في صباح اليوم التالي، حين حان وقت الإفطار وتوجهت إلى قاعة الطعام، كان “آينس” قد سبقني ووصل قبل الجميع وبدأ يتناول طعامه بالفعل.
ترددت للحظة أفكر في العودة إلى غرفتي مجددًا، لكن بعد أن وصل الأمر إلى حدّ الطلاق، لم يعد هناك سبب يجعلني أتجنبه. لذلك تابعت خطواتي ودخلت القاعة.
توقفت يد آينس للحظة عندما رآني، لكنه سرعان ما استمر في تناول طعامه حين تجاوزت مكان جلوسه في المقعد الأعلى.
جلست أنا في المكان المعتاد بجواره، عن يمينه.
> “سيدتي، هل أجهّز لكِ الطعام؟”
سألتني الخادمة التي كانت تنتظر في المكان، وبدا على وجهها شيء من الدهشة. فمنذ أن ورث آينس لقب الدوق من جده، لم يحدث قط أن تناولت الطعام معه على المائدة.
“نعم، لو سمحتِ.”
ابتسمت لها وأجبت.
حين أنظر الآن إلى الماضي، لا أعلم لماذا كنتُ دائمًا أعيش على وقع ردات فعله، وأرتفع وأهبط معها.
لا، أعلم السبب… لأنني كنت أحبه بصدق آنذاك. كنت أظن أن أفضل ما أفعله هو ألا أزعجه أو أثير امتعاضه.
لكنني أدركت لاحقًا أن الأمر لم يكن كذلك. مهما حاولتُ ألا أكون شوكة في عينه، لم يكن بوسعي أن أغيّر قلبه. فمنذ البداية كان يكرهني.
كل ما كنت أفعله لم يكن إلا مزيدًا من الإزعاج بالنسبة له. وأنا، الغبية، لم أكن أدرك ذلك…
وضعت الخادمة أمامي طبق المقبلات: شرائح رقيقة من لحم “الهامون” مع سلطة بنكهة صلصة لاذعة.
وحين وضعت قطعة من اللحم مع السلطة في فمي، امتزج الطعم المالح والحامض بسلاسة.
ضحكت بخفة من المفارقة؛ حتى في يوم النهاية، يوم طيّ صفحة حبٍّ دام عشر سنوات، ما زلت أملك شهية للطعام.
شعرت بنظرات آينس تتجه نحوي، ربما لأنه سمع ضحكتي. تجاهلت الأمر، وتظاهرت بأن لا شيء يحدث بينما أواصل تحريك الشوكة. ومع ذلك استمرّت نظراته عليّ.
> “بعد أن تنهي الطعام، تعالي إلى مكتبي.”
قال آينس فجأة.
رفعت رأسي أنظر إليه، فوجدته يحدق بي بوجهه الخالي من التعبير المعتاد.
رغم ذلك، ورغم بروده، أحسست بقلبي ينقبض ألمًا. مشاعري القديمة لم تختفِ بعد… كانت لا تزال ساكنة في أعماقي.
لكن كان عليّ أن أكون حاسمة. ابتداءً من اليوم، أنا وهو غرباء. وهو لم يطلب مني الحضور إلى مكتبه إلا من أجل إجراءات الطلاق. فهو لم يكن يحتمل دخولي إلى مكتبه قط.
> “هل جهّزت المال بالفعل؟”
سألته بهدوء بعد أن أخذت نفسًا عميقًا.
ابتسم ابتسامة ساخرة مائلة بشفتيه وأومأ.
> “نعم. والآن علينا فقط إتمام أوراق الطلاق.”
> “إن كان الأمر كذلك، فلا حاجة للذهاب إلى مكتبك. يمكنك أن ترسل الأوراق مع جاكوب، وكذلك المال.”
حوّلت بصري بعيدًا عنه تمامًا، خشية أن يوقظ النظر في عينيه ما تبقى من مشاعر مدفونة في داخلي.
