بالفعل، لو كنا داخل قصر دوق “غراهام”، لما حصل مثل هذا الأمر أبداً.
ومع ذلك، لم أكن لأتخيل قط أن “كاديا” سيكون واقفاً يحرس أمام منزلنا.
“…… أشكرك على إنقاذنا.”
ترددتُ قليلاً، لكني في النهاية وجهتُ شكري إلى آينس.
فمهما يكن، هو من أنقذنا بالفعل.
“…….”
لكن آينس ظل يرمقني بنظرة معقدة، قبل أن يطلق تنهيدة منخفضة.
“يكفي.”
تمتم آينس بكلمة قصيرة وهو يتراجع خطوة إلى الوراء.
“يبدو أنكم بحاجة حقاً إلى فرسان وجنود لحراسة قصر البارون. سأرسل فرساناً وجنوداً، فلا ترفضي ذلك.”
“لا داعي، يمكنني أن أوظفهم بنفسي.”
“وكيف ستثقين بمن تستأجرينهم حديثاً؟”
“ماذا تقصد؟”
“أعني، كيف ستتأكدين ما إذا كان القادمون الجدد مشبوهين أم لا؟ على الأقل هذه المرة استمعي لكلامي. فهذا ما يريده الجد أيضاً.”
لم أستطع رفض كلمات آينس.
لكن بدلاً من ذلك، وجدت وسيلة أخرى كي لا أشعر بالدَّين تجاهه.
“إذاً، فلنفعلها هكذا. سأطلب من الدوق إرسال فرسان وجنود، لكني سأدفع المبلغ اللازم مقابل ذلك.”
“ماذا؟”
“اذكر لي المبلغ المناسب وسأدفعه. وعندما ترسلون الحراس، أرجو أن ترسلوا الأوراق والبيانات عبر “جاكوب” أو “جاكسون”. فأنا لست خبيرة في هذا المجال. وأتمنى أن تحددوا التكلفة بعدل قدر المستطاع.”
“…… ما هذا؟”
عقد آينس حاجبيه وقد بدا عليه الارتباك من كلامي، ثم عضّ شفتيه وكأنه لم يجد ما يقوله.
كنت أرى أن هذا أفضل ما أستطيع فعله.
إن كان لابد من قبول المساعدة، فلا أقل من دفع الثمن العادل لتخفيف العبء الذي يثقل قلبي.
على أي حال، كنت أنوي توظيف الجنود بنفسي، لذا فهذه الطريقة ليست سيئة.
وفوق ذلك، وكما قال آينس، فإن فرسان وجنود عائلة الدوق “غراهام” يمكن الوثوق بهم.
سأحصل على حراس موثوقين، وفي نفس الوقت آينس يرسل من يحميّني، وهكذا يستفيد الطرفان.
“إن لم تقبل المال، فسأكون غير قادرة على تقبّل معروفك يا دوق. ماذا ستفعل؟”
سألت بهدوء.
فنظر إلي آينس وكأنه يفكر، ثم تنهد بعمق.
“هل لا بد من هذا؟”
“هذا وحده ما يجعل قلبي مرتاحاً.”
“فكري به كأنه معروف من الجد، لا مني. فكأنني لم أرسل شيئاً.”
“كيف يكون ذلك؟ وأنا أعلم تماماً أنه من معروفك يا دوق.”
قلت له بحزم.
فرفع آينس يده ليمسك جبينه، ثم أطلق تنهيدة طويلة.
“حسناً، ليكن.”
أخيراً جاء القبول من آينس.
نظرت إليه وقد شعرتُ براحة أكبر في قلبي.
“شكراً لك. إذاً، سأنتظر.”
“انتظري.”
كنتُ أهمّ بالدخول مع “ريفيت”، التي ما زالت مضطربة مما حدث، فإذا بآينس يوقفنا.
التفتُّ إليه مستغربة، فرأيتُه ينظر إلى الأرض بوجه محرج، وكأنه متردد في الكلام.
