كان الصمت يخيّم على مكتب آينس غراهام، لا يُسمع فيه سوى الصوت المنتظم لأصابعه وهي تنقر على الطاولة، حين ارتفع صوت جاكوب.
رفع آينس رأسه ببطء، وهو يقطب حاجبه الأيسر بعدما كان يوقع على الأوراق بصمت.
“ماذا قلتَ للتو؟”
كان صوته خشناً وهو يوجه السؤال نحو جاكوب، وملامحه تدل على انزعاج واضح.
أما جاكسون، المساعد الآخر لآينس، فقد كان يتوسل في داخله أن لا يتفوّه جاكوب بتفاهات تزيد من سوء مزاج سيده الذي بدا مضطرباً أصلاً.
لكن جاكوب، وكأنه لا يقرأ الأجواء، فتح فمه من جديد دون أن يبالي.
“أعني البارونة، يا سيدي.”
قالها باقتضاب وهو يثبت بصره على يد آينس. الصوت المتكرر على الطاولة كان صادراً من أصابع سيده.
فمنذ أن جاءه التقرير بأن سيسيليا وصلت إلى قصر غراهام وهي في حالة صحية غير جيدة، لم يتوقف آينس عن النقر بإصبعه على الطاولة. وكان ذلك مؤشراً صغيراً على توتره الشديد.
ولهذا السبب بالذات تجرأ جاكوب على الحديث معه.
“ولِم عليّ أن أفعل ذلك؟”
صوت آينس بدا أكثر برودة من المعتاد، وعيناه الحادتان تنظران إلى جاكوب وكأنه عثر أخيراً على هدف لتفريغ غضبه.
زفر جاكوب تنهيدة قصيرة وهو يواجه نظرات سيده الثقيلة.
“أليس هذا ما ترغب به فعلاً؟”
“أنا؟ ولماذا تظن ذلك؟”
اعتقد جاكوب أن تلميحه كان واضحاً بما يكفي، لكن آينس رد بسؤال آخر جعله يزداد ضيقاً.
“إذا لم تكن لديك هذه النية، فما رأيك أن تتوقف عن النقر على الطاولة؟”
قالها جاكوب بنبرة متعبة. أما جاكسون، فقد شحب وجهه وهو ينقل نظره بين الاثنين بخوف. الجو كان مشحوناً وكأن الأمور ستنفجر في أي لحظة.
حدّق آينس بحدة قاتلة في جاكوب، وكأنه سيقطع رأسه في الحال، بينما جاكوب الغافل عن الخطر لم يتوقف عن الكلام.
لكن فجأة توقفت يد آينس عن الحركة. الصوت المزعج الذي ملأ المكان اختفى، ومع ذلك لم يظهر الارتياح على وجه جاكسون. كان يتمنى لو يفرّ من هذا الموقف كله.
قال جاكوب بصوت ثابت:
“لا أعلم ما الذي حدث بينك وبين البارونة قبل يومين. لكن ما أعلمه جيداً هو أنك الآن في غاية التوتر بسببها.”
“…”.
لم ينكر آينس قوله. داخله كان يرفض ذلك ساخراً، لكنه لم يستطع أن يلفظه بصوت مسموع.
كان مضطراً للاعتراف: منذ أن بلغه أن حالة سيسيليا ليست بخير، لم يعد الجلوس في كرسيه مريحاً على الإطلاق. كان القلق ينهشه حتى العظم.
تلك كانت الحقيقة.
ومع ذلك، لم يستطع أن يذهب إليها. كبرياؤه منعه.
قبل يومين، ساعدها لكنه لم يتلقَّ حتى كلمة شكر، بل كان نصيبه أن يُطرَد. تلك كانت بقايا كبريائه الأخيرة، التي تكبّله وتمنعه من التحرك.
وكان جاكوب يقرأ مشاعره بوضوح. لم يكن الأمر صعباً؛ فالنقر المتواصل على الطاولة كان بمثابة ترجمان لمكنونات صدره.
قال جاكوب:
“لماذا لا تكون أكثر صراحة؟ وإن كان الحرج يمنعك من زيارتها، فيمكنك التظاهر بالصدفة.”
ظل آينس صامتاً، وجاكسون ظن أن سيده لن يرد.
مستحيل! — هكذا فكر جاكسون. كيف يمكن لدوق غراهام العظيم أن يتظاهر بالصدفة فقط لزيارة طليقته المريضة؟
صحيح أن سلوك آينس في الفترة الأخيرة لم يكن إلا صورة لرجل مطلق لا يستطيع التخلي عن ماضيه، لكن جاكسون كان واثقاً من أنه سيرفض اقتراح جاكوب.
إلا أن توقعاته سرعان ما تحطمت.
“… إذا كانت صدفة، فماذا تقصد بها تحديداً؟”
سأل آينس بصوت متردد، وكأنه لا يصدق أنه هو نفسه ينطق بهذه الكلمات.
لكنه لم يستطع إلا أن يسأل، فالرغبة في رؤية سيسيليا كانت تكاد تخرجه عن طوره.
كان يتمسك بالكبرياء، لكن القلق يتزايد حتى غلبه. ميزان قلبه كان يميل شيئاً فشيئاً لصالح القلق لا الكبرياء.
قال جاكوب:
“هناك الكثير من الحجج. مثلاً، أن تنزل لترى أحد الشيوخ المقيمين في الطابق الأول، أو تمر هناك بحجة القيام بنزهة.”
“… همم.”
