في اليوم التالي، وبعد أن أنهيت حمامي باكرًا، ارتديت فستانًا ثمينًا كنت أحتفظ به للمناسبات الخاصة. أما ريفيت، فقد أولت اهتمامًا أكبر من المعتاد بمكياجي، مؤكدة أن هذا اليوم يستحق عناية خاصة.
وبعد أن انتهيت من كامل زينتي، صعدت إلى العربة التي كانت في انتظاري، وبرفقتي ريفيت وحدها.
“هل يمكننا الانطلاق الآن؟”
سألني السائق من خلال النافذة الصغيرة المتصلة بمقعده.
“لتنطلق.”
بمجرد أن منحت الإذن، بدأت العربة بالتحرك ببطء. في العادة كانت العربة تسير بسرعة أكبر، غير أن الشوارع اليوم كانت مزدحمة بالدمى المزينة التي وضعت تكريمًا لإلهة كيبريلد، مما جعل السير السريع متعذرًا.
ومع ذلك، فالمسافة بين قصر مركيز مارفيس وقصر دوق غراهام لم تكن بعيدة، فحتى مع السير البطيء وصلنا بسرعة نسبية.
توقفت العربة تمامًا، وسرعان ما فتح ريفيت الباب. عندها، مد فارس مألوف يده لمساعدتي على النزول؛ كان أحد الفرسان التابعين لآينس.
أمسكت بيده ونزلت ببطء. ثم لحقت بي ريفيت ونظمت ذيل فستاني بعناية.
“إذن، يمكنكِ العودة الآن.”
قلت لها قبل دخول قصر الدوق غراهام. بدت ريفيت مترددة، وكأنها تخشى تركي وحدي.
“لا تقلقي. سأعود لاحقًا على عربة دوق غراهام، فلا داعي للانشغال.”
“حسنًا، إذن سأذهب أولًا. لكن رجاءً عودي بسلام.”
صعدت ريفيت إلى العربة من جديد، وظلت تلتفت إلي حتى اللحظة الأخيرة قبل أن تتحرك. عندها اقتربتُ من السائق وسلمته كيسًا من النقود.
“قدها بحذر كالعادة.”
“طبعًا، عودي وقد استمتعتِ.”
قال وهو يخلع قبعته محييًا.
تراجعت بخطوتين للخلف، ثم تحركت العربة مبتعدة. ظللت أتابعها حتى غابت عن الأنظار، ثم استدرت.
كانت رايتشل، التي شاركتني أمس جلسة شاي، بانتظاري.
“رايتشل، هل ترافقينني إلى الداخل؟”
مع أنني قضيت عشر سنوات في قصر غراهام ولم أكن بحاجة فعلية إلى من يرشدني، إلا أنني أردت أن ترافقني.
“بكل سرور، سأرشدكِ.”
وكعادتها، قادتني إلى داخل القصر.
“وأين دوق غراهام؟”
سألت رغم معرفتي أنه قد غادر إلى العاصمة لحضور الحفل. كنت فقط أريد التأكد، فإذا كان آينس موجودًا، لكان من اللائق تحيته.
لكن رايتشل هزت رأسها مبتسمة.
“غادر منذ الصباح الباكر، وأخبر أنه سيعود في وقت متأخر من الليل. فلا داعي للقلق.”
“ولا تعرفين في أي ساعة سيعود تحديدًا؟”
“آه… لم أتمكن من معرفة ذلك.”
“لا بأس.”
استنادًا إلى ما جرى في السنوات الماضية، كنت واثقة أن آينس لن يعود قبل انتهاء الحفل تمامًا.
واصلت السير برفقة رايتشل حتى وصلت إلى غرفة جدي. وعندما فتحت الباب، رأيت جسده الضعيف ممددًا فوق السرير.
كلما اقتربت خطوة، بدا وجهه الهزيل أكثر وضوحًا، حتى شعرت أن دموعي ستنهمر.
“سيسيل، أتيتِ إذن؟”
كان صوته أوهن مما كان قبل أيام قليلة فقط. اضطررت أن أرمش مرارًا، محدقة في الفراغ، حتى أتمالك دموعي.
جلست على الكرسي بجانب السرير وقلت:
“جدي، كيف حالك هذه الفترة؟”
“أنا بخير كما دائمًا. لكنني أقلق عليك أكثر بعد عودتك إلى قصر المركيز. لقد حدثني الدكتور وات عن حالتك. لماذا لم تصارحيني من قبل؟”
أمسكت بيده النحيلة وقد وجه لي عتابًا.
“هل تعلمين كم كنت خائفًا أن أفقدكِ حينها؟”
“أنا آسفة جدًا. خشيت أن أقلقك وأنت في صحة غير مستقرة، لذلك أخفيت الأمر. لكنني تلقيت العلاج وأصبحت بخير الآن.”
مع ذلك، بدا جدي غير مقتنع تمامًا، وعيناه لم تحمل شكًا بقدر ما غمرتهما بالقلق والشفقة.
“صحيح، سمعت أنكِ تناولت العلاج. لكن يقال إن آثاره الجانبية خطيرة. لو لم تنفصلي عن آينس، لكان ساعدك كثيرًا في تجاوزها…”
تمتم بصوت مليء بالأسى، ثم سرعان ما ابتسم اعتذارًا.
