ظهر على وجه آينس تعبير حائر، كأنه يحاول أن يسترجع الماضي ليتأكد إن كان ما أقوله صحيحًا. ابتسمتُ بخفة وأنا أنظر إلى ملامحه تلك.
ذلك الماضي الذي لم يعد يتذكره آينس، كان بالنسبة لي ألمًا يوميًا متكررًا. ورؤية ملامحه تلك جعلتني أستوعب ذلك من جديد.
“لماذا تبتسمين؟”
سألني آينس وقد بدا عليه شيء من الارتباك، ربما استغرب من ابتسامتي. رمقته بصمت للحظة ثم فتحت فمي بهدوء.
“لا… تتذكر، أليس كذلك؟”
“……”
لم ينفِ آينس.
ولم يكن بوسعه أن يفعل. في الحقيقة، لو أنه كذب وقال إنه يتذكر، لكان خيب أملي أكثر.
من البداية كنت أعلم أن صمته لم يكن مقصودًا أو متعمّدًا. بالنسبة لآينس في ذلك الوقت، كنتُ لا شيء، مثل شخص غير مرئي.
ولهذا فمن الطبيعي ألا يعرف شيئًا عن الصمت المخيف الذي كان يلفّني كلما كنت بجانبه.
“أنا حقًا لم أكن أعلم.”
قال آينس. ارتشفتُ من الشاي بلطف ثم أومأت برأسي.
“أعلم ذلك. لم يكن لدى دوق مثلك وقت ليشغل باله بتفاصيل تافهة كهذه.”
“سيسيليا!”
ناداني آينس بانقباض في ملامحه، ربما ظن أنني أتعمد السخرية. لكن للأسف، كان هذا هو الاستنتاج الوحيد الذي وصلتُ إليه بعد أن عشت بجانبه طوال تلك السنوات.
فتح فمه وكأنه يريد أن يقول شيئًا، لكنه سرعان ما زفر وأغلق شفتيه. ثم رفع يده ليمررها بخشونة عبر شعره، فازداد اضطراب خصلاته.
كنت أتساءل عما كان ينوي قوله، لكنني لم أشأ أن أسأله. لم أرد أن أزيد قلقه وهو يبدو غارقًا في أفكاره.
وفوق ذلك، أيًّا كان ما سيقوله الآن، فلن يغير شيئًا في داخلي؛ كل شيء كان قد حُسم بالفعل.
زفر آينس مرة أخرى ونظر نحوي مباشرة. عيناه الزرقاوان اضطربتا وكأنهما تحملان قلقًا.
ظل متردّدًا. لم أستطع أن أميز إن كان تردده اعترافًا، أم محاولةً للهرب، لكن الواضح أنه بدا أكثر عاطفية من المعتاد.
سواء حين طلب مني أمام القصر أن أقدّم له الشاي، أو الآن وهو يتردّد أمامي—كان مختلفًا كثيرًا عن آينس الذي اعتدت أن أراه.
“…لا. بعد أن فكرتُ بالأمر، ربما كان الأمر هكذا فعلًا.”
أخيرًا نطق بعد طول صمت.
دهشت من اعترافه المباشر. آينس الذي أعرفه عادةً يتهرّب، كما فعل قبل قليل عندما أنكر علمه. لكن هذه المرة لم يفعل.
“منذ أن قررتُ ألا أعي وجودك… كنت دائمًا كذلك.”
قالها وهو يحدّق في فنجان الشاي بتعابير متشابكة، كأنه يسترجع الماضي.
“تلك المرة؟”
سألته باستفهام حين لم أفهم كلامه الغامض. ابتسم ابتسامة باهتة وأجاب:
“نعم، تلك المرة. حين تأكدتُ من وفاة والدي.”
فهمت مقصده وأطبقت شفتي بصمت. وحين لم أتحدث، تابع هو الكلام:
“كلما رأيتك، تذكرتُ جدي. وكلما تذكرتُ جدي، خطر ببالي والدي الراحل… وكان ذلك طبيعيًا.”
