انعكاس صورتي في المرآة بدا أجمل من المعتاد. لم تكن مهارة ريفيت في التزيين عادية، بل كانت دائماً ما ترضيني.
“شكراً لكِ، ريفيت.”
ابتسمت ريفيت بوجه مشرق ثم انحنت لتحييني.
عدت أنظر في المرآة مجدداً، أتفحص وجهي.
كنت ذاهبة بعد فترة طويلة لرؤية جدي، ولم أرد أن أبدو له أضعف مما كنت عليه من قبل. لو رأى ذلك، لشعر بالألم في قلبه.
يكفي أنه يعاني من اعتلال جسده، فلا يمكن أن أزيده هموماً بسببي.
بعد أن رتبت خصلات شعري المتناثرة، أخذت نفساً عميقاً ثم أطلقته ببطء.
“إذن، لنذهب.”
صعدت إلى العربة ومعي ريفيت وعدة خادمات.
انطلقت العربة تقطع الطريق لنحو عشرين دقيقة حتى وصلنا إلى قصر دوق غراهام.
الحارس الواقف عند البوابة تعرّف عليّ وبادر بالتحية:
“سيدتي، … أعتذر، لقد أخطأت.”
تفاجأ الحارس من نفسه حين ناداني “سيدتي” بلا تفكير، فسارع إلى الاعتذار. ابتسمت له بخفة وأومأت برأسي.
“انتبه في المرة القادمة.”
“نعم، يا سيدة مارفيس. تفضلي بالدخول.”
لم يكن غريباً أن يخطئ الحارس في المناداة.
لقد عشت في هذا القصر أكثر من ثلاث سنوات وهم ينادونني “سيدتي”. كان ذلك اللقب هو الأشد رسوخاً في ألسنتهم.
لكن لم يعد يليق بي أن أُدعى بتلك الصفة.
فإن بدأ آينس بالتفكير في مصاحبة امرأة أخرى، سيكون الأمر إهانة كبرى إن ظلوا ينادونني “سيدتي”. لذا، من الأفضل أن يعتاد الجميع منذ الآن على مناداتي بـ “الكونتيسة مارفيس”.
“سيدتي، عليك أن تنتبهي اليوم. لم يمضِ سوى يوم واحد منذ أن أفقْتِ، ولا أحد يعلم متى قد تظهر أعراض ما بعد ذلك.”
“نعم، سأنتبه.”
وقفت على وشك الدخول حين بادرتني ريفيت بقلق.
وكما قالت، لا أحد يعرف متى قد تعاود الأعراض الظهور. صحيح أن معي أنا وريفِت دواءً لتخفيف التبعات، لكنه في النهاية احتياط فقط، والأفضل أن أكون حذرة ما أمكن.
سرعان ما اجتزت مدخل القصر ودخلت الحديقة.
تذكرت أنني كنت أعتني بها بدقة كي تبدو جميلة للضيوف. ولم يكن ذلك مجرد أمر عابر؛ فجدي هو أول من اقترح عليّ الاعتناء بتنسيق الحديقة. حتى الأشجار الصغيرة على جوانب الطريق كنت قد اخترتها بنفسي.
تأملت الحديقة التي لم يتغير منها شيء، وسرت بخطى هادئة نحو القصر. في كل زاوية كانت ذكريات عشر سنوات مطبوعة. نقشتها من جديد في قلبي بنظرة حنين.
بعد بضع دقائق من المشي وصلت إلى الباب الكبير للقصر.
“البارونة مارفيس!”
“ريتشيل!”
كانت ريتشيل في انتظاري أمام المدخل. ما إن رأتني حتى هرعت إليّ.
انحنت لتحييني بأدب، وكان ذلك المشهد يبعث في نفسي البهجة.
“هل كنت بخير طوال هذه المدة؟”
“نعم، كنت بخير. وأنتِ، ريتشيل؟”
“أنا أيضاً بخير بفضل قلقكِ عليّ، سيدتي . تفضلي بالدخول، فالسيد الكبير في انتظارك.”
دخلت القصر برفقة ريتشيل. وكما توقعت، لم يخرج آينس لاستقبالي.
كان ذلك طبيعياً، فلا داعي للقاء قد يسبب توتراً لا لزوم له. بل إن خروجه لاستقبالي كان سيجعل الموقف أشد حرجاً.
طويت أفكاري وصعدت مع ريتشيل الدرجات حتى وصلنا إلى غرفة جدي.
