قررت في البداية أن أرتاح قليلاً أكثر. تمددت على السرير، وأخذت شهيقاً عميقاً لأفرغ صدري الضيق، ثم أطلقته ببطء.
قبل قليل، وبينما لم أكن قد استوعبت الموقف بعد، دخلت في مشادة كلامية مع “آينس” الذي جاء ليساعدني. لكن إن فكرت بهدوء، فلست واثقة إن كان ما فعلته فعلاً خطأً كبيراً.
من الأساس، هو من بدأ الكلام. صحيح أنني سألته عن سبب وجوده هنا، لكن ذلك كان فقط لأن هذا المكان لم يكن من المفترض أن يكون فيه.
لم أتخيل أبداً أن “آينس” قد يدخل في جدال بلا طائل مع شخص قد استيقظ لتوه من غيبوبة.
لو كان “آينس” قد فكّر حقاً في مصلحتي، ألن يكون من الأفضل له أن يتركني أرتاح بدلاً من أن يرهقني؟
لقد رأى بعينيه أنني مريضة، بل إنني كنت قد استعدت وعيي للتو. فهل كان من الضروري أن يخوض معي ذلك الحوار؟
شعور طفيف من الخيبة تسلل إلى صدري.
وفي ظل جسدي المرهق ورأسي الذي ينبض بالألم، تحولت هذه الخيبة الصغيرة إلى دموع ساخنة كادت تترقرق في عيني.
سحبت اللحاف حتى غطيت رأسي بالكامل، وبدأت ببطء أهدئ ذلك الشعور الذي كان يضغط على عنقي كشوكة مؤلمة.
—
عندما فتحت عيني من جديد، كان الفجر قد حلّ. ولحسن الحظ، بعد أن أخذت غفوةً قصيرة، شعرت أن جسدي عاد إلى حالته الطبيعية. إلا أن نومي الطويل ترك في ظهري شعوراً بالتيبس.
نهضت من السرير وأجريت بعض تمارين التمدد الخفيفة لأخفف من التعب المتراكم في جسدي. بعدها فقط تسنى لي أن أتفقد الغرفة.
حين استيقظت أول مرة لم أنتبه، لكن بجانب السرير على الطاولة الصغيرة كان هناك ظرف صغير. التقطت الرسالة وفتحتها.
كانت الرسالة من جدي. وبعد أن قرأتها، أدركت أنها مليئة بكلماته القلقة على صحتي.
كتب أنه كان يرغب بشدة أن يأتي بنفسه إلى منزلي، لكنه لم يتمكن من ذلك بسبب إصرار المحيطين به على منعه.
وبما أن جدي نفسه ليس على ما يرام، آلمني أن أكون قد سببت له المزيد من القلق.
قررت أن أذهب اليوم لزيارته، خاصة وأن “آينس” لن يخبره غالباً أنني قد استعدت وعيي.
طرقات خفيفة على الباب قطعت عليّ أفكاري بينما كنت أنهي قراءة الرسالة.
– “سيدتي، إنه أنا.”
كان الصوت صوت “ريفيت” من خلف الباب. وضعت الرسالة مجدداً في ظرفها، ثم دعوتها إلى الدخول.
– “هل تشعرين بتحسن الآن؟”
قالت وهي تقترب بسرعة بعد أن رأتني واقفة بجانب السرير. ابتسمت لها وأومأت برأسي مطمئنة.
– “نعم، أشعر بخفة أكبر بكثير.”
– “جيد. لقد حضرت لك حماماً، سيكون من الأفضل أن تغتسلي. وفي تلك الأثناء، سأستدعي الدكتور وات.”
– “الآن؟ ألا تعتقدين أن الوقت مبكر جداً؟”
كان الصبح قد بزغ، لكنه لا يزال وقتاً باكراً. حتى “الدكتور وات” لا بد أنه لا يبدأ عمله في هذه الساعة.
– “لقد أوصانا الدكتور وات بنفسه. قال إنه متى استيقظت، في أي وقت كان، يجب استدعاؤه فوراً.”
– “حقاً؟ إذن حسناً، قومي بذلك.”
– “نعم، سيدتي. تفضل، سأرافقك إلى الحمام.”
رافقتني “ريفيت” إلى الحمام. وما إن غمرت جسدي بالماء الدافئ حتى شعرت بأن رأسي المثقل بدأ يصفو.
وبعد أن ساعدتني على الاستحمام، لم أتمكن حتى من تناول الفطور قبل أن يحضر الدكتور وات للكشف عليّ.
الدكتور وات، الذي جاء باكراً، كان أشد حرصاً من أي وقت مضى في فحصي.
– “لحسن الحظ، لم تتدهور حالتك أكثر.”
قال ذلك متنهداً براحة بعد أن أنهى الفحص. يبدو أن ما حدث، من انهياري إلى انفلات المانا داخلي، جعله قلقاً عليّ طوال الوقت.
– “هل يمكنك أن تشرح لي بدقة لماذا حدث ذلك؟”
كنت قد سمعت تفسيراً مختصراً من “ريفيت”، لكني رغبت بسماع القصة كاملة من فم الطبيب. فأومأ برأسه وبدأ يوضح:
– “بعد إصابتك بمرض ترينتز، تراجعت قوتك الجسدية كثيراً. ثم بالغت في إرهاق أنفسك حتى انهار جسدك. وللأسف، في تلك اللحظة بالذات وقع انفلات المانا. حتى مع الأدوية، لم يكن هناك تحسن واضح، وكنت قلقاً للغاية.”
