سألت وأنا غير قادرة على أن أمد يدي لتسلّم الأصيص الذي يقدمه جيكوب. كان ينظر إلى الأصيص بحيرة قبل أن يجيب بصوت حذر:
“لقد سمعت أن زهرة تييريا تُستخدم كدواء لتخفيف آثار مرض البارون الجانبية.”
“صحيح.”
“ولهذا السبب سعى الدوق للحصول عليها حتى يتمكن من مساعدتك.”
نظرتُ مطولاً إلى الأصيص بين يديه.
والتفكير أعادني إلى تلك اللحظة عندما علم آينس بمرضي، وكيف بدأ منذ ذلك الوقت يُظهر رغبته في مساعدتي في التخفيف من تبعاته.
فمثلاً، حين جاء ذات يوم إلى القصر وعرض أن يعلّمني استخدام المانا، كان ذلك أحد أمثلته.
والآن…
هذه الزهرة التي يحاول أن يوصلها لي عبر جيكوب، لم تكن مختلفة عن ذلك الشعور الذي أظهره حينها.
لكنني لم أستطع أن أفهم لماذا يُبدي آينس هذا القدر من الاهتمام بمرضي.
لو أنه اكتفى باللامبالاة المعتادة التي كان يُظهرها دائماً… لما وجدت نفسي أتساءل كل هذا.
هل يشعر بالذنب تجاهي؟
آينس غراهام، ذلك الرجل الذي لا يعرف الضعف؟
“جيكوب.”
“نعم، يا بارونة.”
أجابني وهو يخفض رأسه بمجرد أن ناديت اسمه. بقيت أنظر طويلاً إلى الأصيص الذي بيده قبل أن أربت على كتفه بخفة.
“آسفة، لكنني لن آخذه. أعده إلى الدوق.”
“ماذا؟ ولكن…”
ارتبك جيكوب بوضوح، ومع ذلك شعرت ببعض الذنب. فهو قد يتعرض للتوبيخ الشديد من آينس لأنه فشل في إيصال الهدية.
لكن، رغم ذلك، لم أكن راغبة في قبول معروف لم أطلبه.
“هذا ليس شيئاً عليّ أن آخذه. لدي بالفعل ما يكفي من الأدوية المهدئة، وكما تعلم يا جيكوب فأنا أتعلم الآن كيفية التحكم بالمانا. إذن ليست لي حاجة به. على أي حال، زهرة تييريا ليست فقط لعلاج مرض ترينتس أو لتخفيف آثاره. وبما أن الدوق غراهام قادر على استخدام المانا، فحتى لو لم آخذها فسيجد لها فائدة.”
“لكن الدوق سيحزن. لقد علم بمرضك وسعى في كل مكان حتى تمكن بشق الأنفس من الحصول عليها. لذلك…”
قال جيكوب كأنه يتذمر.
… أن يحزن آينس؟
أعدتُ كلماته في ذهني وضحكت بمرارة.
“هل هناك سبب يجعلني أهتم بذلك؟”
“… أعتذر.”
أدرك جيكوب أنه تجاوز حدوده فاعتذر فوراً. ابتسمت له بخفة قبل أن ألتفت نحو ريتشيل التي بدأت تتنفس بهدوء بعد توترها.
“ريتشل، هلا أعطيتني صندوق المجوهرات؟”
“نعم، يا بارون.”
قدمت لي الصندوق الذي كانت تحتفظ به. مررت يدي عليه لبرهة، ثم أخرجت منه قلماً حبره دائم.
“جيكوب. بدلاً من ذلك، أعد هذا إلى الدوق.”
كنت في الأصل أنوي الاحتفاظ به، لكن الآن أيقنت أن من الخطأ أن يبقى عندي. فناولته لجيكوب .
أخذ القلم وهو يرمش بعينيه في حيرة، غير فاهم لمعناه.
“سأرحل الآن.”
“اذهبي بسلام يا بارونة. عودي متى شئت.”
ودّعتني ريتشل، وصعدت إلى العربة. ما إن أُغلق الباب حتى فُتح النافذة الصغيرة الموصولة بمقعد السائق.
“سننطلق الآن، يا بارونة.”
“حسناً.”
بدأت العربة تتحرك ببطء بعد إعلان السائق.
نظرت بصمت إلى صندوق المجوهرات بين يديّ.
إعادة القلم إلى آينس كانت بمثابة قطع آخر خيط يربطني به. لست متأكدة إن كان سيدرك المعنى، لكن على الأقل سيعرف أنه الهدية التي منحني إياها في طفولتي.
وفجأة، دوّى صوت هتاف قادم من اتجاه القصر الإمبراطوري. من النافذة، سمعت صوتاً يخترق الهواء متبوعاً بانفجار، وارتسمت ألوان متلألئة في سماء الغسق.
خرج الناس إلى الشوارع للاحتفال، وأخذوا يطلقون صيحات الإعجاب أمام الألعاب النارية.
كانت الأضواء البراقة تتفتح كزهور في السماء بجمال مهيب. تبعتها انفجارات أخرى ملأت الأفق بألوان زاهية.
حفرتُ ذلك الجمال في عيني، فيما العربة لم تتوقف واستمرت في طريقها نحو قصر عائلة مارفيس.
—
“سيدي الدوق، قدمت الأصيص إلى البارونة، لكنها رفضت استلامه.”
