في الرسالة التي أحضرتها رايتشل بيديها، كانت مكتوبة بخط خادم نيابةً عنه. وعندما قرأتها بتمهل، وجدت أنها تحتوي على تفاصيل الوقت والمكان الذي سألتقي فيه بالشخص الذي قال جدي إنه يود أن يعرّفني به.
ومضت الأيام، وكان الموعد بعد ثلاثة أيام من استلامي الرسالة.
خلال فترة انتظاري للقاء، كنت أتدرّب على تحريك المانا بالطريقة التي علّمني إياها الماستر تشيزاري. لم يكن هناك ما هو أفضل من ذلك لتمضية الوقت، بل إنه ساعدني على زيادة انسجامي مع المانا أيضاً.
وبينما كنت أمارس التدريب، راودني تذكّر ما حدث في قصر دوق غراهام.
ومن حسن الحظ أنه بعد أن رفضت أصيص زهور “تييريا” الذي قدّمه لي آينس، وأعدت له قلم الحبر، لم يُظهر أي ردة فعل خاصة.
كنت أظن أنه بدافع كبريائه سيعود إليّ مجدداً، لكن على غير المتوقع ظل هادئاً.
ربما هو من أنهى أولاً لعبة شدّ الحبل العاطفية المملة بيننا.
لا، بل ربما لم يكن الأمر متعلقاً بي من الأساس. فقد كان آينس لفترة طويلة بلا أي اهتمام بي، بل كان يراني عبئاً ومصدر إزعاج.
يبدو أن اهتمامه المفاجئ بي وزياراته المتكررة لم تكن سوى حالة عابرة.
شعرت في داخلي براحة تسري في صدري. في النهاية، علاقتي وآينس لم يكن مقدراً لها إلا أن تبتعد.
ذكّرت نفسي مجدداً أن مشاعرنا لم تتلاقَ ولو مرة واحدة خلال أكثر من عشر سنوات.
“سيدتي، انتهيت.”
قالت “ريفيت”، وهي تزيّنني بصوت واثق. حينها فقط تخلّصت من شرودي ونظرت في المرآة.
“واو…”
كعادتي، لم أملك إلا أن أندهش. كانت ريفيت بارعة اليدين حقاً. بدا الأمر مضحكاً أن أمدح نفسي، لكن في الأيام التي كانت تهتم هي بمظهري كنت أبدو جميلة لدرجة تُدهشني أنا نفسي.
“ما رأيك؟ اليوم قلتِ إنك ستقابلين شخصاً جديداً، لذلك بذلت جهداً أكبر قليلاً.”
“رائع حقاً. شكراً لكِ دائماً يا ريفيت.”
“لا شكر على واجب.”
ابتسمت ريفيت بفخر، ثم سرعان ما نظرت إلى الساعة وبدت منشغلة.
“هيا، عليكِ أن تخرجي الآن. ستتأخرين.”
“بالفعل؟”
“نعم، إنها ليست (بالفعل). لقد تجاوزت الساعة الحادية عشرة.”
لم أشعر بمرور الوقت وأنا سارحة في أفكاري. كان موعد اللقاء في الحادية عشرة والنصف، وإن أردت الوصول في الوقت المحدد فعليّ أن أتحرك فوراً.
كنت قد عقدت العزم على أن أتناول الغداء معه فقط، ثم أبلغه برغبتي في الرفض وأعود. لكن مراعاةً لمكانة جدي الذي رتّب هذا اللقاء، لم يكن يليق أن أتأخر.
خرجت مسرعة وركبت العربة التي كانت بانتظاري. وبما أن المكان كان قد أُبلغ به مسبقاً، انطلقت العربة فور أن تأكد السائق من جلوسي وإغلاق الباب.
كان هذا أول لقاء تعارفٍ من هذا النوع، لذا شعرت ببعض التوتر. ولأكون صادقة، لم يكن في الأمر حماسة، بل كنت منشغلة بالتفكير في كيفية الاعتذار والانسحاب من دون أن أُحرج الطرف الآخر.
