تساءلت إن كان هناك شيء ناقص، ففتحت عيني على اتساعهما وحدّقت في الدكتور وات.
قال بهدوء:
“ليس من الجيد أن تتناولي الدواء في غرفة الاستقبال. من الأفضل أن تتناوليه وأنتِ مستلقية في غرفة النوم حيث يمكنكِ أخذ قسط من الراحة.”
أدركت حينها سبب تأخّره في إعطائي الدواء. يبدو أنّه قال ذلك احتياطاً تحسّباً لما قد يحدث.
لقد قرأت سابقاً في أحد الكتب أنّ من يتناول علاج مرض ترينتز يعاني من آلام مبرحة لدرجة يتلوّى من شدتها.
وفي بعض الحالات، قد لا يحتمل المريض الألم ويفقد وعيه. لذا كان من الطبيعي أن تكون غرفة النوم أكثر أماناً من غرفة الاستقبال.
“إذن، سأرشدك.”
“نعم، سيدتي.”
نهضت من مكاني وأخذت بيدي الدكتور وات إلى غرفة النوم.
دخلن معنا ريفيت وبعض الخدم والخادمات، حاملين المناشف والجرادل المملوءة بالماء تحسّباً لما قد يحدث.
قال الدكتور وات وهو يمدّ يده بكيس صغير:
“هذا هو الدواء.”
أخذت الكيس منه، فوجدت داخله حبوباً صغيرة مستديرة الشكل. لونها بني داكن يكاد يميل إلى السواد، وتفوح منها رائحة عشبية قوية.
كان تناول هذا الدواء يعني أنني سأودّع أخيراً ذلك الرعب الذي ظلّ يلاحقني… رعب الموت.
لكنني كنت أعرف تماماً أنّ لهذا العلاج آثاراً جانبية خطيرة؛ فحين يبدأ المانا في جسدي بالتحرك بحثاً عن مساره الطبيعي، سيصاحبه ألم رهيب. كما أنّ هناك تبعات لاحقة قد أتحمّلها لفترة طويلة.
أما الأعراض قصيرة المدى فربما أستطيع تحمّلها، لكن الآثار الطويلة الأمد كانت ما يقلقني حقاً. فقد تمتد حتى يستقر المانا كلياً في الجسد، وهذا قد يستغرق سنة أو سنتين… بل وربما يلازمني لبقية حياتي.
ومع ذلك، فحتى مع هذه المخاطر، كان البقاء على قيد الحياة أفضل من الموت ببطء، والذهن ما يزال واعياً فيما الجسد يذبل شيئاً فشيئاً.
على الأقل، سأتخلص من ذلك الرعب الذي يهاجمني كل مرة: “هل سأموت هذه المرة فعلاً؟”
لقد كان مجرد استحضار فكرة الموت مع كل نوبة كافياً لينخر روحي ببطء.
كم مرة ارتجفت من الخوف بين القلق من أن أموت في أي لحظة، وبين التمسك الشديد برغبتي في البقاء حية؟
لكن كل ذلك سينتهي اليوم.
نظرت قليلاً إلى الحبوب، ثم وضعتها في فمي. ناولتني ريفيت كأس ماء، فشربت رشفة لأساعد نفسي على بلعها.
كان يُقال إن الألم يبدأ مباشرة بعد ابتلاع العلاج، حتى أنّ المريض يكاد يختنق من شدته. وقد قرأت عن ذلك كثيراً، لذا كنت في غاية التوتر.
لكن ما إن ابتلعت الدواء، لم أشعر بأي ألم.
كدت أشكّ أن الدكتور وات قد أعطاني شيئاً خاطئاً، لولا أن الألم انفجر فجأة من منطقة القلب.
بدأ الألم من قلبي، ثم اندفع عبر الأوعية الدموية، منتشراً إلى كل زاوية من جسدي.
كان الأمر كما لو أنّ تياراً كهربائياً يجتاحني، فيصعقني ويجعل جسدي يرتجف كأنني في نوبة صرع.
ومن أصابع يدي وقدمي، أخذ الألم يزحف ببطء عبر أعصابي الطرفية، كما لو أنّ حشرات تتسلق جسدي من الداخل. صرخت، وتلوّيت لساعات تحت وطأة العذاب.
أحسست أن رأسي سينفجر، وعيناي تحترقان وكأن أحدهم يقتلعها.
كان كل جزء من جسدي، من الدم الجاري في عروقي إلى أصغر خلية تتنفس الأوكسجين، يتلوى من الألم.