عاد جيكوب إلى القصر وسلّم الأصيص إلى آينس. الأخير، الذي كان يتابع الموقف عبر النافذة، قطّب حاجبيه وهو يحدق في الأصيص.
تسربت من جسده هالة قاتمة جعلت جيكوب يتراجع خطوتين وهو يبتلع ريقه بخوف.
كان هذا الغضب لمجرد رفضها للأصيص… فكيف لو علم بأنها لم ترفضه وحده، بل أعادت أيضاً ذلك القلم الغامض؟ لو حدث ذلك ربما سيقع أمر جلل.
ومع ذلك، لم يكن بوسعه إخفاء الحقيقة. فهو يعرف جيداً أن لو اكتشف آينس أنه أخفى الأمر فسيكون العقاب أشد.
وبعد أن أخذ نفساً عميقاً مراراً، أخرج القلم من بين أغراضه.
“كما طلبت البارونة، أعادت لك أيضاً هذا.”
“هذا…؟”
ناول جيكوب القلم إلى آينس. أمسكه الأخير وحدق فيه بعينين فارغتين.
في البداية لم يعرف ما هو، وظل يتأمله طويلاً، حتى وقعت عيناه على الاسم المنقوش بخط متواضع: سيسيليا مارفيس.
عندها فقط أدرك أنه القلم الذي أهداه لها في طفولته.
ذلك القلم كان يحمل معنى العزاء.
حين دخلت سيسيليا لأول مرة إلى قصر غراهام، لم تكن قادرة على تجاوز موت والديها، وقضت أيامها في البكاء. وعندما لا تبكي، كانت تجلس منكمشة في زاوية الغرفة بوجه حزين.
حتى على مائدة الطعام، كان حزنها يرافقها، تلتقط لقيمات قليلة بلا شهية، ثم تعود لتغلق على نفسها باب غرفتها.
آينس الصغير حينها أراد مساعدتها. كمن فقد أمه، أراد أن يُعيد إليها النور.
ولما عرف يوم ميلادها، اشترى قلماً حبره دائم بنفسه، ونقش اسمها عليه بسكين صغيرة ثم قدمه لها.
لا يزال يتذكر بوضوح تلك الابتسامة الصغيرة التي ارتسمت على شفتيها حينذاك.
وجهها الذي لم يعرف إلا الحزن والجمود، أشرق بابتسامة لم تنسَ حتى الآن.
والآن، ذلك القلم عاد إليه من جديد.
ومعناه كان جلياً للغاية:
رفض غير مباشر.
قرار من سيسيليا بأنها لن تقبل بعد الآن معروفه.
“جيكوب.”
“نعم، سيدي الدوق.”
أجاب بسرعة، بينما نظر إليه آينس بنظرة باردة وسأله:
“أما قالت شيئاً آخر حين أعادت هذا؟”
“لا، لم تقل شيئاً.”
“…….”
قبض آينس على القلم بقوة.
عقله أخبره أن الوقت قد حان ليتراجع، ما دامت سيسيليا ترفض مساعدته بهذا الإصرار.
لكن قلبه… لم يستطع تقبّل ذلك.
وفي تلك اللحظة، أضاءت السماء بالألعاب النارية التي أطلقتها برج الماجي.
أدار آينس رأسه، وأخذ يحدق بصمت في الأضواء المتلألئة.
ربما كانت سيسيليا هي الأخرى تشاهد الألعاب النارية في طريق عودتها.
عضَّ آينس على أسنانه بقوة، ثم أخذ نفساً عميقاً وأخرجه ببطء. الحرارة التي غمرت صدره تسربت مع أنفاسه ببطء شديد.
كل شيء كان فوضوياً.
قبل أن يطلّق سيسيليا لم يكن هناك ما يثير قلقه، لكن بعد الطلاق صار كل ما يتعلق بها يستفزه ويشعل أعصابه.
أن يحيط بها الكونت مولدوفان في حفل رقص أقيم احتفاءً بعيد ميلاد الإمبراطور… أو أن يدخل ماستر تشيزاري مراراً إلى قصر آل مارفيس بحجة تدريبها على التحكم بالمانا…
كل شيء يمسّ سيسيليا صار يثير حنقه، حتى جدّه دايموند غراهام نفسه.
(تعرفها على شخص جديد؟)
ترددت كلمات دايموند التي وجّهها إلى سيسيليا أثناء الغداء في رأسه مراراً، تزيده اضطراباً.
لو كان الأمر بيده لذهب فوراً إلى جدّه وصرخ في وجهه ليمحو تلك الكلمات التي تفوّه بها على المائدة.
ومع ذلك، ظل آينس في حيرة من أمره، غير مدرك تماماً لمشاعره.
لماذا يريد سيسيليا بهذا القدر؟ ولماذا كان لا مبالياً تجاهها كل ذلك الوقت؟
مشاعر متناقضة، غير مفهومة، راحت تزعزع قلبه من جديد.
“هل عرفتَ من هو الرجل الذي قال جدي إنه سيعرّف سيسيليا به؟”
“ما زال من الصعب التأكد من ذلك.”
“لا بأس إن لم تعرف من هو. فقط اكتشف متى وأين سيلتقيان. عليّ أن أعرف ذلك على الأقل.”
أصدر آينس أوامره لجيكوب، فطأطأ الأخير رأسه بصمت حتى لا يستفزّ سيده الذي بدا مزاجه أشد قسوة من المعتاد.
التعليقات لهذا الفصل " 35"