“……”
ظللتُ أنظر إليه في صمت، محاوِلة أن أثبت صورته تلك في ذاكرتي. لسبب ما، بدا لي آينس مختلفًا جدًا اليوم.
“ولم يكن هذا فقط. كلما رأيتك شعرت أنني ضئيل جدًا. لم أفهم السبب حينها. ظننت فقط أنني أكرهك، سيسيليا. لكن… هل كان ذلك حقًا كرهًا؟”
كان يسأل، لكن لم أستطع أن أجيب.
كنت أعتقد دومًا أنه يكرهني، وتصرفاته كانت كلها تؤكد ذلك. فكيف لي أن أظن غير ذلك؟
“لا، لا أظن أنه كان كرهًا. أعتقد أنه كان نوعًا من العناد. بعد أن فقدت أمي، ثم فقدت والدي الواحد تلو الآخر، انهارت القوة القليلة التي كنت أتمسك بها. ولو لم ألقِ باللوم على أحد، لكنت أنا نفسي قد انهرت.”
توقف قليلًا عن الكلام ثم رفع عينيه نحوي.
كان ذلك أول مرة أسمع فيها حقيقة مشاعره، فشعرت بالارتباك. كما أثار فضولي سبب اختياره أن يبوح لي بكل هذا الآن تحديدًا.
“وكنتُ أنا وجدي من حملنا ذلك العبء، أليس كذلك؟”
“……”
أجاب بالصمت. وصمته هذا كان إقرارًا بحد ذاته. غمرني شعور بالخذلان.
“…وفوق ذلك، شعرت أن كل ما قلته لك من قبل صار بلا معنى.”
“ما قلته لي؟”
سألته بدهشة، فأومأ برأسه ببطء وأكمل:
“حين جئتِ إلى قصر غراهام بعد أن فقدتِ والديك… ما قلته لك من كلمات مواساة.”
عندها أدركت ما يقصده.
حين فقدت والديّ في حادث ودخلت قصر غراهام لأول مرة، كان آينس الصغير يحاول مواساتي بكل ما يملك.
كان بيننا شعور مشترك، هو فقدان الأحبة؛ هو فقد أمه، وأنا فقدت والديّ. وبذلك وُلد نوع من التعاطف المتبادل، فكنا قادرين على فهم ومواساة بعضنا البعض.
بفضل دعمه آنذاك تمكنتُ من النجاة من الحزن واليأس.
لكن بعد فترة قصيرة، رحل والده، السيد أليكس. ومنذ تلك اللحظة، أغلق آينس قلبه تمامًا في وجهي.
“ربما شعرت بالعار وأنا أنظر إليك. فقد تصرفتُ وكأني أعلم كل شيء وواسيْتُك، لكني أنا نفسي لم أستطع أن أتحمل.”
تنهد بعمق فوق فنجان الشاي. كان الوقت يمر اليوم ببطء غريب.
“نعم… لتتمكن من حماية نفسي، تجاهلتك. بوعي، ولا وعي. حاولت أن أمحو وجودك، وأتجاهلك، غير مدرك أن ذلك سيلحق بك الأذى.”
اندهشت بشدة حتى نسيت أن أتنفس للحظة. لم أتوقع يومًا أن أسمع من آينس هذا القدر من الصراحة.
ومع ذلك، فهمت.
آينس الذي كان لا يزال صغيرًا آنذاك، لم يستطع إلا أن يترك تلك الأحداث جراحًا عميقة في قلبه. اختار الكراهية والتجاهل كآلية دفاعية.
“سيسيليا، لم أشعر أن الأمر كان خاطئًا إلا بعد أن رحلتِ.”
“آينس.”
ناديت اسمه، كما كنت أناديه منذ طفولتي وحتى طلاقنا.
رفع رأسه إليّ باستغراب، وعيناه تهتزّان باضطراب.
“فهمتُ قصدك. وأتفهم ذلك. لعل ذلك كان أفضل ما استطعتَ فعله في ذلك الوقت. كنتُ أعلم إلى حد ما أنك تتألم بقدر عمق الجرح. وأنا أيضًا عشتُ نفس الألم، لذا كنتُ مدركة لذلك أكثر من أي أحد.”