“لقد تسرعت بالكلام. أنتِ أكثر من عانى هنا، سيسيل. هل تسامحينني على هذه الزلة؟”
“بالطبع، لا داعي للاعتذار. ثم إنني طلبت المساعدة من برج السحرة. لحسن الحظ، السيد تشيزاري يساعدني على التحكم في المانا. وقد تعلمت الآن كيف أشعر بها. وإذا تمكنت من استخدامها، فسأستطيع ضبط تدفقها بنفسي.”
ارتسمت الطمأنينة على وجهه أخيرًا، وابتسم براحة.
“كنت أعلم أنكِ حكيمة، وستتغلبين على هذه الآثار الجانبية.”
ثم حرر يده ليمسح بلطف على خدي.
ذلك اللمس ذكرني بطفولتي، يوم فقدت والدي وعشت وحيدة في القصر، حين جاء ليجفف دموعي بيديه نفسها.
لو لم يمد يده ويأخذني إلى قصر غراهام، لكنت هلكت جوعًا في قصر مارفيس. لا زلت أذكر بوضوح يوم أمسكت يده لأول مرة ودخلت القصر.
في ذلك اليوم، رأيت آينس لأول مرة.
كان فتى في السادسة عشرة، يحاول جاهدًا التظاهر بالقوة وهو يبتسم لي، رغم حزنه العميق وهو يحدق أحيانًا في غرفة والدته الخالية.
ذلك كان انطباعي الأول عنه.
لو لم يكن جدي وآينس إلى جانبي، لكنت غرقت في حزني بلا عودة. الآن، وأنا أستعيد تلك الذكريات، لا أملك إلا الامتنان لهما.
“أليس من المفترض أن تحضري الحفل الذي يقام الليلة تكريمًا للإلهة كيبريلد؟ لماذا جئتِ إليّ بدلًا من ذلك؟”
سألني جدي بقلق، وكأنه خشي أن أكون فوت الحفل بسببه.
“إنه يقام كل عام، أليس كذلك؟ لكن هذا العام فضلت أن أكون برفقتك بدلًا من حضور حفل عابر. ألا تمانع ذلك؟”
“أمانع؟ بل على العكس، حضورك يسعدني كثيرًا.”
“هذا جيد إذن.”
ابتسمت وأنا أمسك يده مجددًا، فابتسم هو أيضًا. لكنه فجأة بدا مترددًا، يحرك شفتيه بتردد.
“ما الأمر؟”
“… قد يكون سؤالي مؤلمًا، لكن، هل ما زال آينس يعاملك بقسوة؟”
“….”
سكتُّ لوهلة، مفاجأةً من السؤال، ثم تحدثت ببطء:
“لا أعلم حقًا. قبل الطلاق، كان بالفعل باردًا تجاهي… لكن الآن، تصرفاته أربكتني.”
لو ظل يكرهني، لكان من السهل أن أعتبره شخصًا لا يكن لي سوى العداء. لكن بعد الطلاق، بات يظهر اهتمامًا بي، وهذا ما جعل الأمر مشوشًا.
“في الآونة الأخيرة، صار الدوق يأتي إلي بنفسه.”
“آينس يزوركِ أنتِ؟”
بدا على جدي الذهول، فأثار ذلك ابتسامة خفيفة على شفتي.
“غريب، أليس كذلك؟ لكنه الواقع. وهذا يجعلني أحتار… بل ويزيدني غضبًا أحيانًا. لماذا لم يُظهر لي هذا الاهتمام حين كنت أتمناه؟”
عند سماع حديثي المتردد، ابتسم جدي ابتسامة مرة.
“ليتني كنت ما زلت بصحة جيدة… حينها لما اضطررتما إلى كل هذا العناء. أنا حقًا أشعر بالكثير من الأسف.”
“ولِمَ تعتذر يا جدي؟ لقد أنقذت حياتي، وأنا مدينة لك دائمًا بالفضل. أنا ممتنة لك من أعماق قلبي.”
امتلأت عينا جدي بالدموع، وانحدرت قطرات صغيرة على وجنتيه، متتبعة آثار السنين التي حفرت على أطراف عينيه.
أخرجت منديلي ومسحت دموعه برفق.
بعدها، أغمض عينيه ببطء، محاولًا تهدئة أنفاسه. ظللت أراقبه طويلًا، ثم انحنيت قليلاً وهمست قرب أذنه بصوت خافت:
“استرح بهدوء، لا تجبر نفسك على البقاء مستيقظًا لأجلي. سأذهب قليلًا إلى غرفتي.”
أومأ جدي برأسه إيماءة ضعيفة. عندها حررت يدي من يده وقمت من مكاني، متحركة بخفة حتى لا أزعجه وهو يستريح.
لكنني ما إن هممت بمغادرة غرفة جدي، وقبل أن تبادر رايتشل لفتح الباب لي، انفتح الباب من تلقاء نفسه.
رفعت رأسي لأتطلع إلى الخارج، وهناك، خلف العتبة… كان آينس يقف.
التعليقات لهذا الفصل " 31"