ذلك هو مظهره عندما يشعر بالخجل أو الحرج.
رأيته هكذا كثيراً عندما كان صغيراً، لكن بعد أن كبر لم أره بهذا الشكل إلا الآن.
“ما الأمر؟ هل لديك شأن آخر؟”
سألته بنفاد صبر لأني أردت الدخول بسرعة.
فلمحني آينس بطرف عينيه، وتردد قليلاً، ثم قال:
“جئتُ إلى هنا، أفتتركيني أعود هكذا بلا شيء؟”
“…… لكنني لم أطلب منك المجيء.”
“هذا صحيح! لكن مع ذلك…….”
رفع صوته فجأة وكأنه مستاء، لكنه سرعان ما خفضه مدركاً أن وجوده هنا ليس بالأمر الطبيعي أصلاً.
“ما الذي تريده بالضبط؟”
سألته مباشرة.
فقد جربت سابقاً أن الكلام الملتوي لا ينفع معه أبداً.
كان من الأفضل أن أسأله بصراحة.
“لماذا لا تقدمين لي كوب شاي على الأقل؟”
“…… هل ترغب في شرب الشاي؟”
“هُم، هُم. أظن ذلك.”
تظاهر آينس بالسعال وكأنه يحاول التهرب.
حدقت به وهو يضع يده على عنقه ويمثل أنه يعاني.
“لقد ساعدتكِ. أليس من الطبيعي أن تقدمي لي شيئاً بسيطاً كهذا؟ أم أنك ترين أنني لا أستحق حتى كوب شاي؟”
قال ذلك بصوت ممتلئ بالضجر.
فأطلقتُ تنهيدة صغيرة وأومأت برأسي.
“حسناً. سأقدم لك الشاي. تفضل بالدخول.”
كنت أريد إنهاء هذا الجدال العقيم، والأهم أن حالة “ريفيت” أقلقتني، لذا قررت إدخاله.
“حقاً؟”
تفاجأ آينس وكأنه لم يتوقع موافقتي، فسألني.
فزممت حاجبيّ للحظة.
“أم أنك لم تكن تنوي الدخول أصلاً؟ هيا ادخل.”
“…… حسناً.”
دخل آينس خلفي إلى داخل القصر.
وبمجرد أن دخلنا، أسرعتُ إلى ريفيت.
“ريفيت، لقد حصل ما حصل اليوم، اذهبي لترتاحي قليلاً.”
“لكن، يا سيدتي… هناك ضيف.”
أجابت وهي تلمح آينس.
فهي المسؤولة عن شؤون القصر، وتخشـى أن تهمل الضيف.
“لا بأس. سأطلب من أحد آخر.”
“…… أعذريني يا سيدتي. وأشكرك كثيراً على تفهمك.”
“لا عليك. لولاك لكان الخطر أعظم. فلا تقلقي، وارتاحي جيداً.”
“أمرك يا سيدتي.”
انحنت لي بتحية، ثم حيّت آينس أيضاً قبل أن تصعد إلى غرفتها للراحة.
تابعتُها بنظري حتى غابت، ثم استدرت نحو آينس.
“تفضل، سأرشدك إلى غرفة الاستقبال.”
“حسناً.”
طوال الطريق نحو غرفة الاستقبال، لم يتفوه آينس بكلمة.
غريب أنه هو نفسه الذي أصر على شرب الشاي، والآن صامت كأنه لم يطلب شيئاً.
“هنا غرفة الاستقبال.”
فتحت الخادمة الباب لنا.
دخلت أولاً، ثم تبعني آينس.
“أحضري لنا الشاي.”
“أي نوع تفضلون؟”
سألت الخادمة.
فنظرتُ إلى آينس.
“أي شاي تود أن تشرب؟ هل أطلب لك شاي (تشِف) الذي اعتدت عليه؟”
“هل هو متوفر؟”
“نعم.”