“سيسيليا، أنا…”
“لكنني أظن أن ذلك الطريق كان خطأ. منذ تلك اللحظة بدأنا ننحرف عن بعضنا. والهوة التي تراكمت لسنوات… لم يكن من السهل ردمها.”
أدرك آينس مقصدي فانقبضت ملامحه وتحركت شفتاه دون أن ينطق. نظرتُ إليه، وزفرت ببطء.
“كلماتك جعلتني أفهم دوافعك. لكن لم تجعلني أتقبلها.”
بللتُ شفتي اليابستين برشفة أخرى من الشاي. النكهة العطرة لشاي تشِب ، المفضل لدى آينس، ملأت فمي قبل أن تنزل إلى حلقي.
ثم وضعتُ الفنجان برفق على الصحن. لكن الصوت الطفيف لاصطدام الخزف بالزجاج دوّى في غرفة الاستقبال الهادئة بشكل مزعج.
رفعت بصري إليه. كان آينس يحدّق بي بصمت.
“أعتقد أن علينا أن ننهي حديثنا هنا. هلّا عدت الآن؟ أظن أنك لن تشرب المزيد من الشاي على أي حال.”
قلتُ ذلك وأنا أنظر إليه. وبالفعل، لم يكن قد لمس فنجانه منذ مدة.
كنت أعلم منذ البداية أن الشاي لم يكن السبب وراء مجيئه، بل رغبته في الحديث معي أكثر.
لكن… هذا أقصى ما يمكنني منحه من ودّ.
لم يكن متوقعًا أن أعرف أخيرًا ما في قلب آينس، لكن سماع ذلك لم يغير شيئًا في مشاعري.
فلو أن مجرد بضع كلمات صادقة قادرة على أن تجعلني أتراجع، لما كنت قد قررت الطلاق منه في المقام الأول.
لقد فكرت مليًا قبل أن أحسم أمري، واخترت أن أعيش حياة من أجلي أنا، حياة لا أُجرح فيها من جديد، حياة أستطيع فيها أن أحمي نفسي بالكامل.
لذلك لم يعد يهمني بأي مشاعر عاملني آينس طوال تلك السنوات، ولا مقدار الندم الذي يحمله الآن.
ربما يمنحني ذلك بعض العزاء، لا أكثر.
“تطلبين مني أن أذهب؟”
“وهل تنوي البقاء هنا أكثر من ذلك؟”
“……”
مرر آينس لسانه على شفتيه، ثم أطلق تنهيدة صغيرة وهو يخفض رأسه. رفع يده ولمس أطراف وجهه ببطء.
رغم أنني طلبت منه أن يعود، لم ينهض مباشرة. بدا وكأنه غارق في تردده، يتصارع مع شيء ما في داخله.
وبينما كنت أفكر إن كان عليّ أن أكرر طرده مرة أخرى، تكلم أخيرًا:
“أعترف… لقد تأخرت كثيرًا.”
نظر إليّ بعينين مرتبكتين، وصوته يحمل شيئًا من الاضطراب.
“لذلك، جمعت شجاعتي وجئت لأتحدث معك اليوم.”
“نعم. وقد فهمت كل ما قلته جيدًا.”
“ومع ذلك… تطلبين مني أن أرحل؟”
تأملتُه لبرهة، ثم أومأت برأسي.
“نعم. لقد سمعتُ ما قاله الدوق، وسأفكر فيه على طريقتي. لكن… هذا لا يعني أن شيئًا سيتغير بيننا على أرض الواقع.”
“……”
عضّ آينس شفته السفلى، وعيناه تائهتان وكأنه لا يستوعب كلماتي. ثم أخيرًا وقف من مكانه.
“حسنًا، سأذهب.”
ترك هذه الكلمات القصيرة، ثم اتجه نحو الباب. ارتجّ الباب وهو يُفتح بقوة تحت يده، ثم سُمِع صوته وهو يُغلق خلفه.
بقيتُ وحدي في غرفة الاستقبال، أحدّق في فنجان الشاي الذي تركه آينس خلفه.
التعليقات لهذا الفصل " 58"