“أريد أن أتقبّل الأمر. لا أنجرف مجبرةً بلا حيلة، بل أختار حقًا أن أكون معكَ لأني قبلتُ بذلك.”
عيناه الباردتان حدّقتا فيها كأنهما تزن كلامها. ثم انفرجت شفتاه ببطء.
“أذلك كبرياؤكِ؟”
“لا.”
تلاقت نظراتهما، نظراتٌ ما زالت باردة قاسية، لكن أبيغيل ابتسمت كأنها لا تراها. فضاق الرجل بعينيه.
“هذه طريقتي.”
و ضحك راكييل بخفة، ضحكةً قصيرة حادة.
“تكرهين أن تكوني دميةً معلّقة بخيط، أليس كذلك؟”
“صحيح. أليست طريقةً لا بأس بها لأكون شريكةً لك؟ على الأقل، عندما ينهار كل شيء، لن تهرب منكَ هذه الأميرة المزيّفة وهي تتذرّع بأنها لم يكن لها خيارٌ أو أن ما حدث لم يكن بإرادتي.”
“حتى لو حاولتِ الهرب في النهاية، لن يتغير شيء، لا لي ولا لكِ.”
“لا أتحدث عن نتيجة الأمر.”
صحيح، فمهما حدث هما ميتان على كل حال. ولذلك كانت تريد—على الأقل إن كان لا مفر—
“بالطبع. لكن هل تظن أنه من الحكمة إبقاء شخصٍ إلى جانبكَ وهو يخطط مسبقًا ليتذرع بأنه لا حول له ولا قوة؟ هل يمكن الوثوق بشخصٍ كهذا؟”
هي فقط لا تريد أن تربط حياتها وضميرها بأعذار من نوع “لم يكن بوسعي فعل شيء”.
“آه، صحيح. بما أنك علّقتَ حياة عائلتي، فأنتَ لا تحتاج أصلًا لأن تثق بي، أليس كذلك؟”
“لا داعي أن أشقّ على نفسي بلا سبب.”
“لكن يا دوق…..الثقة ليست شعورًا يولد من نقاط ضعف الآخرين.”
“الثقة أصلًا ليست شيئًا يُمنح لي.”
“هل عشتَ طوال حياتكَ غير قادر على الوثوق بأحد؟”
“لو وثقتُ بأحد، لما كنتُ حيًا الآن.”
كانت كلماته خفيفة، فيها شيءٌ من السخرية، لكن عيناه السوداوان العميقتان ضاقتا على روحها كأنهما تكشفان جوفها.
فارتجفت أبيغيل قليلًا من وقع النظرة، لكنها حاولت أن تبدو ثابتةً قدر استطاعتها.
هي ركعت في البداية، لكنها لم تكن تريد أن تقضي حياتها راكعةً زاحفة. حتى لو لم تستطع كسر علاقة السيد بالتابعة، فلتبدو على الأقل وكأنها تقف معه على قدم المساواة—ولو كان ذلك مجرد تمثيل.
لم تستطع أن تسمح لنفسها بأن تبقى عائلتها معلّقةً وحدهم في قبضته. لو حدث ذلك، لكانت ستنهار يومًا ما. لذلك احتاجت—لأجل نفسها—أن تبدو واثقةً بما يكفي، وحتى لو ماتت، فليكن موتها نتيجة إرادتها.
“أحتاج منكَ شيئًا من الثقة، واعترافًا بموقعي.”
ضحك راكييل ساخرًا كأن كلامها مضحك، لكن أبيغيل استمرت بثبات.
“وثوقكَ بي لن يقتلكَ. فقط…..ثق بي. بي أنا، وليس بكوني نقطة ضعف.”
“حقًا، طريقتكِ مزعجةٌ إلى حدّ لا يُصدق.”
“ألم تثق بسموه ولي العهد من قبل؟”
“…..ووقحةٌ أيضًا. تقارنين ولي العهد بكِ وكأنكما على مستوى واحد.”
“نحن، أنا و أنتَ—على الأقل اسميًا—أبناء عم. ولم يبقَ سوانا في هذا العالم.”
“ولو كانت قرابتها مزيفة.”
قالت ذلك هامسة وهي ترفع كتفيها بخفة، فضحك راكييل ضحكةً قصيرة ممتعة.
“يبدو أنكِ فقدت أي إحساسٍ بحدود الوقاحة، أليس كذلك؟”
كانت كلمة “وقاحة” كفيلةً بإحراجها، لكن نبرته لم تكن نبرة توبيخ أو اختبار. فسألت بهدوء،
“أليس هذا ما أردته مني؟ أن أتصرف كما لو-”
“كما لو كنتِ حقيقية.”
“نعم.”
“تحسنين ذلك بامتياز. لكن موضوع حديثنا لا علاقة له بكل هذا. فلماذا تتمسكين به؟”
“أحتاج ثقتكَ.”
