لم أكن أتوقع أبداً مثل هذا الاقتراح من جدي. حدقت فيه بعينين متسعتين. كان ينظر إليّ بوجه جاد.
دون وعي التفتُّ إلى آينس. بدا وكأنه لم يتأثر، لكنه لم يتحرك قيد أنملة وهو يثبت نظره على جدي.
“صحيح. سيسيليا، ألم تتزوجي آينس مجبرة بسببي؟ ثم انتهى الأمر بالطلاق. لا تعلمين كم ندمتُ وتألمت بسبب ذلك.”
تنهد جدي طويلاً ثم شرب رشفة ماء. وبعدها رفع رأسه من جديد والتقت عيناه بعيني.
“لذلك، إن استطعتُ، أريد أن أقدّم لكِ شخصاً جديداً قبل أن أموت. لن يطمئن قلبي إلا بهذا. أرجوكِ، لا ترفضي.”
قالها جدي بنبرة ناعمة لكنها حازمة.
“لا داعي لذلك يا جدي. أنا راضية تماماً بما أنا عليه الآن.”
لوّحت بيدي مرتبكة وأنا أجيبه. لكن يبدو أن جدي لم يكن ينوي التراجع عن اقتراحه.
“إن بقي الأمر هكذا فلن يزول همّي. إن لم يعجبك فبإمكانكِ الرفض، لكن على الأقل قابليه مرة واحدة. بالتأكيد سيكون نافعاً لك.”
“آه…….”
حين ذكر كلمة “همّ” صار من الصعب رفضه. لم تكن لدي رغبة في مقابلة أي شخص، لكن بدا لي أن من الأدب أن ألتقيه مرة واحدة وأرفض بعدها.
وفضلاً عن أن صحة جدي ليست بخير، فلم أرَ من المناسب أن أزيد من قلقه.
“حسناً يا جدي. سأقابله مرة واحدة.”
وما إن أنهيت كلامي حتى دوّى صوت صرير معدن من جهة آينس.
التفتُّ فرأيته، وإذا بالسكين والشوكة في يده قد انبعجا بشكل بشع.
“…… دوق؟”
شهقت بدهشة وناديته، فترك السكين والشوكة على الطاولة كما لو لم يحدث شيء. عندها فقط أدركت كم كانتا مشوهتين في قبضته.
“رايتشل، أحضري شوكة وسكيناً جديدين.”
“نعم؟ آه، نعم، حاضر.”
أجابت رايتشل مرتبكة، ثم أمرت خادمة أخرى بإحضار أدوات جديدة، وجمعت الأدوات القديمة التي لم تعد صالحة للاستعمال.
أخذ آينس الشوكة والسكين الجديدين وواصل تناول طعامه وكأن شيئاً لم يكن.
“هممم.”
سعل جدي خافتاً ليجذب انتباهي بعدما كنت مشدودة لآينس. حينها فقط عدتُ لأكمل طعامي ببطء.
“الشخص الذي أريد أن أعرّفكِ عليه بارع في استخدام المانا. لذا حتى إن حدث أمر ما، سيكون قادراً على التعامل معه. كما أن لديه قدرة ممتازة على توجيه المانا، لا تقل عن قدرة المعلم تشيزاري. بل يمكنكِ أن تتعلمي منه إن لزم الأمر.”
من حديث جدي بدا أن الشخص الذي يقصده صاحب قدرات عظيمة.
أخذت أفكر ملياً فيمن يمكن أن يكون، لكن لم يخطر ببالي أحد.
“هل يمكنك أن تخبرني من هو؟”
سألتُ ظناً مني أن معرفته مسبقاً قد تكون أفضل، لكن جدي اكتفى بابتسامة مبهمة.
“ستعرفين حين تلتقينه. من الأفضل أن يكون اللقاء قريباً ما دام لديكِ الاستعداد. أهناك يوم لا يناسبك؟ إن كان كذلك فسأستبعده.”
“آه، أنا متاحة في أي وقت.”
“جيد. إذن سأكلّم الطرف الآخر، وحين نحدد موعداً سأبلغك.”
ابتسمت بصمت وأنا أرى سعادة جدي. لم أعرف من يقصد، لكنني لم أكن مستعدة لمقابلة أحد. كنت أريد أن أركّز على علاج ما تبقى من آثار الماضي.
لذلك، حتى لو قابلت ذلك الشخص، فسأشرح له ظروفي وأرفض. ومع ذلك، شعرت ببعض الذنب وأنا أرى جدي يبتسم دون أن يدرك ذلك.
تابعنا تناول الطعام في جو ودّي. وخلال ذلك، لم يتدخل آينس في حديثنا ولو مرة واحدة، وكأنه كان معزولاً عن المائدة. الأمر جعلني ألتفت إليه بين الحين والآخر بلا وعي.
بعدما انتهينا من الطعام نهضت مع جدي. أما آينس فظل جالساً أمام المائدة، وكأنه ينتظر شيئاً.
دفعتُ كرسي جدي خارج قاعة الطعام. وبينما كنا نتجه إلى غرفته، فُتح الباب خلفنا وخرج آينس.
بوجه بلا تعابير مرّ بجوارنا. كنت على وشك أن أحوّل نظري عنه، لكنه فجأة توقف عن السير.
