لقد جاء آينس معي لزيارة برج السحر، فقد أراد هو أيضًا أن يتجول فيه، لكنني لم أكن واثقة مما إذا كان من اللائق أن أمارس التدريب بطمأنينة في مثل هذا الموقف.
يبدو أن”ماستر بيل” كانت منذ البداية تنوي دعوتي لمساعدتي قليلًا في التدريب. ولهذا، بعد أن تجولنا مع “ماستر تشيزاري” في بعض الطوابق الأخرى، أحضرونا مباشرة إلى ساحة التدريب.
لكن إن كان الأمر مخططًا له منذ البداية، ألم يكن من غير الضروري إحضار آينس أيضًا؟ لو كان الهدف مجرد دعوتي إلى البرج، فكان بالإمكان فعل ذلك في يوم آخر.
صحيح أن آينس لم يأتِ بدافع التجوال وحده، لكن لا يعني ذلك أن قلقي قد اختفى.
فبينما انشغل “ماستر بيل” و”ماستر تشيزاري” بالتركيز عليّ وحدي وتعليمي كيفية التحكم بالمانا، لم يكن أمام آينس سوى أن يقف على بعد بضع خطوات ويكتفي بالمراقبة بصمت، وهذا جعلني أشعر بالحرج.
قال “ماستر تشيزاري” وهو يبتسم ابتسامة حرجة:
ــ “يبدو أنك غير قادرة على التركيز اليوم على غير العادة.”
أجبته معتذرة:
ــ “آسفة.”
لم أستطع أن أُبدي تذمرًا لشخص يبذل وقته وجهده من أجلي، فلم يكن أمامي سوى الاعتذار.
لكن “ماستر تشيزاري” هز رأسه بابتسامة لطيفة قائلاً:
ــ “لا داعي للاعتذار. فالبيئة اليوم مختلفة عن المعتاد، وهذا كافٍ لتشتيت تركيز أي شخص. المكان… والأشخاص أيضًا…”
ثم ألقى نظرة خفيفة باتجاه آينس قبل أن يتابع:
ــ “لقد مر وقت كافٍ، فلنجعلها المحاولة الأخيرة اليوم. سنتدرب على طريقة توجيه المانا مرة أخرى، ثم نُنهي هنا.”
أجبته:
ــ “حسنًا، مفهوم.”
وفور أن أنهيت كلامي، ضغط “ماستر تشيزاري” بأصابعه فبدأت المانا تتجمع حولي بكثافة.
حاولت أن ألتقط تياراتها الدقيقة بين تلك الكتل المتحركة، لكن قلبي لم يكن حاضرًا، فتشتت انتباهي بسهولة.
عندها سمعت وقع خطوات تقترب من الخلف.
وبما أن “ماستر بيل” و”ماستر تشيزاري” كانا أمامي، لم يكن المتقدم نحوي سوى شخص واحد.
ــ “لا تفعلي هكذا… جربي بهذه الطريقة.”
اقترب آينس حتى صار بمحاذاتي، ثم مال بجذعه نحوي وأمسك بمعصمي، موجّهًا يدي حيث تركزت المانا.
لم أفهم ما الذي يحاول فعله، فالتفتُ إليه بنظرة جانبية.
عندها بدأ آينس يقود يدي وفق التيار الخفيف للمانا قائلاً:
ــ “لا تحاولي مقاومة هذا الجريان. فقط تابعيه ببطء. وحين تشعرين أنك فهمتِ مساره، عندها افسحي له منفذًا صغيرًا. من المستحيل أن يسيطر المبتدئ كليًا على المانا، كما لو أنكِ طلبتِ من شخص لم يمسك سيفًا قط أن يصطاد ذئبًا. لذا لا تفعلي ذلك. بدلاً من هذا، إن فتحْتِ ثغرة، ستظهر تيارات بين المانا تميل لاتباعك تلقائيًا. حينها يكفي أن تبدأي بتحريك ذلك التيار وحده.”
