل آخر.”
ثم نزعت معطفه عن كتفيّ وأعدته إليه، واستدرت وغادرت الشرفة دون أن أنتظر ردًا.
ظل آينس واقفًا ينظر إلى معطفه بين يديه دون أن ينبس بكلمة.
عندما عدت إلى القاعة، استقبلتني نظرات الحاضرين. كانت مشابِهة لما واجهته عند دخولي أول مرة.
بعدما شهدوا ما حدث، لم يعد بوسعي أن أقف متوارية في زاوية. بدا واضحًا أنه عليّ مغادرة الحفل فورًا.
سرت عبر القاعة نحو المخرج.
قال خادمي:
“هل تودين العودة يا سيدتي؟”
“نعم. أحضر العربة.”
“أمركِ، انتظري قليلًا.”
أغمضت عيني بينما كان الخادم ينطلق لإحضار العربة.
لقد كان خطأ أن أحضر هذا الحفل. أشعر أنني لم أجلب لنفسي سوى صداع.
كنت أظن أن إظهار وجهي في مثل هذه المناسبات مرات قليلة سيجعل الناس يكفّون عن الاهتمام بي، لكن النتيجة كانت العكس.
والأسوأ أن هناك عائلات كثيرة تتحين الفرصة للارتباط بآينس بعد أن أصبح أعزب. أخشى أن ما حدث اليوم لم يظهرني بمظهر حسن أمامهم أيضًا.
جلست على مقعد في قاعة الانتظار وأمسكت رأسي.
ما إن فكرت في الصداع حتى اجتاحني الألم فعلًا. شعرت بوخز شديد يكاد يقتلع عيني، تبعته غثيان متصاعد.
مددت يدي أضغط على صدري في محاولة لالتقاط أنفاسي، لكن قبضتي لم تطاوعني.
رفعت يدي أمامي فرأيت أصابعي ترتجف بخفة.
“يا إلهي…”
إنها أعراض مبكرة لمرض ترينتز.
تمنيت أن تصل العربة بسرعة. إن تأخرت قليلًا، فقد أفقد وعيي.
أغمضت عيني بقوة في محاولة لتهدئة الدوار الذي اجتاح رأسي.
حينها جاءني صوت الخادم:
“سيدتي مارفيس، العربة بانتظارك.”
الحمد لله. لم يطل الأمر.
لكن ما إن اقتربت ريفِت لتساعدني حتى شهقت بفزع لرؤيتي.
“سيدتي! هل أنتِ بخير؟”
“ريفِت… أعطني حجر المانا بسرعة…”
“لحظة، سأجلبه فورًا!”
أسرعت إلى العربة وأخرجت الحجر الذي كنت أعدّه للطوارئ.
أخذته منها بكلتا يديّ وأغمضت عيني مركزة.
بدأ الحجر يشع بضوء خافت، وانساب النور نحوي حتى امتصصته بالكامل.
معه بدأ الصداع يزول، والغثيان يتراجع، وعادت الأحاسيس تدريجيًا إلى أطراف أصابعي.
عندما انطفأ الحجر تمامًا، أخذت نفسًا عميقًا وزفرت ببطء.
لقد كان حسنًا أنني قررت مغادرة الحفل مبكرًا.
لو تأخرت أكثر ولم أمتص المانا في الوقت المناسب، لتصلّب جسدي حتى العجز عن الحركة.
قالت ريفِت بصوت مرتجف:
“سيدتي، هل تحسنتِ؟”
ناولتُها الحجر الذي فقد بريقه وابتسمت.
“نعم، بفضلك.”
“الحمد لله.”
رغم أني هدأت، إلا أن المشي لم يكن سهلاً بعد.
اعتمدت على ذراع ريفِت وسرت ببطء نحو العربة.
بمجرد أن صعدت إلى العربة وجلست في مقعدي، عندها فقط أحسست بأن توتري بدأ يتلاشى.
“انطلق.”
“أمرك، سيدتي .”
سمعت صوت السائس وهو يحثّ الخيول.
أغمضت عيني داخل العربة المتحركة. بعد أن أنهكتني الأعراض، اجتاحتني موجة من التعب.
—
بعد عودتي من قاعة الحفل، لم أغادر القصر لوقت طويل. لم يكن هناك ظهور خاص لحجارة المانا في المزادات، ولهذا كان بوسعي البقاء في الداخل.
أخذت قسطًا من الراحة بعد زمن طويل.
حتى ريفِت، بعدما رأت الأعراض تظهر عليّ عند عودتي من الحفل، ارتعبت بشدة وأخذت تعتني بي بكل إخلاص.
أحيانًا، الابتعاد عن كل الأفكار المعقدة وعدم فعل أي شيء يبدو أمرًا جيدًا.
لطالما عقدت صالونات اجتماعية بصفتي دوقة غراهام، وانغمست في تواصل مستمر مع الناس. في ذلك الوقت لم أشعر أنه أمر مرهق إطلاقًا. لكن الآن، كيف كنت أطيق ذلك؟ سؤال لا أجد له جوابًا.
ربما السبب أنني حينها لم أفكر أنه أمر متعب. كنت أظن أن بذلي هذا الجهد في لقاء الناس سيعود بالنفع على جدي وآينس.
وفي الواقع، كان لي إسهام معين في أعمال آينس. بفضل تلك اللقاءات، أنجزت بعض الصفقات، ومهّدت لصفقات أخرى.
لكن بعيدًا عن ذلك، كان اعتقادي أن تلك العلاقات كانت صادقة مجرد وهم.
فبعد الطلاق من آينس، لم يتواصل معي أحد، وحتى في قاعة الحفل لم يتجرأ أحد على تحيتي. كل ما فعلوه هو الهمس والنظر خلسة.
ومن بينهم أشخاص استفادوا مني، وآخرون شقوا طريقهم إلى المجتمع بفضلي.
إدراكي بأن كل ما أنجزته خلال فترة كوني دوقة غراهام لم يكن سوى سراب جعلني أشعر بفراغ عميق.
ربما كنت أعيش حياتي بطريقة خاطئة. أو ربما كان وجودي يثير الغيرة والضيق في نفوس الآخرين.
مع ذلك، كنت أظن أنني بذلت قصارى جهدي…
رفعت يديّ لأغطي وجهي. وعندما لامست برودة أطراف أصابعي بشرتي، خُيّل إلي أن رأسي المثقل صار أخف قليلًا.
“سيدتي! أنا ريفِت.”
بينما كنت مستلقية بلا حراك على السرير، دوى صوت طرقات على الباب.
“ادخلي.”
“نعم، سيدتي.”
دخلت ريفِت بعد ردها، فأبعدتُ يديّ لأرى اقترابها. كانت تمسك برسالة في يدها.
سألت بفضول لم أستطع كبته:
“ما هذا؟”
فأجابت وهي تقدم الرسالة باحترام:
“إنها رسالة من بيت الكونت مولدوفان.”
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 9"