“لقد أمسكتَ بخيطٍ من الحل في برج السحر بالأمس، وها أنت لا تنسى وتستعمله مباشرة اليوم. حقًا رائع. إنه لشرف لي أن أكون أنا من يعلّمك يا سيدتي .”
كعادته، جاء الماستر تشيزاري إلى القصر هذا اليوم أيضًا، وأثنى عليّ بينما كنتُ أوجه خيطًا رفيعًا من تدفق المانا.
أحيانًا كنتُ أشك أن مدح الماستر تشيزاري لم يكن سوى وسيلة لرفع معنوياتي. لكن بعدما سمعتُ نفس المدح من الماستر بيل بالأمس، لم أعد أستطيع اعتبار كلماته مجرد مجاملة.
“أشكرك على المديح.”
كنت أشعر ببعض الحرج، إذ أنني بالكاد أستطيع قيادة خيطٍ واحد من المانا، حتى صرت أتعرق من شدة الجهد.
بالنسبة للماستر تشيزاري، فمثل هذا الجهد لا يُعد شيئًا يُذكر. لكنه مع ذلك كان يمدحني كلما حققتُ أي إنجاز، وإن لم أحقق شيئًا كان يواسي بلطف.
هل كل السحرة لطفاء وأشخاص طيبون هكذا؟
لقائي مع الماستر بيل جعل هذا الاعتقاد يترسخ بداخلي أكثر.
“لنقم بمحاولة أخيرة قبل إنهاء التدريب.”
قال الماستر تشيزاري ذلك، ثم أعاد تجميع المانا حولي. ركّزتُ بكل طاقتي على التدفق المتماسك للمانا، وتدرّبتُ على تغيير مساره.
لم أشعر بمرور الوقت أثناء التدريب. واليوم نجحتُ في جعل خيط المانا الرفيع يدور دورة كاملة في الهواء حسب إرادتي.
أخبرني الماستر تشيزاري أن هذا إنجاز عظيم بالفعل، مما جعلني أشعر بالفخر.
“آه، على ذكر ذلك… هل سنذهب بعد الظهر إلى دوقية غراهام؟”
سألني الماستر تشيزاري فجأة وكأنه تذكر الأمر. لم يكن سؤالًا مفاجئًا بالنسبة لي، فأجبت دون اكتراث:
“نعم. كما سمعت بالأمس، ذاهبة لزيارة جدي.”
“هل قال لك الدوق غراهام إنه سيعطيك شيئًا؟”
“نعم؟”
كان ذلك حديثًا جرى بيني وبين آينس بعد مغادرة الماستر تشيزاري والماستر بيل. فأثار استغرابي أن يعرف تشيزاري بما دار حينها.
“كيف عرفت؟ هل هو نوع من السحر؟”
سألتُه مدهوشة بعينين متسعتين، فانفجر ضاحكًا. لم أفهم سبب ضحكه، فانتظرت إجابته.
“هاها، أعذريني. لكن كلماتك كانت لطيفة جدًا فلم أستطع منع نفسي من الضحك.”
“أنا؟”
“نعم.”
لم أستطع أبدًا أن أفهم ما المضحك في كلامي.
وحين ظللتُ أنظر إليه بحيرة، استعاد هدوءه وتحدث مجددًا:
“ليس ثمة سحر يتنصت على الأحاديث.”
“إذًا كيف عرفت أن الدوق غراهام وعدني بشيء؟ فقد أخبرني بذلك بعد مغادرتكما.”
“الأمر ليس معقدًا. فالشيء الذي تنوين استلامه صُنع في برج السحر عندنا.”
“آه…”
“حين رأيتُه، خطر ببالي فورًا: ’آه، هذا سيكون هدية للبارونة مارفيس.‘”
“ولماذا تقول ذلك؟ هل منقوش اسمي عليه أو شيء كهذا؟”
كان غريبًا أن يعرف أنه موجه لي بمجرد رؤيته. بدا الأمر مستحيلًا من دون وجود اسمي عليه.
“لا، ليس كذلك…”
أجاب باقتضاب، ثم عبس قليلًا وهو يتحسس ذقنه.
“لكن بما أن الدوق يريد أن يهديه لك، فلا يليق بي أن أبوح بماهيته قبلك.”
في النهاية، خلص إلى أنه لا يستطيع أن يخبرني بالتفاصيل. تنهدتُ بإحباط.
“لكن يا سيدتي البارونة، وإن كان من الجرأة أن أقول هذا، أرجو أن تقبلي الهدية إن أمكن.”
نصحني الماستر تشيزاري، مما زاد فضولي بشأن ماهية ذلك الشيء الذي يودّ أن أتسلمه.
“هل هناك سبب محدد؟”
“نعم. لأنه سيفيدك. أعلم أن قبول هدية من الدوق قد يضعك في موقف محرج، لكن أظن أن المصلحة أولى. على الأقل، يمكنك اعتبارها جزءًا إضافيًا من التعويضات التي تلقيتها. أليس الدوق يقدمها بدافع حسن النية؟”
“همم…”
ترددت قليلًا في كلماته. إن كان يتحدث بهذا الشكل، فلا بد أن ما حضره آينس ليس شيئًا عاديًا.
لكن إن كانت الهدية ثمينة جدًا، لم أرغب بقبولها. فما زال لدي الكثير من المال من التعويضات التي استلمتها من آينس، ولست بحاجة لشيء آخر.
بل إن اهتمامه بي بعد الطلاق بات يثقل كاهلي. منذ أيام فقط، حين بعث لي عبر جاكوب زهور تيريريا فجأة، شعرتُ بارتباك كبير.