“سيدي الكبير، البارونة سيسيليا مارفيس قد وصلت.”
طرقت ريتشيل الباب بخفة وأعلنت قدومي.
“ادخلي.”
سرعان ما جاء صوت جدي من الداخل يمنح الإذن.
فتحت ريتشيل الباب وتنحّت لتفسح لي الطريق.
دخلت ورأيت جدي ممدداً على سريره. لم يمضِ على مغادرتي القصر سوى شهر واحد، لكن حالته بدت أسوأ بكثير مما كانت عليه حينها.
“جدي…”
اقتربت منه وناديته، فارتسمت على وجهه ابتسامة رقيقة.
“لقد جئتِ يا سيسيل. اجلسي هنا، الوقوف يرهق ساقيك.”
وضع الخادم كرسياً بجانب السرير ليكون مناسباً لي.
جلست وأمسكت بيد جدي. كانت يده جافة ومرتجفة في قبضتي.
حين أمسكت بيد جدي لأول مرة عند قدومي إلى هذا القصر، كانت يده خشنة وقوية، مشبعة بأثر سنوات من حمل السيف.
لكن المرض والشيخوخة جعلاها ضعيفة إلى هذا الحد.
وفوق ذلك، كان وجهه قد ازداد هزالاً بشكل ملحوظ مقارنة بشهر مضى. الآن فقط فهمت لماذا اقترح الدكتور وات أن أزوره.
أصابني الواقع بوقع مؤلم، فامتلأت عيناي سريعاً بالدموع.
“هل كنت بخير؟ يبدو أنك فقدت المزيد من وزنك.”
“أنا كما أنا، لا جديد. لكن يبدو أنني قلق عليكِ أكثر. سمعت أنكِ عدتِ إلى قصر مارفيس بعد طلاقك من ذلك الولد آينس، هل لم تجدي الأمر صعباً؟”
سألني بصوت ضعيف، يشوبه الوهن.
“أنا بخير. الدوق غراهام منحني الكثير من التعويضات، لذا لا ينقصني شيء.”
“ذلك حسن، يبعث على الاطمئنان.”
ابتسم جدي برفق، فارتسمت حول عينيه تجاعيد دافئة. لا تزال شخصيته الطيبة كما عهدتها.
“لا بد أنكِ وجدت المجيء إلى هنا أمراً شاقاً. أخشى أنني سببت لكِ القلق.”
“لا تقل ذلك، بل أنا التي قصرت. كان يجب أن أزورك كثيراً، وأشعر بالذنب لأني لم أفعل. إن لم يمانع الدوق، فسآتي لزيارتك أكثر من الآن فصاعداً.”
“إذن سأكلم آينس بنفسي. ذلك الأحمق مشغول دوماً بأعماله، بالكاد يُريني وجهه، فهل له الحق أن يمنعك من زيارة مريض مثلي؟”
“يبدو أن الدوق لا يأتيك كثيراً حتى الآن.”
حتى قبل الطلاق، كان آينس مهملاً لجده بشكل مؤلم.
ولهذا كان جدي يصفه دائماً بالابن العاق، ولم يكن آينس يعترض على ذلك. منذ ذلك الحادث بينهما، ساءت علاقتهما أكثر.
“ذلك الولد لا يتغير. ما زال يظن أنني السبب في موت أبيه.”
“جدي…”
“وليس ببعيد أن يكون على حق. حين فقد ابني زوجته ولم يعد قادراً على فعل شيء، ألححتُ عليه أن يشارك في حملة القضاء على الوحوش.”
رفع جدي نظره نحو السقف كمن يسترجع الماضي البعيد.
“كنت أظن أن الحركة والعمل سيجعلانه ينسى ألمه سريعاً. وكما تعلمين، أليكس كان أعظم مبارز في الإمبراطورية، لا نظير له.”
أليكس غراهام، والد آينس وابن جدي، كان قائداً لفيلق الحرس الإمبراطوري، ومهارته في المبارزة مشهورة.
لذلك، لم يكن غريباً أن يشارك في الحملة الكبرى التي نظمتها الإمبراطورية لتطهير غابة الوحوش في الشمال.
بعد أن فقد زوجته بالمرض وظل غارقاً في الحزن، اقترح عليه جدي أن ينضم إلى الحملة.
وافق والدي آينس على ذلك، والجميع ـ حتى جدي نفسه ـ كانوا واثقين من عودته سالماً كما في كل مرة.