فكر آينس قليلاً. كان جاكوب محقاً. هذا القصر هو قصر غراهام، وهو سيده المطلق. لا مكان فيه لا يستطيع الوصول إليه.
ولو أراد النزول للطابق الأول بلا سبب، فمن يمنعه؟ كلها أعذار لا أكثر، ليستخدمها كذريعة أمام سيسيليا.
ومع ذلك، ظل متردداً. ماذا لو ذهب إليها بعد كل هذا التردد والقلق، فقابلته بالرفض؟
ضحك بسخرية من نفسه. كان أمراً مثيراً للسخرية أن دوق غراهام العظيم يخشى رفض سيدة واحدة.
“إذن…”
سأله جاكوب فوراً:
“هل أعددتَ نفسك لذلك؟”
لم يُجب آينس بالكلام، بل وقف من مكانه.
صوت الكرسي وهو يُسحب جعل جاكوب وجاكسون ينهضان أيضاً.
جاكسون رمش عدة مرات غير مصدق ما يحدث. قبل لحظات كان يتمنى أن يوقف جاكوب من وقاحته، لكن الأمور اتجهت بعكس توقعاته.
“هل حقاً ستذهب إلى البارونة مارفيس؟”
سأل جاكسون بحذر. نظر إليه آينس بعمق، ثم جلس مجدداً.
تبادل المساعدان النظرات بدهشة.
“إذن لن تذهب؟”
“لا أدري. إن كانت لا ترغب في رؤيتي، أليس من الأفضل أن أبقى بعيداً؟”
كان صوته خافتاً، كأنه استسلم. يبدو أن قراره النهائي كان أن لا يزعج سيسيليا أكثر.
قطّب جاكوب جبينه قليلاً وهو يراقبه، ثم جلس بدوره. تبعه جاكسون أيضاً.
وساد الصمت.
حتى صوت النقر على الطاولة كان خيراً من هذا السكون المطبق.
وبينما كان جاكسون يلوم جاكوب في نفسه، جاء صوت طرق خفيف على الباب: طَرق، طَرق.
التفت جاكوب وجاكسون فوراً. لم يكن أحد يتوقع زائراً في هذا الوقت.
“من هناك؟” سأل جاكسون.
وسرعان ما جاء صوت مألوف من خلف الباب.
“سيدي، البارونة مارفيس حضرت لزيارتكم.”
كان صوت رايتشل، كبيرة الخادمات.
فتحت الباب لتعلن أن سيسيليا وصلت إلى مكتب آينس بنفسها.
استدار جاكوب وجاكسون نحو سيدهما. في الوقت الذي كان يتردّد هل يذهب لرؤيتها أم لا، كانت هي قد سبقته وجاءت إليه.
“ما الذي ستفعله الآن؟”
الوضع تغيّر. لم يعد هناك داعٍ للهرب من لقائها.
أصلح آينس ياقة سترته، أخذ نفساً عميقاً ثم أخرجه ببطء، وقال بصوت منخفض:
“أدخلوها.”
“حسناً.”
فتح جاكوب وجاكسون الباب، وانسحبا جانباً.
ظهرت رايتشل أولاً، ثم تراجعت بخطوة، لتظهر أمامهم صورة سيسيليا.
دخلت سيسيليا ببطء إلى مكتب آينس. أول ما لفت نظره كان بشرتها الشاحبة وخطواتها الضعيفة، مما أكد أن ما سمعه عن مرضها لم يكن مجرد مبالغة.
وبشكل غريزي، نهض آينس من مكانه وتقدم نحوها.
“كنت فقط… أنوي مساعدتك على السير.”
قالها آينس على عجل حين التقت عيناها بعينيه بارتباك، وكأنه يبرر نفسه مسبقاً.
“إن لم تريدي، فلن أفعل.”
ثم همّ بأن يدير جسده مبتعداً.
“إذن، فقط حتى الأريكة، من فضلك.”
لو لم تنطق سيسيليا بتلك الكلمات، لكان آينس قد استدار بالفعل وتركها.
“… حسناً.”
لحسن الحظ، لم ترفض سيسيليا مساعدته، بل قبلتها بهدوء.
اقترب منها آينس وسندها برفق حتى الأريكة. وبينما كانت تستند بجسدها الخفيف على ذراعه، عضّ شفته دون وعي.
فجسدها بدا هشاً وضعيفاً إلى حد جعله يتساءل إن كانت تنتمي إلى نفس عالمه. كان وزنها خفيفاً أكثر مما يجب، وكأنها قد تفنى بين ذراعيه.
وحين جلست سيسيليا أخيراً على الأريكة بسلام، جلس آينس على المقعد المقابل لها.
“الشاي…”
“لا بأس. لقد شربت الكثير من الماء بسبب الدواء، ولا أرغب بالمزيد الآن.”
“…”.
صمت آينس للحظة، عاجزاً عن الرد، واكتفى بالنظر إليها. كانت سيسيليا تخفض رأسها محدّقة في يديها المضمومتين على حجرها، ثم رفعت رأسها أخيراً لتواجهه بنظرة مباشرة.
كد آينس أن يشيح بنظره بعيداً بشكل تلقائي، لكنه تمالك نفسه والتقى عينيها بصلابة.
“طردتِني بالأمس، فما الذي جاء بكِ إليّ اليوم؟”
رغم أن قلبه كان يصرخ بالقلق عليها، إلا أن الكلمات التي خرجت من فمه جاءت جافة وقاسية. وقد فات الأوان على التراجع عنها.
التعليقات لهذا الفصل " 53"