“في النهاية، القرار لك. لن أفرض عليك شيئًا. لكن أنصحك بأن تفكري بالأمر بإيجابية.”
“……حسنًا.”
شعرت بعدم ارتياح بسبب ذلك الشيء الغامض.
بعد إنهاء التدريب، غادر الماستر تشيزاري سريعًا إلى برج السحر بسبب ارتباطاته. أوصاني أن أبلغ سلامه للماستر بيل، ثم عدتُ إلى داخل القصر.
لم يكن لدي مواعيد أخرى في هذا اليوم سوى وعدي بزيارة جدي.
نظرت إلى الساعة، فإذا بها قد تجاوزت الثانية عشرة. بدا متأخرًا لتناول الغداء في دوقية غراهام.
“ريفيت، سأستحم أولًا قبل تناول الطعام، فحضّري لي الحمام.”
“نعم يا سيدتي.”
قررت الاستحمام أولًا لأغسل عني عرق التدريب.
بعد قليل، جاءني خبر أن الحمام جاهز. فنهضتُ مباشرة وتوجهت إلى غرفة الاستحمام.
حالما غمرتني المياه الدافئة، شعرت بأن رأسي المثقل بالأفكار بدأ يصفو.
على الأقل أثناء الاستحمام، كنت أستطيع أن أنسى كل الهواجس، وأستمتع بلحظة هدوء.
بعد الاستحمام وتناول الغداء، ركبت العربة متجهة إلى دوقية غراهام كما خططت.
—
بمجرد وصولي، فُتحت بوابة الدوقية دون أن يفتشوا العربة. ما عنى أنهم كانوا بانتظاري.
توقفت العربة أمام الرواق الرئيسي للقصر، ونزلتُ منها لأجد رايتشل في انتظاري.
“أهلًا بكِ يا سيدتي البارونة. سيدنا الدوق بانتظارك.”
حيّتني بابتسامتها المشرقة المعتادة. بادلتها ابتسامة، ثم رفعت رأسي لا إراديًا لأنظر نحو القصر.
في الطابق الثالث، من مكتب آينس، رأيته واقفًا يراقبني.
أومأت له بتحية سريعة، ثم دخلت القصر مباشرة.
كان وضع جدي يزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
“أوه، سيسيليا. أتيتِ.”
“نعم، يا جدي.”
هذه المرة، كان الدكتور وات بجواره، مما جعل قلبي ينقبض خوفًا من أن تكون حالته قد تدهورت فجأة.
بعد أن حييت جدي، تبعتُ الدكتور وات إلى الخارج لأسأله:
“دكتور وات، كيف حال جدي؟”
ابتسم بمرارة وهو يجيب:
“حالته تزداد سوءًا يومًا بعد يوم. كنت قد أخبرت الدوق منذ أيام أن أمامه ثلاثة أشهر فقط على الأكثر… لكن قد يكون شهرين، بل وربما شهرًا واحدًا فقط. أنا أبذل جهدي لأصف له الأدوية التي تؤخر تدهور المرض، لكن لا أعلم إلى متى سينجح ذلك.”
“……”
لم أستطع الرد. انحنى الدكتور وات احترامًا، ثم غادر القصر. بقيتُ أحدّق في ظهره بخيبة أمل، قبل أن أستعيد رباطة جأشي وأعود إلى غرفة جدي.
“هل عدتِ بالأمس إلى المنزل بسلام؟”
“بالطبع. وأنت يا جدي، ألم تشعر بأي تعب البارحة؟”
“لا تقلقي عليّ يا سيسيليا. كما ترين، فالدكتور وات يأتي مسرعًا كلما شعرت بأدنى توعك.”
“……نعم.”
“لو أن كل يومٍ يشبه البارحة، لكان الأمر رائعًا حقًا. فأنتِ يا سيسيليا كنتِ هنا، وكذلك صديقي القديم بيرشينا كان معنا.”
قال جدي ذلك بنبرة يملؤها الأسى. أصغيتُ إلى كلماته ثم رفعت كتفي بخفة.
“في المرة القادمة سأصطحب الماستر بيل معي. لقد قالوا إن لديّ مؤهلات الدخول إلى برج السحر، لذا يمكنني أن أذهب بنفسي وأحضره.”
حين قلتها وكأنني أستطيع فعل ذلك في أي لحظة، ابتسم جدي ابتسامة رقيقة.
قضيتُ فترة ما بعد الظهر جالسة إلى جواره أؤنسه بالحديث.
كان جدي بالنسبة لي شخصًا مميزًا وعزيزًا على قلبي. حين فقدت والديّ وظننت أنني بقيت وحيدة في هذا العالم، كان هو من جاء إليّ، ليكون عائلتي بكل طيب خاطر.
وفي تلك الأيام أيضًا، كان آينس هو من واساني بجانب جدي……
قبل أن أعود إلى القصر، خرجتُ من غرفة جدي متوجهة نحو مكتب آينس. وكعادتي، صعدت السلم حتى الطابق الثالث، حيث يقع مكتبه في الجهة اليسرى، وكان الهدوء يخيم على المكان.
طرقَت رايتشل الباب:
“سيدي، البارونة مارفيس قد حضرت.”
رفعت صوتها بما يكفي ليسمع من الداخل، وسرعان ما جاء صوت آينس من الغرفة:
“ادخلي.”
“تفضلي بالدخول، سيدتي البارونة.”
وما إن وصلها الإذن حتى فتحت رايتشل الباب لتفسح لي الطريق.
ومن خلال الباب المفتوح، رأيت آينس واقفًا أمام مكتبه، وقد أدار ظهره للكتب والأوراق، ليواجهني مباشرة.
التعليقات لهذا الفصل " 46"