لكن الذي عاد إلى قصر غراهام بعد الحملة كان جثمان أليكس غراهام وبعضاً من متاعه.
“لو كنت أعلم أنه سيعود جثة، ما كنت لأرسله أبداً.”
شد جدي على يدي بقوة، وسرعان ما تجمعت الدموع في عينيه.
“لم يكن خطأك، جدي. كان ذلك حادثاً لا أكثر.”
حاولت أن أواسيه، فأجاب بابتسامة باهتة.
“شكراً لكِ يا سيسيل، لقولك هذا. لكن بسببي أنتِ أيضاً تحملتِ بغض آينس.”
تنهد جدي بعمق.
“ما كان ينبغي لي أن أربطكما معاً منذ البداية. أخشى أنني جعلت كلاً منكما شقياً.”
“ليس الأمر كذلك. على الأقل أنا كنت سعيدة طوال فترة إقامتي في هذا القصر.”
بقي جدي يحدق في وجهي طويلاً، وعيناه تمتلئان بالأسى والقلق.
“ما رأيك أن تتناولي العشاء هنا الليلة؟ فأنا أنوي أن أتناول طعامي في قاعة الطعام اليوم.”
باغتني جدي باقتراحه فجأة، لكنني لم أستطع أن أجيبه مباشرة.
لم يكن من الصعب أن أتناول الطعام مع جدي، لكن ما أقلقني هو احتمال مواجهة آينس على المائدة.
غير أنني سرعان ما أومأت برأسي موافقة:
“نعم، إذن سأتناول العشاء وأرحل بعده.”
على أية حال، آينس نادراً ما يتناول طعامه في قاعة الطعام، لذا فإن احتمالية لقائنا اليوم تكاد تكون معدومة.
وحتى لو تصادف أن التقيته، فلا داعي لأن أختبئ. فقد أخبرتُه منذ الأمس أنني سأزور جدي، ولم يرفض الأمر.
وبذلك، جئتُ اليوم كضيفة رسمية، وليس كمن يسرق ويتعين عليه أن يفرّ عند انكشاف أمره.
—
حتى حلول المساء، بقيت إلى جوار جدي أؤنسه بالحديث.
لم يكن يسمح له سوى بساعتين من التنزه في النهار، أما بقية يومه فيقضيه محصوراً في غرفة نومه. والذين يزورونه ليسوا سوى الخدم الذين يعتنون به، فلابد أن الوحدة تلازمه كثيراً.
عندما كنت أقيم في قصر الدوق، كنت أجالسه يومياً وأحادثه، لكن بعد الطلاق، حتى هذا لم يعد ممكناً.
لم أستطع أن أتخيل كم كان عطشُه للحديث كبيراً طوال تلك الفترة.
“بالمناسبة، منذ أيام كان عيد ميلاد جلالة الإمبراطور، أليس كذلك؟ ألم يحدث شيء؟ ذلك العجوز العنيد لا بد أنه وجّه لكِ دعوة أيضاً.”
“آه… ذلك اليوم.”
حينما جرى ذكر الموضوع خلال حديثنا عن آخر المستجدات، انعقد لساني لوهلة، فلم أجد ما أقول.
لم يكن الحفل أبداً مناسبة يُقال عنها إنها سعيدة. فقد كان المكان الذي جعلني أستشعر بحدة الفرق بين مكاني كدوقة غراهام سابقاً، وبين كوني اليوم مجرد كونتيسة مارفيس.
وفوق ذلك، تلك النظرات والكلمات التي وجهها الناس إليّ في ذلك اليوم…
أدركت بوضوح كم كنتُ أعيش في غفلة طوال فترة كوني زوجة لدوق غراهام.
كنت مجرد زهرةٍ مدللة في بيت زجاجي، لا أكثر.
لقد كانوا يكرمونني ويتوددون إليّ فقط لأنني كنت “دوقة غراهام”. لم أكن أعي شيئاً من حقيقة الأمر.
لكن لم يكن ذلك ذنبهم.
إنهم فقط تحركوا وفقاً لمصالحهم. أما ابتساماتهم اللطيفة وحنانهم في الماضي فلم تكن سوى قناع متقن، وأنا الحمقاء التي لم تستطع أن تميّز الحقيقة.
استعدتُ ذلك اليوم في ذهني، فارتسمت على وجهي ابتسامة مرة.
التعليقات لهذا الفصل " 15"