> “لا داعي للذهاب والإياب بلا سبب، أليس كذلك؟”
ظل صامتًا للحظة.
فأضفت:
> “لقد ودعتُ الجد البارحة، وحزمتُ كل أمتعتي. ما إن أستلم ما يخصني، لن أعود إلى هذا القصر أبدًا.”
شعرت بمرارة في فمي كأنني أمضغ الرمل. فرفعت كأس الماء وشربت رشفة، لكن حتى الماء البارد لم يبدد الإحساس بالخنقة.
قال آينس أخيرًا:
> “صحيح. لا حاجة لأن نوقع معًا وجهًا لوجه. سأرسل الأوراق من جهتي لتوقعي عليها. أما المال، فسأعطيه لجاكوب ليسلّمه لك.”
> “افعل ذلك.”
توقف لحظة، ثم قال بسخرية ظاهرة:
> “إذن في النهاية، كل ما أردته كان المال. أن تقبلي الطلاق مقابل مليون قطعة ذهبية، دليل واضح.”
لم أنطق.
> “لا عجب… كنت أسمع أنكِ تترددين على دار المزادات مؤخرًا. لماذا لم تقولي ذلك منذ البداية؟ لو فعلت، لكان الطلاق قد تم منذ وقت طويل.”
أنهى كلماته بلا انتظار ردي، وضع السكين والشوكة، مسح فمه بالمنديل، ثم نهض.
أما أنا، فحتى تلك اللحظة لم أجرؤ على النظر في عينيه مباشرة. اكتفيت بمتابعته بطرف عيني.
وما إن نهض حتى غادر القاعة بلا تردد.
تابعت بعيني الباب الذي خرج منه. خطواته بدت خفيفة مرتاحة.
بالطبع… فقد عاش عشر سنوات مع امرأة يكرهها، وها هو أخيرًا يتحرر. من الطبيعي أن يشعر بالارتياح.
لكن… أن يظهر ذلك الشعور أمامي هكذا بلا مبالاة، فهذا أمر لم أستطع إلا أن أجد فيه قسوة.
(أين بالضبط انقلب كل شيء بهذا الشكل؟)
تذكرت أول لقاء بيني وبينه.
كنت حينها في الرابعة عشرة. بعد أن فقدت والديّ في حادث عربة، تبناني دوق غراهام – جده – بفضل صداقة قديمة جمعته بجدي.
وعندما وصلت إلى قصر غراهام، كنت ما أزال أبكي لفقد والديّ.
وفي تلك الأيام الحالكة، كان هناك صبي في عمري دائم الحضور بجانبي… إنه آينس.
فقد والدته بمرض في الفترة ذاتها، فشارك معي الألم، وواساني برفق.
كان يجيء إليّ حين أختبئ في غرفتي غارقة في الحزن، يسحبني من يدي ليخرج بي إلى المدينة أو إلى الغابة.
تلك الطيبة أثارت في أعماقي موجة صغيرة بددت شيئًا من الظلام الذي كان يبتلعني.
بفضله، تعلمت كيف أتجاوز الألم، وكيف أعيش من جديد.
ربما لهذا السبب بدا آينس لي، في ذلك الظلام، النور الوحيد في حياتي.
ومع مرور الوقت، صارت ابتسامته المشرقة تعني لي أكثر من مجرد مواساة.
لكن كل شيء تغيّر يوم قُتل والده في حملة واسعة ضد الوحوش.
ومنذ تلك اللحظة، حمل آينس في قلبه كراهية… كره جده الذي أجبر والده على الانضمام إلى الحملة، وكرهني أنا أيضًا، الفتاة التي جلبها جده إلى القصر.
وهكذا وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.
لم أستطع متابعة الطعام أكثر، فحاولت أن أنهض.
لكن ما إن وقفت حتى اجتاحني دوار مفاجئ، وسقطت على الكرسي من جديد.
التعليقات لهذا الفصل " 2"