لم تهدأ الغثيان إلا بعد أن أخذت قسطاً وافراً من الراحة في غرفة الضيوف. ومع ذلك، ظلّ رأسي دائخاً، لكن على الأقل كنت قادرة على الحركة.
ظلّ جدي بجانبي قلقاً عليّ طوال الوقت. لقد جئت لأطمئنه أنني بخير، لكن يبدو أنني أظهرت له صورة سيئة بسبب دوار السفر، فشعرت بخجل شديد.
قال لي:
“هل سترحلين الآن؟”
أجبته:
“لا، جئت لرؤيتك أيضاً، لكن لدي عمل مع دوق غراهام كذلك.”
“مع آينس؟”
بدا على جدي الدهشة حين أخبرته أن لي شأناً مع آينس، ثم ما لبث أن أومأ برأسه موافقاً.
“صحيح… الآن تذكرت. لقد ذهب آينس ليساعدك. لكني أذكر أن ملامحه لم تكن جيدة حين عاد ذلك اليوم… هل حدث شيء ما؟”
قلت بخجل:
“نعم… لقد أسأت الفهم قليلاً.”
ابتسم جدي ابتسامة متفهمة وهو يجيب:
“حسناً. لا أعرف ما الذي جرى، لكن أتمنى أن تنجحي في حلّه.”
“نعم.”
ودّعت جدي وغادرت غرفة الضيوف.
قلت لرايتشل:
“رايتشل، هل يمكنك أن تدليني على مكان وجود الدوق؟”
“نعم، يا سيدتي.”
رافقتني رايتشل إلى مكتب آينس في الطابق الثالث. كان المشي متعباً، لكن لم أكن عاجزة عن السير. طرقت رايتشل الباب بخفة لتخبره بوصولي، فبقيت أنا أفكر قليلاً بما ينبغي أن أقوله عندما أراه.
وسرعان ما جاء صوته من الداخل يأذن بالدخول. كان صوت آينس.
فتح معاونو آينس الباب لأتمكن من الدخول.
رأيته يجلس أمامي مباشرة. ترددت قليلاً قبل أن أبدأ بالمشي نحوه. لكنه نهض من مقعده واقترب مني، ثم مدّ يده نحوي. نظرت إليه غير فاهمة قصده، فقال بنبرة كأنه يبرر نفسه:
“أردت فقط أن أساندك.”
هل كان عليّ أن أقبل ذلك كما هو؟
إن السبب الذي جئت من أجله اليوم هو أن أعتذر له. لأجل أني عاملته بجفاء رغم أنه ساعدني بالأمس. لم آتِ هنا لأعبّر عن أي مودة متأخرة. لكن ربما ما يفعله مجرد كونه يراني كمريضة ويود مساعدتي… فحالتي لم تكن بخير بالفعل.
تذكرت فجأة كيف كان في صغره يسرع إليّ ليساعدني كلما أصبت بأذى.
قال ببرود وهو يسحب يده:
“إن لم تريدي، فلا داعي.”
ترددت للحظة ثم قلت:
“إذاً… ساعدني فقط حتى أصل إلى الأريكة.”
بدا عليه شيء من الدهشة، ثم أومأ برأسه وأعاد مدّ يده إليّ.
“… حسناً.”
أمسكت يده، وساعدني حتى جلست على الأريكة الموضوعة في جانب المكتب، ثم جلس هو مقابلي بعد أن تأكد أنني بخير.
قال:
“هل تريدين بعض الشاي؟”
“لا، شكراً. لقد شربت الكثير من الماء بسبب الدواء، ولا أرغب بالمزيد.”
كنت قد ضجرت من كثرة ما شربت في غرفة الضيوف، كما أنني لم أنوِ البقاء طويلاً لأحادثه على مهل. ما إن أنهي ما جئت لأجله سأغادر هذا المجلس المزعج.
رفضت عرضه، وأخذت لحظة لترتيب أفكاري. كنت أرغب بقول ما عندي بسرعة والمغادرة، لكن حين وجدت نفسي أمامه لم يسهل عليّ النطق.
زفرت بهدوء ورفعت رأسي أنظر إليه. كان يحدّق بي، وما إن تلاقت أعيننا حتى صرف بصره، ثم سرعان ما أعاد النظر إليّ.
لم أشح نظري عنه، فبدا عليه الارتباك وهو يلتقي نظراتي.
قال أخيراً:
“طردتِني بالأمس، فما الذي أتى بكِ إليّ اليوم؟”
كنت أتوقع أن يكون غاضباً من ذلك، وبالفعل بدا كذلك.
مهما شعرتُ نحوه من استياء، كان عليّ على الأقل أن أُظهر امتناني لأنه أنقذ حياتي بالأمس.
قلت بخفوت:
“… جئت لأعتذر عن البارحة.”
“تعتذرين؟”
“نعم. حين استيقظت لم أكن قد استوعبت الوضع بعد، فخاطبتك بكلام جاف وغير لائق. أنا آسفة حقاً… لم أعلم أنك أتيت فقط لتساعدني، فظننت بك سوءاً وتسرعت.”
كانت تلك الكلمات التي هيأت نفسي لقولها قبل أن آتي. ورغم أنني كررتها في داخلي مراراً، إلا أنني لم أعد متأكدة إن كنت قد أوصلتها كما يجب.
لكنه ظل صامتاً دون رد. شعرت بالقلق، ورغبت في النهوض والمغادرة، لكنني انتظرت كلماته.