ثم ارتفعت حرارة جسدي فجأة، وكأن ناراً لا ترحم تلتهمني من الداخل.
صرخت بلا وعي، متوسلة أن يتوقف هذا الألم الذي يحرقني حياً.
لكن الألم لم يتوقف.
ابتلعني كلياً، وألقي بي في هاوية من العذاب لا نهاية لها.
توسلت مرات عديدة أن ينقذني أحد، حتى لو لم يخرج صوت من فمي. كنت أستجدي الحياة بيأس حتى شعرت بطعم الدم في حلقي.
مرت ساعات ثقيلة كأنها دهور.
والشمس التي كانت في كبد السماء بدأت تنحدر نحو الأفق.
—
وفجأة، اختفى الثِقَل الذي كان يسحق جسدي.
حتى أنفاسي التي كانت مضطربة بدأت تستقر.
شعرت وكأن قشرة ثقيلة كانت تغلفني قد انزاحت عني. ففتحت عيني ببطء.
أبصرت السقف المألوف، ثم رمشت مرات عديدة قبل أن ألتفت حولي.
“سيدتي؟”
كان صوت ريفيت، وهي تعصر منشفة مبللة بجوار السرير.
حين التقت عيناها بعيني، شهقت ونادتني بارتباك:
“سيدتي! هل أنت بخير؟”
“نعم… أريد أن أنهض، هل تساعدينني قليلاً؟”
كان صوتي مبحوحاً جافاً.
مدّت يدها وساعدتني على رفع الجزء العلوي من جسدي، ثم أعطتني كوب ماء.
ما إن لمست المياه شفتي الجافتين حتى شعرت بانتعاش شديد. أنهيت الكوب كله قبل أن أعيده إليها.
“ما الذي حدث؟ آخر ما أتذكره أنني تناولت الدواء…”
“لقد مرّ ثلاثة أيام منذ ذلك الحين. كنت تتلوّين من الألم طوال هذه المدة، ولم تفتح عينيك إلا الآن.”
“ثلاثة أيام؟”
كان ذلك أطول بكثير مما توقعت.
ظننت أن الكتب تبالغ عندما تتحدث عن أشخاص ظلوا فاقدين للوعي أياماً بعد تناول العلاج، لكنني الآن أدركت أنّها لم تكن مبالغة تماماً.
تنهدت، ورفعت يدي لأمسح جبيني.
شعرت ببعض الثِقَل في رأسي، لكن جسدي بأكمله كان ينبض بالحيوية.
“هل جسدك بخير الآن؟”
“نعم. أشعر بأن شيئاً ما قد تغيّر… جسدي خفيف ومنتعش.”
“الحمد لله… لقد أرعبتيني حقاً. كنت أخشى أن نفقدك…”
امتلأ صوت ريفيت بالقلق، فربّتُ على كتفها مطمئناً.
رفعت رأسها إليّ، ثم ابتسمت بلطف.
“بما أنك استعدت وعيك، سأستدعي الدكتور وات. هناك خادمة تنتظر بالخارج، يمكنك مناداتها إن احتجت شيئاً.”
“شكراً لك.”
خرجت ريفيت، وبقيت وحدي في الغرفة.
رفعت يدي أتأملها. لقد بدت أخف وزناً، وأكثر إحساساً.
كل حواسي صارت أشد دقة وحِدّة من ذي قبل.
هل كان ذلك لأن المرض جعل أعصابي خاملة طوال الوقت؟ أم أن الدواء المصنوع من زهرة تيرّيا قد نشّط المانا في جسدي؟
لم أكن متأكدة، لكن ما أعلمه أنّ حالتي الآن أفضل بكثير مما كنت عليه قبل العلاج.
قبضت كفي بقوة ثم بسطتها.
لاحظت أن الدم يعود إلى يدي بسرعة بعد أن كان لونها يشحب فورًا اذا قمت بأي مجهود. عندها أدركت أنني نجوت حقاً من ذلك العذاب المميت.
لن أرتجف بعد الآن خوفاً من أن يقتلني مرض ترينتز.
وبينما كنت غارقة في أفكاري، سمعت طرقاً على الباب.
“سيدتي، لقد أحضرتُ الدكتور وات.” كان صوت ريفيت.
“ادخلي.”
فتحت الباب، ودخل الدكتور وات وهو يحمل حقيبته الطبية.
“لقد استيقظتِ، سيدتي. هذا مفرح حقاً.”
“الفضل لك.”
