ساد السكون في مكتب دوق غراهام الذي خلا من صاحبه.
كنت جالسة على الأريكة الموضوعة في أحد جوانب المكتب، مطبقة شفتي بصمت، منتظرة عودة الدوق آينس إلى مكتبه.
القلق والتوتر كانا يطوقانني بإحكام. كان لا بد لي من لقاء دوق غراهام، آينس غراهام، اليوم. كان هناك ما يجب علي قوله له مهما حدث.
لطالما كنت أظن أن الوقت يمر ببطء، لكن لم أشعر قط أنه يزحف بهذا البطء القاسي كما أشعر الآن.
مرّت عشرات الدقائق وأنا أترقب بقلق عودة آينس.
ثم فجأة، اخترق هدوء المكتب صوت نقرة معدنية، صوت مقبض الباب وهو يُدار.
كنت أحدّق في يدي المطأطأتين، لكنني ما إن سمعت الصوت حتى انتصبت واقفة كرد فعل تلقائي. فُتح الباب بعد قليل، ودخل رجل ذو بنية قوية. كان هو، آينس غراهام.
“……لقد عدتَ.”
بكلماتي تلك، التفت آينس متأخراً، وكأنه للتو أدرك وجودي.
“لماذا أنتِ هنا؟”
كان صوته بارداً إلى حد القسوة. ارتجفت لا إرادياً وانكمشت كتفاي.
“ألم أقل لكِ ألا تدخلي إلى مكتبي؟”
بدأ يقترب ببطء. خطواته الرنانة جعلتني أتراجع نصف خطوة بلا وعي.
توقف بعد أن لاحظ ردة فعلي، وتجعد حاجباه.
“إذن، ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟”
كان صوته لا يحمل أي عاطفة. فتحت شفتي لأتكلم، لكن سرعان ما أطبقتُهما مجدداً.
الكلمات التي أعددتها مراراً وتكراراً وأنا في انتظاره لم يسهل خروجها كما توقعت.
لكن لا بد أن أقولها، اليوم تحديداً.
“جئتُ…… لأني أريد أن أقول شيئاً.”
“شيئاً مثل ماذا؟”
“أريد…… الطلاق.”
تجمد آينس عند كلماتي المفاجئة.
“……ما الذي طرأ فجأة؟”
“أليس هذا ما كنت تريده طوال الوقت؟”
ما إن انفتحت شهيتي للكلام حتى بدأت الكلمات التي أعددتها تخرج واحدة تلو الأخرى.
“لقد تعبت. تعبت من انتظار أن تحبني. أنت لن تحبني أبداً، وهذا الانتظار كان بلا معنى منذ البداية.”
مع نهاية كلامي شعرت بغصة حارقة تصعد من داخلي، لكنني كبحتها كما لو كنت أكبح أنفاسي.
“سأمنحك الطلاق الذي تريده.”
نظر إلي آينس بعينين مشككتين.
لكنه لا يستطيع أن ينكر كلامي. فمنذ زواجنا لم يتوقف عن التمني لو ينفصل عني.
كنت أرفض طلبه بالطلاق مراراً، متمسكةً بأمل ساذج أن يمنحني قلبه يوماً. أما الآن، فحين أعرض أنا الطلاق، فلا بد أنه يجد الأمر غريباً.
لكنني لم أعد أحتمل انتظاره أكثر.
بل إنني أملك سبباً آخر لا يترك لي خياراً سوى الطلاق.
“لكن لدي شرط.”
أطلق آينس ضحكة قصيرة ساخرة، أقرب للاستهزاء.
“شرط؟ لا تقولي إنكِ تريدينه بعد سنوات مثلاً.”
هززت رأسي بهدوء.
“لا.”
“إذن ما هو؟”
“……أريد تعويضاً سخياً.”
“تعويضاً؟”
سأل وهو يحدق بي كأنه غير مصدق، فأومأت برأسي.
“نعم. منذ البداية كان الطلاق مطلبك أنت. وبالنظر للأمر، فأنتَ المخطئ. لم تؤدِّ أيّاً من واجباتك الزوجية.”
بينما كنت أتكلم، كان قلبي يخفق بعنف. شعرت بأطراف أصابعي تبرد، فابتلعت ريقي بصعوبة.
ماذا لو رفض أن يدفع المال؟
“كم تريدين؟”
“مليون غولد.”
