بمجرد أن توقّف آينس عن الكلام، عمّ الصمت قاعة الطعام على الفور. بدا أنّ بعض الحاضرين قد تعرّفوا على هويته. ولذلك، ورغم دخوله العاصف، لم يجرؤ أحد على إظهار أي امتعاض.
الذي كسر هذا الجوّ المربك والمشحون كان “ماستر بيل”، الجالسة قبالتي.
قالت وهي تبتسم:
“تشرفنا، دوق غراهام؟ أنا بيرشينا دييلمان. هذه أول مرة نلتقي فيها وجهاً لوجه. لا أدري إن كنت تعلم، لكنني من شيوخ برج السحر.”
كانت ماستر بيل قد أسندت جزعها إلى الطاولة، ووضعت يدها تحت ذقنها، وهي تلقي التحية على آينس المتيبّس من الدهشة. عيناها المنحنيتان بلطف أظهرتا سحراً خاصاً.
لكن آينس، حتى بعدما تلقّى تحيتها، لم يستطع أن يجيب لفترة. يبدو أنّه هو الآخر لم يتوقع حدوث موقف كهذا.
ناديتُه بصوت خافت:
“سيدي الدوق!”
حينها فقط التفت إليّ ثم إلى ماستر بيل. لم يتغيّر تعبير وجهه كثيراً، لكنني شعرت بأنه مرتبك.
لا بدّ أنه كذلك. فكما لم أتوقع أنا، لم يكن هو أيضاً يظن أنّ الطرف الذي قدّمه لنا جدي سيكون امرأة.
مهما كان السبب الذي أتى به إلى هنا، أو ما الذي كان يفكّر فيه، لا شك أنه فوجئ بالموقف كما فوجئتُ أنا.
قال أخيراً:
“ماستر بيرشينا… أظن أنك تعلمين من أكون. أنا آينس غراهام.”
قدّم آينس نفسه متأخراً، فردّت ماستر بيل بابتسامة.
“بما أنك أتيت، ألا تجلس معنا؟ أياً كان السبب، فاللقاء بهذا الشكل يُعد قدراً. لنتناول الطعام سوياً. ما رأيك يا سيسيليا؟ هل يضايقك الأمر؟”
ارتبكتُ من اقتراحها المفاجئ، ولم أستطع الرد. صحيح أن الجلوس مع آينس لا يزال غير مريح بالنسبة لي، لكن رفض عرض صديقة جدي ماستر بيل أشعرني بعدم الارتياح أيضاً.
نظرتُ خلسة إلى آينس، فوجدته يحدّق بي صامتاً.
(هل ينتظر أن أعطي الإذن؟ لا يمكن…)
صحيح أنّه بعد الطلاق صار يُبدي اهتماماً غريباً بي، لكن بعدما رفضته ظلّ هادئاً ولم يتقرّب مجدداً.
قلت بعد تفكير:
“…لا مانع عندي إن جلس معنا.”
ابتسمت ماستر بيل ثم رفعت رأسها نحو آينس:
“سمعتِ بنفسك. فما رأيك أنت، دوق؟ ألا تجلس وتتناول الطعام معنا؟”
تردّد آينس. صحيح أنّه لم يكن مدعواً، لكن رفض دعوة ماستر بيل علناً لم يكن لائقاً.
بعد أن نظر إليّ قليلاً، قال موجهاً كلامه لها:
“لا، يبدو أنّني أخطأت في المجيء. أعذراني، سأنصرف الآن…”
اختار آينس المغادرة. فتنفستُ الصعداء بعد توتر قصير. أما ماستر بيل، فنظرت إليه بملامح يغشاها الأسف.
“حسناً… ما دام هذا اختيارك، فلن يكون من اللائق أن أُصرّ عليك. سررت بلقائك، ونرجو أن يجمعنا القدر مرة أخرى.”
ابتسمت ماستر بيل بعذوبة وهي تودّعه، فاكتفى آينس بإيماءة خفيفة، ثم استدار منصرفاً.
بعدها التفتت إليّ قائلة:
“إذن يا سيسيليا، بعد أن ننهي طعامنا، سأصطحبك إلى برج السحر لأعرّفك على بعض الأشخاص. من المحتمل أن يكون ماستر تشيزاري موجوداً اليوم أيضاً، فنغتنم الفرصة لتقديمك إليه.”
ابتسمتُ شاكرةً:
“أجل، أشكرك على لطفك.”
قالت وقد بدت مسرورة:
“كنت قد سمعت عنك من تشيزاري أكثر من مرة. والحق أنه يُبدي إعجاباً كبيراً بك.”
“ماذا؟”
ارتبكتُ من كلامها. لم أفهم أي حديث أوحى لها بذلك.
لكن فجأة، ظلّ طويل ألقى بظلاله على الطاولة. التفتُّ فرأيت آينس واقفاً بجوارنا!
(ألم يقل إنه سيرحل؟ إذن لم يذهب بعد؟)
ناديتُه بحذر:
“سيدي الدوق؟”
ثبت نظره عليّ بوجه خالٍ من التعابير. بدا وكأنه يريد قول شيء، لكنه لزم الصمت بإحكام، فلم أستطع فهم قصده.