“بل الفضل لكِ أنتِ. فأنتِ من أحضرتِ زهرة تيرّيا.”
ابتسم الدكتور وات وجلس على الكرسي بجانب السرير. ثم أخرج من حقيبته كرة صغيرة ووضعها في يدي. كان هذا هو الأداة التي تُستخدم لتشخيص مرض ترينتز.
“أمسكيها جيداً لبعض الوقت.”
فعلت ما طلبه، وإذا بالكرة تصدر ضوءاً خافتاً.
ظلّت تلمع قليلاً، ثم أخذ الضوء يخبو ببطء حتى انطفأ تماماً.
كان هذا مختلفاً تماماً عن السابق، حين كان الضوء يتشقق وينطفئ بشكل غير منتظم.
أخذ الدكتور وات الكرة مرة أخرى ووضعها في حقيبته، ثم ابتسم لي برضا.
“يبدو أن العلاج كان فعالاً جداً. لحسن الحظ، لقد شُفيتِ تماماً من مرض ترينتز.”
“هذا بفضل جهودك. شكراً لك دائماً.”
“هذا واجبي، سيدتي. لكن قبل أن أرحل، سأصف لك بعض الأدوية. حتى إن كان المرض قد شُفي، فقد تبقى بعض الأعراض الجانبية.”
ناولني الدكتور وات قنينة دواء شفافة، كان بداخلها مسحوق بني اللون.
قال:
“إنه دواء لتخفيف الأعراض الجانبية، صُنع من زهرة تيرّيا التي أحضرتِها بنفسك يا سيدتي. عند الحاجة ستجدينه فعالاً جداً. لكن للأسف، بما أنّ هذا الدواء يحتوي أيضاً على زهرة تيرّيا، فلن أستطيع صنع المزيد منه ما لم نوفر الزهرة مرة أخرى.”
قلت متأملة:
“إذن عليّ أن أتناوله بتقتير.”
بمعنى آخر، لم تكن المواد الأولية متوفرة بسهولة، لذلك يجب أن أستعمل الدواء فقط عند الضرورة القصوى.
أومأت برأسي في هدوء وحفظت القنينة بعناية.
عندها فتح الدكتور وات فمه مبتسماً ابتسامة خفيفة كأن فيها شيئاً من المرارة:
“لكن، سيدتي… هناك أمر آخر.”
كنت أظن أنّ حديثه قد انتهى، فإذا به يضيف:
“الدوق العجوز غراهام، تدهورت صحته مؤخراً.”
“…… جدي؟”
كانت كلماته مفاجِئة لي.
فهو ليس طبيبي فقط، بل كان أيضاً الطبيب الخاص بالدوق العجوز دايموند غراهام.
وبينما كنت أنا غائبة عن الوعي ثلاثة أيام بسبب تأثير الدواء، يبدو أن حالة جدي ازدادت سوءاً.
كان أصلاً عليلاً في الأيام العادية، أما الآن وقد تدهورت حالته أكثر، شعرت بقلبي يهبط إلى قاع صدري.
تردد الدكتور وات قليلاً قبل أن يقول:
“أعلم أنّه أمر حساس، خاصة بعد سماعي خبر طلاقك من الدوق غراهام، لكن… ألا ترين أنّه من الأفضل أن تزوريه ولو مرة؟”
ثم ابتسم ابتسامة محرجة وأضاف:
“أرجو أن تسامحيني إن كنت قد تجاوزت حدودي يا سيدتي.”
هززت رأسي قائلة:
“لا، ليس الأمر كذلك. كنت قلقة بالفعل، وأشكرك لأنك أخبرتني.”
“إذن… بما أن صحتك تبدو مستقرة الآن، فسأنصرف.”
“أحسنت صنعاً، شكراً لك.”
انحنى مودعاً وخرج من الغرفة، بينما غرقتُ أنا في أفكاري.
كانت فكرة الذهاب إلى قصر غراهام ثقيلة على نفسي بسبب آينس، لكن لا يمكنني التهرب فقط خوفاً من مواجهته.
إن كان الدكتور وات قد تكلّم بهذه الصراحة، فلا بد أن هناك سبباً جدياً.
ناديت:
“ريفيت.”
“نعم، سيدتي.”
“غداً سنزور قصر غراهام. أبلغيهم أننا سنأتي. وأخبريهم بوضوح أنني لا أقصد لقاء الدوق آينس غراهام، بل جئت خصيصاً لرؤية الدوق السابق، دايموند غراهام.”
التعليقات لهذا الفصل " 14"