توقفنا بدورنا وحدّقنا به، فاستدار لينظر إلينا. لا، بل لينظر إليّ تحديداً.
“سيسيليا، لدي شيء لك. خذيه من جاكوب قبل أن تعودي. لقد أخبرته مسبقاً.”
“ما هو ذلك الشيء؟”
“…….”
شعرت بالارتباك من قوله المفاجئ. حدّق بي بصمت للحظة، ثم استدار مغادراً الممر.
“رايتشل، هل سمعتِ شيئاً عن هذا؟”
ظننت أن رايتشل، بما أنها تعمل هنا، قد تكون سمعت شيئاً. لكنها فتحت عينيها دهشة وهزّت رأسها.
“لا، هذه أول مرة أسمع بذلك.”
“حقاً؟”
إن لم تسمع هي، فلن أستطيع معرفة شيء إلا من خلال جاكوب أو جاكسون.
“هل تريدين أن أتحرى الأمر؟”
“لا داعي. سأعرف على أي حال عند مغادرتي.”
لم أتلقّ هدية منه منذ سنوات. تذكرت فجأة قلم الحبر الذي أخذته معه في السابق. ربما هذه المرة الأولى منذ ذلك الحين.
“متى سينضج ذلك الفتى يا ترى…….”
تمتم جدي وهو يتابع بعينيه ظهر آينس الذي غاب عن الأنظار، ثم رفع رأسه لينظر إليّ.
“سيسيليا، ما زلتِ تعانين كثيراً، أليس كذلك؟”
أجبتُ فقط بهز رأسي، بينما تعابيره ملؤها الأسف.
بعد ذلك بقيت بصحبة جدي أتحدث معه. لم يكن بوسعي أن أقدّم له سوى هذه المؤانسة. ولعل قلة من يتحدثون معه منذ رحيلي عن القصر جعلته يقدّر ذلك كثيراً.
أما آينس، الذي قال إنه سيتوجه للقصر الإمبراطوري بعد الغداء، فلم يظهر وقت العشاء. ارتحت لغيابه، فوجوده كان يسبب لي شعوراً بالضيق. تناولت العشاء مع جدي ثم بدأت أستعد للمغادرة.
السماء كانت قد غشّاها الشفق، وقريباً ستخيم الظلمة. إن أردت العودة باكراً، فعليّ الانطلاق الآن.
“هل جئتِ بعربة معك؟”
سألني جدي محاولاً إخفاء أسفه على رحيلي.
“نعم، لكنني صرفت عربتي. كنت أنوي أن أستقل عربة تجارية للعودة.”
“يا للأسف. لا، سأعطيكِ عربة من هنا، عودي بها.”
ابتسمتُ وأنا أرى قلقه.
“إذن أرجو أن تسمح لي، يا جدي.”
“بالطبع. لا داعي لأن تعتذري، فأنت كحفيدة لي.”
أمر جدي بتجهيز عربة خاصة، ولم يستغرق الأمر طويلاً حتى أُخبرنا أنها جاهزة.
عندها فقط تذكرت الشيء الذي قال آينس إنني سأستلمه من جاكوب.
“رايتشل، نادي جاكوب من فضلك. سأنتظره أمام العربة.”
“نعم، يا سيدتي. انتظري قليلاً.”
غادرت رايتشل مسرعة. وبعد أن تابعتها بنظري، وقفت أنا أيضاً من مقعدي.
“أرجو أن تتفهمي أنني لا أستطيع أن أرافقك إلى الخارج.”
“لا بأس، يا جدي. وأرجوك، لا تُجهد نفسك. سنلتقي كثيراً فيما بعد، لذا عليك أن تحافظ على صحتك حتى ذلك الحين.”
“نعم، شكراً لكِ يا عزيزتي.”
بعد وداع قصير مع جدي غادرت غرفته. خرجت من المدخل، وعبرت الحديقة، فرأيت عربة تنتظر أمام القصر.
“سيدتي البارونة، مضى وقت طويل منذ آخر لقاء. هل كنتِ بخير خلال هذه الفترة؟”
عندما وصلت إلى العربة، حيّاني السائس وهو يرفع قبعته بألفة.
“كنت بخير. أوصِلني جيداً في طريق العودة.”
“آه، سأبذل قصارى جهدي لأجعل رحلتك مريحة.”
أضحكني أسلوب السائس المرح.
وفي تلك الأثناء، رأيت رايتشل وجاكوب يقتربان نحوي بخطوات سريعة. التفتُّ أنظر إليهما، فما لبثا أن وصلا إلى جانبي.
“سيدتي البارونة، شكراً لانتظارك.”
كانت أنفاس رايتشل متقطعة من الركض، بخلاف جاكوب الذي تقدم نحوي بلا أي اضطراب.
“سمعتُ أن الدوق ترك عندك شيئاً لي.”
“نعم، لقد جلبته.”
ما قدّمه جاكوب كان أصيصاً صغيراً. وفيه زهرة متفتحة بدت مألوفة للغاية.
“هذا…… ما هو؟”
لم أصدق ما رأيته بعيني، فسألت جاكوب. ابتسم ابتسامة خفيفة وأجابني:
التعليقات لهذا الفصل " 34"