وبعد أن أسرعت العربة في سيرها، وصلت متأخرة قليلاً عن الموعد.
كان المكان مطعماً راقياً مشهوراً حتى في العاصمة. وقفت أمام المدخل أتنفس بعمق، ثم دخلت ببطء.
“مرحباً سيدتي، هل لدي حجز؟”
سألني النادل بأدب. ألقيت نظرة إلى داخل المطعم ثم أومأت برأسي.
“سمعت أنه مسجّل باسم دايموند غراهام. هل يمكنك التأكد؟”
“نعم بالطبع، سأرشدكِ. تفضلي من هنا.”
تبعته إلى الداخل، لكن الغريب أنني لم أرَ أي طاولة يجلس عندها رجل وحده.
هل يكون قد تأخر أكثر مني؟
كان ذلك أهون بكثير من أن أكون أنا المتأخرة. كان الانتظار أريح لي من الحرج.
لكنني فوجئت بما رأيته حين وصلت إلى الطاولة.
“هذا هو المكان. حين تختارون الأطباق، أعلموني.”
قال النادل ثم انصرف.
وبمجرد أن نظرت إلى الشخص الجالس على الطاولة، نطقت بحذر:
“هل حضرتِ بطلب من السيد دايموند غراهام؟”
رفعت المرأة الجالسة رأسها إليّ بابتسامة.
“نعم. لكن اجلسي أولاً، الوقوف سيتعب ساقيكِ.”
كان الأمر غير متوقع تماماً. فقد ظننت أن جدي يريد أن يعرّفني على شريك زواج جديد، لكن الذي كان بانتظاري لم يكن رجلاً، بل سيدة في منتصف العمر.
كانت ذات شعر طويل أحمر فاخر، مرفوع إلى أعلى على شكل عقدة، وترتدي ثوباً أنيقاً يُبرز قوامها. لكنني لم أرَ بين النبلاء من يحمل مثل هذه الهيئة.
وبشيء من التوتر، جلست أمامها.
“يبدو أن دايموند لم يشرح لكِ الأمر جيداً.”
“آه… أجل. قال فقط إنه سيعرّفني على شخص جيد…”
وقبل أن أكمل كلامي، ضحكت المرأة ضحكة رنانة.
“لا بأس. سأقدّم نفسي أولاً. أنا بيرشينا دييلمان، إحدى حكماء برج السحرة.”
“…ماذا؟”
اتسعت عيناي من الدهشة.
حكيمة من برج السحرة! لقد سمعت أن بيرشينا دييلمان كانت إحدى أسياد البرج في السابق.
صحيح أن الماستر تشيزاري هو صاحب البرج الآن، لكنني سمعت أن من كانت تديره قبله هي هذه السيدة نفسها.
“أنا سيييليا مارفيس.”
“أعلم. دايموند أخبرني بعض الأمور، كما أنني سمعت الوضع كاملاً من تشيزاري أيضاً. ذلك العجوز المشاكس ـ دايموند ـ طلب مني شخصياً مساعدتك. على فكرة، أيمكنني مناداتك بسيسيليا فقط؟ لا أجيد كثيراً الألقاب والرسميات.”
أومأت برأسي. فهي ليست شخصاً يقلّ شأنه عني لأتمسك بالألقاب، بل على العكس، كانت من كبار القوم، ومن أعلى السحرة مكانة، حتى أن البلاط الإمبراطوري نفسه لا يجرؤ على التهاون معها.
“يبدو أن دايموند قلق كثيراً بسبب مرضك. لذلك لجأ إليّ. يقول إن ذلك الصغير تشيزاري لا يرضيه كثيراً.”
“حقاً… لم يخطر ببالي إطلاقاً.”
“لا بأس، الآن قد عرفتِ.”