قال ذلك وهو يركز بجدية، ثم فجأة شق تيار المانا الواحد إلى مسارين منفصلين.
ــ “آه…”
لم أكن قد تخيلت أبدًا أن بالإمكان شطر جريان المانا بهذه الطريقة، فانفلت مني صوت إعجاب قبل أن أسرع بإطباق شفتي.
ــ “لا تفكري بالأمر كشيء صعب. اعتبري نفسكِ أحد تيارات المانا. عندها ستنقاد إليك طبيعيًا. جربي تحريك التيار الذي يتبعك أولًا، وحين تعتادين على إحساسه، ستتمكنين لاحقًا من التحكم بالتدفق كله. جربي.”
قربه الشديد جعل أنفاسه تلامس وجنتي وكأنها تدغدغها. حاولت الابتعاد لكن معصمي كان ما يزال في قبضته، فلم أستطع الفكاك.
قلت متلعثمة:
ــ “ح، حسنًا… سأجرب… لكن أرجوك اتركني أولاً.”
لحسن الحظ، أطلق آينس معصمي على الفور، ثم أمال رأسه قليلًا مشيرًا لي بأن أبدأ.
شعرت بحرارة غريبة تتصاعد في وجنتي حيث مر نفسه قبل قليل.
لكن ما أظهره لي بدا سهلًا، لم يكن في الواقع بتلك السهولة. مع ذلك، حاولت قدر استطاعتي أن أتابع التيار كما فعل.
كان الأمر شاقًا جدًا، بخلاف ما فعله هو بسهولة. ورغم محاولاتي الجادة، بقيت متأخرة عنه بنصف نبضة في كل حركة.
كانت تلك مجاملة غير متوقعة. ونبرة صوته كانت ألطف مما اعتدت، حتى أنني فوجئت وفقدت التركيز للحظة.
لكن لم يكن بوسعي التوقف هنا. فكل من “ماستر بيل” و”ماستر تشيزاري” وحتى آينس، كانوا يساعدونني. كيف لي أن أستسلم وأخذلهم بضعفي؟
عندها تدخلت “ماستر بيل” قائلة:
ــ “صحيح يا سيسيليا. كما شرح لكِ الدوق، يكفي أن تتابعي المجرى دون أن تعاكسيه. سأبطئ الجريان قليلًا، فجربي اللحاق به على مهل.”
أجبتها:
ــ “نعم، سأحاول.”
عزمت على المحاولة من جديد.
وحسب قول “ماستر تشيزاري”، كان غيري يحتاج لعدة أيام لبلوغ هذه المرحلة، فكيف لي أن أستسلم مبكرًا؟
مدت “ماستر بيل” يدها نحوي، فإذا بالمانا التي كانت تتحرك بوتيرة ثابتة من حولي تبدأ بالتباطؤ بشكل عجيب حتى صارت أبطأ من أن أتخلف عنها.
أغمضت عيني لأعيد الإحساس بجريانها. وهذه المرة، بدا وكأن المانا نفسها هي التي توجهني.
وبينما أتابعها فقط، تذكرت ما قاله آينس وحاولت بخفة أن أعدل مسارها.
لكنها لم تستجب كما أردت. وشعرت بخيبة في قلبي لوهلة، حتى لاحظت خيطًا صغيرًا من المانا يتسرب بالفعل في الاتجاه الذي قصدته.
اتسعت عيناي من الدهشة حتى أنني نسيت التركيز وكتمت أنفاسي بصوت مسموع.
ــ “لقد…!”
ابتسمت “ماستر بيل” وهي تجيب:
ــ “نعم، أحسنتِ.”
ثم أضافت:
ــ “كما قال ماستر تشيزاري. من المدهش بلوغ هذه المرحلة بهذه السرعة. في العادة يتطلب الأمر عدة أيام.”