ذكرت الرقم الذي حسبته في رأسي مراراً.
“ماذا؟ كم؟”
قطّب آينس جبينه بشدة حين سمع المبلغ.
كنت أعلم. مليون غولد مبلغ ضخم حتى بالنسبة له، هو الذي يدير ثاني أكبر شركة تجارية في الإمبراطورية.
ومع ذلك، لم يكن المبلغ خيالياً بالكامل.
فكما قلت، هو سيد غراهام، أحد أعمدة التجارة في الإمبراطورية. لو أراد، لاستطاع تدبير المبلغ.
والدليل أنه رفع زاوية شفتيه وهو يلمس شفاهه بتفكير.
“هل كنتِ تتوقعين أني سأتمسك بكِ لو طلبتِ مليون غولد؟”
ربما اعتقد أن طلبي مجرد حيلة لأبقيه إلى جانبي. لكنني حقاً كنت أحتاج المال.
“لا. أريد الطلاق فعلاً. إن دفعتَ المبلغ، سأوقع الأوراق فوراً.”
أطال النظر إلي بعينين ضيقتين، بنظرة حادة كأنها تسبر صدقي.
ارتجف قلبي تحت تلك النظرة، لكنها لم تكسر رباطة جأشي التي اكتسبتها خلال عشرة أعوام قضيتها بقربه.
“حسناً. سأجهزه غداً.”
أومأ موافقاً بعد صمت طويل.
“أوراق الطلاق سنوقعها بعد الدفع……”
ثم ترك جملته معلقة، قبل أن يومئ برأسه نحو الباب.
“الآن، غادري مكتبي.”
“…….”
جمّدتني كلماته القاطعة في مكاني للحظة، ثم انحنيت برأسي.
أصابعي المشدودة حتى البياض كانت ترتجف بخفة.
في تلك اللحظة شعرت بما تبقى من أوهامي يتحطم بلا رحمة.
صحيح، هذا هو آينس الحقيقي.
قبل عشرة أعوام، حين جئت إلى هذا القصر أول مرة، أسرتني رقته وطيبته. سبع سنوات كاملة أحببته من طرف واحد.
ثم في ثلاث سنوات الزواج، لم أتمنَّ سوى التفاتة منه، لكنه لم يلتفت.
لم يلتفت إلي مرة واحدة طوال ذلك الوقت.
كان ينظر إلي كعبء، ويتمنى التخلص مني كل يوم.
لولا جده، دوق غراهام السابق، لطُردت منذ زمن بعيد.
ورغم ذلك، بقيت أنتظر، مؤمنة أنه سيعرف مشاعري يوماً.
وانتهى بي الحال إلى هذه اللحظة.
“آسفة على الإزعاج. سأرحل الآن.”
خرجت مسرعة من مكتبه.
أُغلق الباب خلفي بإحكام، ومع ابتعاد وجوده عني، أسندت جسدي إلى الحائط وسقطت جالسة ببطء.
لطالما تخيلت لحظة فراقنا. كنت أظن أنني سأبكي بمرارة، ووجهي سيغدو فوضى من الدموع. لكن الدموع لم تأتِ.
لم أشعر سوى بالفراغ واليأس من نفسي.
“سيدتي، هل أنتم بخير؟”
سألتني ريتشل، كبيرة الخادمات، حين رأتني جالسة بلا حول.
رفعت نظري إليها وأومأت.
“أنا بخير. ساعديني على النهوض.”
“……نعم، سأرافقك إلى غرفتك.”
“لا، قبل ذلك عليّ زيارة جدي.”
“حسناً.”
تجاهلت نظرات ريتشل القلقة، واتكأت على ذراعها حتى وقفت، ثم بدأت أتجه إلى غرفة دايموند غراهام، الدوق السابق وجدّ آينس.
“ألا تعتقدين أنه من الأفضل أن تخبري السيد بالحقيقة؟”
قالت ريتشل بصعوبة بعد لحظة من التردد. كنت أعلم كم عانت لتجد الجرأة على قول ذلك، فقد رأيتها مراراً تفتح فمها لتتكلم ثم تصمت.
“……حتى لو كان السيد قاسياً، لو عرف أنكِ مريضة، ألا يوفّر لكِ الدواء؟”
هززت رأسي نفياً.
“لا، أنت تعرفين جيداً ما يفكر به عني. حتى لو أخبرته، لن يرمش له جفن.”