“إذن، كيف أناديكِ؟”
كنت مترددة، فـ “حكيمة” بدا رسمياً أكثر من اللازم، ومناداتها باسمها مباشرة فيه جرأة مني. لم أجد لقباً مناسباً، لذلك سألت بحذر.
فأجابت بابتسامة خفيفة وهي تهز كتفيها:
“ناديني ببساطة الماستر بيل. هكذا يناديني الجميع. على فكرة، أتعلمين أن هذا المطعم مشهور بطبق معين؟ سأطلبه لنا.”
“لا بأس عندي، أي شيء مناسب.”
نادَت النادل وطلبت الطعام، وأنا طلبت مثله.
“بعد الغداء سأريك برج السحرة. سمعت أن تشيزاري يدرّسك المانا في القصر فقط؟ برج السحرة مجهّز بوسائل تدريب كثيرة للمبتدئين. سيكون الأمر أفضل بكثير هناك.”
“أجل، في الواقع، الماستر تشيزاري قال أيضاً إنه سيكون من الجيد أن أزور البرج.”
“بالطبع. هناك سحرة كثر، وستحتكين بأنواع مختلفة من المانا، مما يساعدك على فهم خصائصها بسرعة أكبر.”
استندت الماستر بيل على الطاولة بابتسامة دافئة.
“لقد توسّل إليّ دايموند. قال لي: إنها كحفيدتي، فأرجوكِ ساعديها لتشفى.”
“جدي… قال ذلك؟”
“نعم. ولهذا أنا هنا. في العادة لا أقبل الطلبات البسيطة، لكن دايموند قال إنها آخر رجاء له، فلم أستطع أن أرفض.”
وما إن أنهت كلامها حتى شعرت بالدموع تترقرق في عيني.
لقد كنتُ غبية، إذ ظننت أن جدي يريد فقط أن يعرّفني على شخص لوجبة طعام، بينما في الحقيقة كان منشغلاً بقلقه عليّ، مستعيناً بنفوذه ليستدعي الماستر بيل خصيصاً من أجلي.
غمرني شعور بالامتنان والذنب في آن واحد، حتى إن الدموع بدأت تترقرق في عيني. لكن لم يكن يليق أن أذرف الدموع أو أبكي في مثل هذا الموقف.
“هل لي أن أسأل ما هي علاقتكِ بجدي؟”
سألتُها بحذر، فتفكرت الماستر بيل لبرهة، ثم ابتسمت ابتسامة غامضة.
“مم… صديقته، ربما؟”
حين سمعتها تقول إنها صديقة جدي، انحنيت برأسي بخجل. كانت تبدو كامرأة في منتصف العمر فقط، لكن إن كانت على علاقة صداقة بجدي، فلا بد أن عمرها أكبر بكثير مما تبدو عليه.
في تلك اللحظة ـ
دوووم!
انفتح باب المطعم بعنف، واقتحمه شخص ما. عمّت الفوضى أرجاء المكان بسبب هذا الضيف غير المرغوب، وعلى الرغم من محاولات الموظفين منعه، إلا أنه اندفع إلى الداخل، يفتش بنظره بين الطاولات وكأنه يبحث عن شخص بعينه.
وعندما وقعت عيناي عليه، خرج من فمي همس مدهوش:
“آينس؟”
كان الداخل هو آينس بالفعل.
راح يحدّق حوله بوجه غاضب، وما إن رآني حتى أسرع نحوي بخطوات حازمة.
“ما الذي تفعلينه هنا؟”
سألته مرتبكة، وأنا مشوشة من ظهوره المفاجئ مجدداً. عندها ضغط آينس على أسنانه وقال بعصبية:
“سيسيليا، هل حقاً جئتِ لتلتقي بشخص آخر…!”
لكن سرعان ما توقّف عن الكلام، إذ وقعت عيناه على المرأة الجالسة أمامي، فأدرك أنها ليست رجلاً، وتجمّد مكانه تماماً.
التعليقات لهذا الفصل " 36"