كان هذا تماماً ما أخبرتني به “ريفيت”. زفرت بخفة، وكأنني أقرّ بما كنت أتوقعه.
– “لم أظن يوماً أنني أبالغ، لكن يبدو أنني كنت أفعل.”
– “الأمر يعود إلى ضعف جسدك الحالي. أنت تتدربسن على المانا، نعم، لكن سيكون من الأفضل أن تعززي بنيتك الجسدية أيضاً.”
– “مفهوم.”
بدا لي أن من الحكمة أن أقلل قليلاً من وقت تدريب المانا، وأن أبحث عن معلم يساعدني على تقوية جسدي.
– “على كل حال، لو لم يحضر الدوق غراهام فور سماعه عن حالتك، لكانت العواقب وخيمة.”
قال الدكتور وات وهو يبتسم ابتسامة متعبة. فتوقفت برهة عند كلماته.
– “لقد أمضى ساعات يحاول تهدئة المانا المنفلتة في داخلك. وحتى بعدما استقرت حالتك، لم يغادر جانبك لحظة. أظنه قد عاد إلى قصره الآن، لكن……”
– “الدوق بنفسه فعل هذا؟”
– “نعم. كان الأمر نعمة حقاً.”
ابتسم الطبيب بهدوء وهو يجمع أدواته الطبية في حقيبته. نظرت إليه قليلاً، ثم التفت نحو النافذة، لكن من هذا المكان لم أستطع أن أرى قصر الدوق غراهام.
– “إذاً، سأغادر الآن.”
تابعت ظهر الدكتور وات وهو يرحل، ثم أعدت نظري إلى الغرفة. ورغم كل شيء، ظلت كلمات الأمس التي تبادلتها مع “آينس” تدور في ذهني.
– “ريفيت، هل حدث شيء آخر خلال اليومين الماضيين؟”
– “نعم، الدوق غراهام أرسل رسولاً برسالة. كما جاء الماستر تشيزاري والماستر فيرشنا لزيارتكم. وأيضاً……”
منذ لقائنا الأول في الحفل، لم نلتقِ إلا مرة واحدة بشكل شخصي، ومع ذلك كان “كاديا” يتصرف وكأننا أصدقاء قدامى، يزورني باستمرار.
بل إنه جاء إلى منزلي من دون موعد في المرة السابقة، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عن إرسال الرسائل واحدة تلو الأخرى.
لم أستطع إلا أن أشعر بالانزعاج من إصراره، حتى لو غضضت الطرف عن سمعة رفقائه السيئة.
كنت قد بعثت له رسالة من قبل أطلب فيها ألا يتواصل معي، لكن يبدو أنه تجاهلها تماماً، أو أنه جاء حقاً بدافع القلق. لم أستطع أن أجزم.
تجاهل “كاديا” لرغبتي في الابتعاد عنه أثار في نفسي نفوراً واضحاً. ربما السبب أنني حين التقيته أول مرة رأيته ودوداً، لكن ذلك كان فقط لأنني لم أكن أعرفه جيداً.
بدأت أشعر أنني ارتكبت خطأً جسيماً في السماح له بالاقتراب مني. كان يجب ألا أرتبط به منذ البداية.
– “لكن لا تقلقي، سيدتي. لقد أخبرته أنه لا يمكنك مقابلته في هذه الظروف، فعاد أدراجه.”
قالت “ريفيت” مسرعة، وقد لاحظت قلقي.
– “أحسنتِ. إن جاء مرة أخرى، ارفضي مقابلته بنفس الطريقة.”
– “نعم، سيدتي.”
على الأرجح سأضطر لمواجهته قريباً وجهاً لوجه ووضع حد للأمر، إذ لم تعد الرسائل تجدي. لكن يجب أن أحرص على أن يكون اللقاء في ظرف آمن.
– “على كل حال، أريد أن أذهب لاحقاً إلى قصر الدوق غراهام، فهل يمكنك تجهيز العربة؟”
طلبت منها ذلك، محاولاً إزاحة الأفكار المرهقة جانباً.
– “اليوم؟ هل تنوين الذهاب اليوم حقاً؟”
– “نعم. لماذا؟”
نظرت إليّ بعينين واسعتين من الدهشة، فأصابني بدوري الذهول.
– “لم يمضِ حتى يوم واحد منذ أن استيقظت. ألن يكون من الأفضل أن ترتاحي يومين إضافيين على الأقل قبل الذهاب؟”
أدركت سبب دهشة “ريفيت”، لقد كانت قلقة عليّ. ابتسمت بخفة وهززت رأسي نافياً.
– “لا بأس. لن أذهب للقيام بشيء مرهق، فقط لألقي التحية على جدي، ثم……”
لكن كلماتي انقطعت فجأة.
فقد تذكرت أن عليّ الاعتذار لـ “آينس” عن ما قلته له البارحة.
صحيح أنني لا أرى أنني كنت مخطئة تماماً، لكن بما أنه تكبد عناء المجيء شخصياً إلى هنا ليساعدني، فقد يقلقني أنني كنت قاسية جداً في صدّه.
– “على كل حال، سأقضي شأني سريعاً وأعود مباشرةً لأرتاح، فلا داعي للقلق الزائد.”
– “حقاً ستفعلين ذلك؟”
سألت “ريفيت” بعينين لا تزالان مثقلتين بالهم. وبما أنني أعلم أن كل ذلك نابع من قلقها عليّ، أومأت لها موافقاً من غير تردد.
التعليقات لهذا الفصل " 51"