ما زالت نظراته الحادة الأخيرة تطاردني بوضوح.
حتى لو عرف بمرضي…… هل سيتغير؟
لم يكن أنني لم أتخيل الأمر من قبل.
لكن مهما حاولت أن أتصور، فإن آينس في خيالي لم يتغير قط.
بل كنت أعتبر نفسي محظوظة إن لم يسخر مني ويتهكم.
ولو أنني سمعت سخريته، عندها حقاً كنت سأرغب في التخلي عن إرادتي في الحياة.
حتى لو كنت مجرد حجر عثرة مزعج بالنسبة له، إلا أنني بالنسبة لي، كان هو كل حياتي.
“الأفضل أن أنهي الأمر هكذا. إن حصلت على تعويض كبير، فسأتمكن بنفسي من شراء الدواء.”
“…….”
حتى ريتشل، في النهاية، لم تجد ما ترد به على كلماتي.
كما عرفت أنا آينس على مدار عشرة أعوام، كذلك رأت ريتشل، رئيسة الخادمات، كل ما دار بيننا طوال عشرة أعوام. لذا، كانت تدرك أن كلامي لم يكن خاطئاً.
“أعتذر، لقد تجاوزت حدودي.”
كان صوت ريتشل خالياً من القوة.
ابتسمت لها لأني شعرت بأنها رغم ذلك تقلق عليّ.
“لا، بل أنا من يجب أن أشكرك لأنك تقلقين علي. آه، لقد وصلنا. هل تبلغينه أنني أتيت؟”
“نعم.”
طرقت ريتشل باب غرفة الجد بخفة.
رنّ الصوت النقي ثلاث مرات من الخشب الصلب.
“هل أنتِ سيسيل؟ تفضلي بالدخول.”
قبل أن تفتح ريتشل فمها، جاء صوت جدي من الداخل.
ابتسمت ريتشل بحرج ونظرت إليّ، فأومأت لها إشارة إلى الموافقة.
ما إن فتح الباب حتى ظهرت الغرفة من الداخل. كان الجد مستلقياً على السرير في الركن الأيسر.
“لقد جئت، يا جدي. هل تشعر بتحسن اليوم؟”
سرت نحوه ببطء وأنا ألقي التحية، فمد يده نحوي. جلست بجانبه وأمسكت يده بكلتا يديّ.
“أنا كما ترين، لم يتغير شيء.”
“عليك أن تحافظ على صحتك.”
ضحك الجد بخفة، وكأن حتى قلقي الصغير يسعده.
“إذن، بما أنكِ جئت في غير وقتك المعتاد، فلا بد أن لديكِ ما تريدين قوله.”
“……نعم.”
“وما الأمر؟”
انعكست مسحة من اللطف في التجاعيد المحيطة بعينيه.
كان الجد رجلاً طيباً وحنوناً. لهذا السبب، حين توفي والداي في حادث قبل عشرة أعوام، وكان عمري لا يتجاوز أربعة عشر عاماً، تولى رعايتي.
لقد كان صاحب فضل عظيم عليّ. ولهذا، أردت أن أخبره بنفسي أنني سأغادر هذا البيت.
“غداً…… سأطلق آينس.”
“…….”
“جئتُ لأقول ذلك، لأني على الأرجح لن أراك بعد الآن.”
“إذن، في النهاية وصل الأمر إلى الطلاق.”
“نعم. ……آسفة.”
أمسك الجد بيدي بقوة وهز رأسه.
“ولمَ تعتذرين لي؟ بل أنا من أشعر بالذنب. يبدو أن إجباري لكِ على الزواج من آينس جرحك كثيراً.”
“لا، أبداً. لقد كان ذلك أيضاً ما أردته أنا.”
ابتسمت مطمئنة له، لكنه رمقني بوجه شاحب مليء بالمرارة.
“آه…… لقد شخت، ولم أعد قادراً على فعل أي شيء لكِ. سامحيني.”
راح يكرر اعتذاره لي بلا توقف.
بينما كنت أحاول مواساته، دخل أحد الخدم حاملاً وجبته الخفيفة. عندها نهضت من مكاني.
والآن، بعدما ودّعت أكثر شخص أنا ممتنة له، حان وقت الاستعداد للرحيل حقاً.
التعليقات لهذا الفصل " 1"