نظرتُ إليه مستغربة، فإذا به يحدق في وجهي للحظة وكأنه مرتبك، ثم أومأ.
“أحضريه.”
“أحضري شاي (تشِف) كوبين.”
“حسناً يا سيدتي.”
انحنت الخادمة وغادرت.
التفتُ بنظري نحو آينس.
لم يكن هناك ما أقوله، لكن لم يكن هناك ما أفعله أيضاً، فلم يبق لي سوى النظر إليه.
“ألستِ تكرهين شاي (تشِف)؟”
سألني آينس فجأة.
“أنا؟”
سألت بدهشة.
(هل كنت أكرهه فعلاً؟)
لا أذكر منذ متى بالضبط، لكن لطالما كنت أشرب هذا الشاي.
لذلك لم أفكر يوماً أنني أكرهه.
“بلى. كنتِ تكرهينه. كنتِ تقولين إن طعمه يخلف جفافاً في الفم.”
“هذا…… صحيح.”
تذكرت الآن.
حين وصلتُ لأول مرة إلى قصر الدوق “غراهام”، وكانت نفسيتي مرهقة وصعبة.
في أول يوم قدم لي آينس شاي (تشِف)، فانزعجت من طعمه الكثيف حتى أنني سكبت الكوب.
تساءلت يومها: كيف يشرب أحد مثل هذا الشاي؟
لكن بمرور الوقت، صرت أشربه بشكل طبيعي.
هل كان السبب أن آينس يحبه؟
أجل، في الماضي كنت أحب أي شيء يحبه آينس.
كنت طفلة صغيرة وأردت أن أخلق قاسماً مشتركاً معه.
وهذا ما ترسخ مع الزمن، حتى أصبحت أنا الآن أشربه كعادة.
“مع الوقت اعتدتُ عليه.”
“إن كنتِ لا تحبينه، فما رأيك أن تشربي شيئاً آخر؟”
قال آينس ذلك كاقتراح، فأحسست وكأننا عدنا فجأة إلى أيام الطفولة.
لكنني سرعان ما أدركت أن الحاضر لا يمكن أن يكون مثل ذاك الحين، فهززت رأسي.
“لا، لا أريد أن أغيّره. على أي حال، لستُ أكره شاي التشِف الآن.”
“……حسناً.”
تردد آينس قليلاً ثم استلقى بجسده على مسند الأريكة.
ثم حلّ الصمت. لم يبدأ آينس الحديث، ولم أنطق أنا بكلمة.
كان صمتاً خانقاً كما لو أن النفس يختنق، ومع ذلك بدا لي بطريقة ما مألوفاً وطبيعياً.
نعم، كان مشابهاً لما قبل الطلاق.
في ذلك الوقت، كنا دائماً في مكان خانقٍ كهذا.
وكانت أمنّيتي أن يلقي عليّ آينس نظرة واحدة، أن يكلّمني. لأنه لم يرضَ أن أبدأ أنا الحديث أولاً.
“أتذكرين…”
“نعم؟”
التفت آينس الذي كان يتفقد داخل غرفة الاستقبال بلا سبب، ونظر إليّ.
“أتتذكر أن هذا النوع من الصمت كان مألوفاً؟”
سألتُه بحذر.
نظر إليّ آينس وكأنه لم يفهم سؤالي. فعدتُ أنا وفتحتُ فمي مجدداً.
ربما كان ذلك اندفاعاً طائشاً مني، أن أستحضِر أمور الماضي بلا داعٍ.
لكن اليوم أردت أن أكون متهورة تجاهه لمرةٍ واحدة على الأقل. على الأقل الآن يستمع إليّ.
“قبل الطلاق، كان الصمت هو العادة الدائمة. الدوق لم يحب أن أتكلّم، لذا كلما كنتُ معه كنتُ أنتظر أن يبدأ هو بالكلام أولاً. وخلال انتظار ذلك، كان هذا النوع من الصمت يهبط بيننا.”
التعليقات لهذا الفصل " 57"