وبعد صمت طويل، قال أخيراً:
“… هل صرتِ بخير الآن؟”
أومأت بتردد وأجبت:
“نعم، أنا بخير.”
“لكن مظهرك لا يقول ذلك.”
“ذلك بسبب دوار العربات في الطريق. لا داعي لأن تشغل بالك.”
لم يعلّق، لكن بدا أن شيئاً ما لا يرضيه. ثم رفع يده فجأة وأزاح شعره للخلف، فبان الاضطراب جلياً على وجهه.
قال بصوت متهدج:
“يبدو أنني السبب فيما أنتِ عليه.”
نظرت إليه باستغراب:
“ماذا تعني بذلك؟”
“كما قلت… هذا ما أعنيه.”
كان كلامه غامضاً، لكنني بدأت أستوعب قصده.
فابتعادي عنه، وإخفائي لمرضي وحالي عنه… كلها كانت نتيجة لما صنعته معاملته القاسية لي في الماضي. كنت أخشى أن أُقابل بمزيد من البغض، فآثرت الكتمان والانكسار وحدي.
لم أكن متأكدة إن كان يقصد ذلك حقاً، لكن لا تفسير آخر بدا منطقياً.
قال بهدوء:
“الأجدر بي أنا أن أقول آسف.”
“ماذا قلت؟”
اتسعت عيناي في دهشة لسماعي كلمة آسف من فمه.
لم يسبق له يوماً أن اعترف بخطأ. لكنه الآن يعتذر لي! لم أدر كيف أستوعب الموقف.
قال وهو يتنهد بأسف:
“منذ أن علمت متأخراً بمرضك لم أتوقف عن التفكير. لماذا أخفيتِ الأمر عني؟ لو كنت أخبرتني لكنت اشتريت لك العلاج… فلماذا؟”
ترددت قليلاً ثم قلت:
“لأنك يا دوق…”
فقاطعني:
“أعلم. أعلم كم كنت قاسياً عليك قبل الطلاق. المشكلة أنني أدركت ذلك متأخراً جداً.”
تحدث بصوت يغلب عليه الندم:
“ربما كان ذلك اليوم، يوم إصابتك البليغة، هو نقطة التحول… أنا…”
أغمضت عيني بقوة أتفكر بكلامه، ثم فتحتهما ببطء وقد خفّت حدة ارتباكي.
ناديت باسمه:
“يا دوق.”
تطلع إليّ بصمت، فقلت بجدية:
“أدرك ما تحاول قوله. لكنني لا أريد أن أسمع المزيد الآن.”
“ماذا؟”
كنت أعلم ما الذي يريد الاعتذار عنه، لكنني لم أكن مستعدة لتلقي اعتذاره بعد.
“ذلك اليوم كان صادماً جداً بالنسبة لي. كنت أرجو في أعماقي أن تراني كما كنت تفعل في طفولتنا… لكن ما حدث حينها جعلني أستطيع أخيراً أن أطوي قلبي نحوك.”
قال محتجاً:
“أنا…!”
فقاطعته بهدوء:
“أعرف.”
ثم تابعت بنبرة ثابتة:
“كنت آنذاك غارقاً في حنينك لأليكس، وفي كرهك لجدي، ولم يكن بيدك حيلة. لكن أن أعرف ذلك شيء، وأن أتقبله شيء آخر تماماً. لقد مر وقت طويل جداً. أنا لم أعد تلك الفتاة المرتبكة الخائفة. وكما قلت، لست أعتقد أن ما حدث كان خطأك وحدك. أنا أيضاً كنت مخطئة، إذ تسرعت واستسلمت للظنون والخوف.”
شعرت وكأن مشاعري القديمة قد عادت لتستيقظ من جديد. ذلك الإحساس بالانهيار واليأس، وكأن العالم كله ينهار فوقي، عاد ليوقظني كما في الماضي.
كل ما كنت أواسي به نفسي من أعذارٍ أن “لم يكن هناك خيار آخر” أخذ يتآكل داخلي من جديد، ينهشني ببطء.
قلت بحزم:
“لذلك… لن أستمع إلى المزيد من هذا الحديث.”
أخذت نفساً عميقاً بعد أن أنهيت كلماتي، ثم أخرجته ببطء، ورفعت رأسي لأنظر إلى آينس. كانت ملامحه مضطربة، وكأنه لا يعرف ما يجب أن يفعل أو يقول.
قلت له باعتذار:
“أعلم أنني جئت أولاً لأقدم اعتذاري، لكن هل لي أن أنصرف الآن؟ أشعر أن حالتي ليست جيدة، وأود أن أستريح قليلاً.”
سألته وكأنني أستأذنه، مستغلة وضعي الصحي كذريعة مثالية. فمثل هذه الأعذار كانت أحياناً هي الطريق الأسلم للهرب من المواقف التي لا أريد مواجهتها.
كنت أعلم أن هذا نوع من الهروب الأناني… لكن لم أجد وسيلة أخرى أتفادى بها هذا الموقف في تلك اللحظة.
حرّك آينس شفتيه أكثر من مرة، وكأنه يحاول أن ينطق بشيء، لكنه لم يستطع أن يخرج الكلمات.
مضت لحظات طويلة، ثم رفع يده ليغطي وجهه، ونظر إليّ من بين أصابعه لبرهة، قبل أن يهز رأسه موافقاً في صمت. ومع ذلك… لم ينبس ببنت شفة بعدها.
التعليقات لهذا الفصل " 54"