ابتسمت بخجل، فأنا أعلم أن هذا الإنجاز لم يكن بفضلي وحدي، بل بمساعدتهم جميعًا.
قالت “ماستر بيل”:
ــ “فلنكرر ذلك كي لا تنسي الإحساس.”
ــ “حسنًا.”
شعرت بحماس جديد بعد نجاحي الأول.
أعادت “ماستر بيل” إبطاء الجريان مجددًا. فأغمضت عيني محاولًة إحكام السيطرة على ذلك الإحساس.
ومرة أخرى، فتحت منفذًا صغيرًا للمانا لتتسرب منه. كان التكرار أسهل، لكن الحفاظ على الشعور الأولي كان أصعب بكثير. وبعد وقت طويل من المحاولات، نجحت أخيرًا في شق طريق جديد للجريان.
ومع إصراري هذه المرة، تمكنت من جعل المانا تنحرف كما أردت.
قالت “ماستر بيل”:
ــ “الآن حاولي أن تتحكمي به مباشرة. سيستجيب لندائك.”
اتجهت المانا أولًا نحو المسار الذي فتحتُه، ثم بدأت ببطء تتبع إرادتي.
كان الأمر أشبه بالتحكم بمياه نهر بيدي، إحساس مدهش جعلني أفتح عيني تدريجيًا.
وفي اللحظة التالية، اختفى تركيز المانا الكثيف الذي كان يحيطني. وارتفع صوت تصفيق بجانبي.
التفتُ، فإذا بـ “ماستر تشيزاري” يصفق وهو يبتسم.
ــ “مبارك يا آنسة. لقد تمكنتِ من تحريك المانا بالفعل. صحيح أن هذا ليس سوى البداية، لكن بلوغ هذه النتيجة أمر مذهل. رائع حقًا.”
وبينما كنت ما أزال محرجة من مدحه، وضعت يد دافئة على كتفي. لقد كانت “ماستر بيل”.
ــ “تبدين وكأنكِ ساحرة بالفطرة. ما رأيكِ أن تواصلي التدريب وتسلكي طريق السحرة؟”
ــ “……هل يمكنني حقًا أن أصبح ساحرة؟”
حتى قبل قليل، كانت “ماستر بيل” قد قالت إن الأمر ممكن تمامًا، لكنني لم أستطع استيعاب ذلك بصدق.
أتذكر حين لجأت إلى “ماستر تشيزاري” أطلب مساعدته بسبب آثار المرض… لا، حتى عندما علّمني كيفية الإحساس بالمانا، لم يخطر ببالي سوى علاج علّتي. لم أتخيل يومًا أنني سأفكر في أن أصبح ساحرة.
الاسم الذي لم أجرؤ حتى على الحلم به قبل أن أتعلم المانا… بدأ الآن يطرق قلبي شيئًا فشيئًا.
ابتسمت “ماستر بيل” وهي تقول:
ــ “بالطبع. مجرد قدرتك على الإحساس بالمانا وتحريكها يكفي لأن يمنحكِ مؤهلات الساحر. والأهم من ذلك، أن سيسيليا الآن تتلقى التعليم على يد أعلى مقام في برج السحرة. أليس من البديهي أن تكون تلميذة ماستر تشيزاري مؤهلة لتصبح ساحرة؟”
وأضاف “ماستر تشيزاري” مؤكدًا:
ــ “صحيح. لقد حصلتِ على جميع المؤهلات المطلوبة لتصبحين ساحرة. يمكننا اعتباركِ الآن متدرّبة سحر.”
لم أستطع إخفاء وجهي الذي ازداد دفئًا واحمرارًا، فانحنيت بخجل وأنا أشعر بارتباك غريب.
ومن دون وعي، نظرت إلى حيث كان يقف آينس.
كان يقف مكتوف الذراعين، يراقبني بابتسامة خفيفة على وجهه.
التعليقات لهذا الفصل " 41"