نظرتُ إلى ماستر بيل مرتبكة، لكنها كانت تنظر إليه مبتسمة كأن الأمر يروق لها.
سألته بمرح:
“يا للعجب، ألم تقل إنك سترحل؟ ما الأمر يا دوق؟”
حرّك شفتيه قليلاً، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة، وقال:
“تذكرت فجأة أنّ لقاء أحد شيوخ البرج أمرٌ في غاية الصعوبة. وبما أنني حظيت بهذا اللقاء صدفة، فقد رغبت في تناول الطعام معكم. إن أذنتما، هل أشارككما؟”
عاد آينس ليطلب الجلوس معنا، خلافاً لتوقعي. وبما أنني سبق وأعطيت موافقتي عندما سألتني ماستر بيل، صار رفضه الآن متأخراً جداً.
نظرتُ إلى ماستر بيل، خشية أن ترفض. لكنها قبلت بسرور:
“ما دمتَ راغباً بهذا الشكل، فكيف أرفض؟ اجلس هنا من فضلك.”
أشارت إلى الكرسي الفارغ بجانبي، فجلس آينس. لم أدرِ لمَ، لكنني عدّلت جلستي في توتر.
التفت إليّ يسأل:
“هل أنتِ بخير مع هذا؟”
كان قد جلس بالفعل، فما جدوى سؤاله الآن؟ فأجبته بهدوء:
“أنا بخير.”
(صحيح… لا يمكنني أن أعيش متجنبة الاصطدام به للأبد. الأفضل أن أتعوّد على تجاهله.)
قالت ماستر بيل للنادل:
“هل تودّون طلب شيء؟”
أجاب آينس ببرود:
“أي طبقٍ تنصحين به سيكون مناسباً.”
أومأت ماستر بيل، واستدعت الخادم لتطلب طبقاً إضافياً من نفس ما طلبناه.
ثم التفتت قائلة:
“بالمناسبة، أعلم أنّك حضرت بتوصية من الجدّ، لكن هل لي أن أسألك عن طبيعة علاقتك به؟”
كان هذا نفس السؤال الذي طرحته أنا عليها قبل قليل. ابتسمت، ثم أجابت:
“كما قلت لسيسيليا آنفاً، نحن كالأصدقاء. عرفتُه منذ زمن طويل، وحين يطلب صديق معروفاً لا يسعك أن ترفض.”
سألها آينس بحذر:
“معروف… تقصدين؟”
أومأت بسرعة:
“أظنك مطّلع على حال سيسيليا، أليس كذلك؟ لقد أخبرني دايموند أنّ علاجها الكامل لا يمكن أن يتم إلا إذا تعلّمت كيفية التحكم بالمانا. لذلك طلب مني مساعدتها. صحيح أن تشيزاري يساندها، لكن في نظر دايموند يظل صغيراً قليل الخبرة، حتى وإن كان سيد البرج وصاحب القلعة.”
ابتسمت وهي تقول ذلك، ثم جلست باعتدال بعدما كانت مائلة إلى الأمام. وبالتزامن، بدأ الخدم يضعون الأطباق أمامنا.
قالت بابتسامة:
“الطاهي هنا بارع للغاية. لا شك أن طباخ قصر الدوق متميز أيضاً، لكنني أرى أن هذا يتفوّق عليه بخطوة. تذوّقوا بأنفسكم، والليلة على حسابي.”
بدأت ماستر بيل تدعونا إلى تناول الطعام. ظللت صامتة طوال الوقت، ثم فتحت فمي ببطء:
“سأتناولها بشهية، شكراً.”
ابتسمت ماستر بيل برضا وقالت:
“هكذا إذاً. عليك أن تأكلي كثيراً وتقوّي جسدك، فذلك سيجعل تعلمك للمانا أسهل.”
ضحكت راضية بعد ردي البسيط.
أمسكت بالشوكة وأخذت قطعة من المقبّلات الموضوعة أمامي. كان طعم الجبن المالح والغني يمتزج بشكل رائع مع الفطيرة الخفيفة المصنوعة من القمح، ومع الصلصة المنعشة.
قلت بإعجاب لا شعوري:
“إنه لذيذ!”
عندها بدت ماستر بيل مسرورة للغاية.
“الحمد لله أنه أعجبك. كنت قلقة أن لا يوافق ذوقك.”
ثم بدأت هي أيضاً بتناول طعامها. أما أنا، فتابعت تذوّق الأطباق التي وصلت تباعاً.
وبدأت أفهم سبب اختيارها لهذا المطعم بالذات. صحيح أن أطباق قصر غراهام كانت في غاية الروعة، لكن أطباق هذا المكان حملت نكهة مختلفة، فيها مستوى آخر من التميّز.
وبينما نحن في خضم الطعام، لاحظت أنّ يد آينس، الجالس إلى جواري، قد توقفت. وضعت شوكتي بهدوء ونظرت إليه خلسة.
التعليقات لهذا الفصل " 37"