“هذا أمرٌ يزعج الطرفين. ما دمتِ لا تخونين، فلن أتخلى عنكِ.”
“لا أقصد هذا النوع من الثقة.”
نظر إليها الرجل بنظرةٍ يختلط فيها الفضول والضجر. وإن أطالت الكلام قليلًا، قد يغضب حقًا.
ثم تحدّث بنفاد صبر،
“يبدو أنكِ تقدّسين ما تسمّينه قلبًا وضميرًا. مع أنكِ أُجبرت على هذا الدور، ولستِ بريئةً تمامًا من الشعور بالذنب أو الندم…..أليس كذلك؟ يمكنكِ دومًا أن تلوميَني وتلقي بكل ما حدث على ظروفكِ القاسية، وهكذا تحافظين على ما تقدّسينه من ‘ضمير’ بلا أي تأنيب. فلماذا تصرّين على تحميل نفسكِ مسؤوليةً نفسية لا داعي لها؟”
“ضمير؟ لقد أسأتَ الفهم يا دوق. أنا…..جبانة فحسب. لستُ شجاعة بما يكفي لأعلّق حياتي وحياة عائلتي على إرادة غيري.”
ابتسم الرجل بلا كلمة. فنظرت إليه أبيغيل بهدوء.
لم يكن هناك ما يجرح كبرياءها. فهي بالفعل قالت ما يتجاوز مكانتها.
“إذًا، تريدين أن تمتلكي الإرادة أنتِ أيضًا، وأن تقفي على قدم المساواة معي، وأن تتحمّلي القدر نفسه من المسؤولية..…؟ ممتاز. تريدين فقط أن تتجنبي موقع الخضوع المطلق، أليس كذلك؟”
“هذا جزءٌ منه. ثم إن البدايات دائمًا مهمة.”
“وماذا تريدين مني في هذا الـ‘بداية’ التي تطلبينها؟”
“بما أننا لا نستطيع كتابة عقد، فقط أعِد عليّ الأمر بوضوح.”
“أعيد ماذا؟”
“الاعتراف بموقعي. وثقتكَ بي.”
“وبأي شيءٍ أستطيع أن أثق بكِ؟”
“مجرد التفكير بأن خياري الوحيد غير الإيمان بكَ هو موت عائلتي، وأنني لا أملك أدنى فرصةٍ للهرب من قبضتكَ…..يكفي هذا لتعرف أنكَ لن تستطيع إلا الوثوق بي، شئتَ أم أبيت.”
“….…”
“وأهم ما في الأمر…..أني أنا أؤمن بكَ.”
“لأنني أنا أيضًا لا أستطيع الإفلات من إيمانكِ بي؟”
“إلا إذا قررتَ قتلي، نعم. أنتَ تملك حريةً أكبر مني في الاختيار. لكن بما أننا وصلنا إلى هذا الحد، فلنترك التفاصيل الصغيرة جانبًا. لا نقاط ضعف تخصني، ولا ظروف تخصكَ. هل رأيتَ يومًا عقدًا يدوَّن فيه كل ما وراءه؟”
ارتسمت ابتسامةٌ مائلة على شفتي راكييل.
مهما ابتسم بدا مزعجًا، لكن هذه المرة كانت ابتسامته أقرب إلى الموافقة. ثم أسند ظهره إلى الأريكة أكثر وردّ بوجه مائلٍ إلى الاسترخاء،
“أنا وأنتِ لسنا أصلًا في موقع يسمح بالتفاوض.”
“قبل قليل لو أطلت الكلام أكثر لكنتَ حدقتَ فيّ كأنكَ ستقتلني في اللحظة التالية. أنتَ تحديدًا تحتاج إلى اختصار. لو أن الرجال يتصرفون ببساطة، لما اضطررتُ لجرّكَ في الحديث دائمًا بهذه الطريقة..…”
“كنتُ على وشك أن أثني عليكِ لأنكِ نجحتِ، من موقعكِ الضعيف، في جرّ الحديث وكأنه تفاوض.”
كان مدحه واضحًا بما يكفي لتلزم أبيغيل الصمت.
“وفوق ذلك، نجحتِ مع شخصٍ مثلي.”
كان يمتلك نوعًا نادرًا من الغرور—ذلك الذي يرفع نفسه حتى وهو يمدح غيره. لهذا لم يكن الثناء يشعرها بالارتياح بقدر ما كان يثير ضيقها.
ثم نطق الرجل بجملةٍ قاطعة كأنها قسم،
“إن ابن إيدلغارد وابنة ديلّوا يتعاهدان، بصفتهما شريكين متساويين، على عدم خيانة العقد وأن يضع كلٌ منهما حياته في يد الآخر. في العام 806 من مملكة الربيع، اليوم السادس والأربعون.”
“حتى آخر يومٍ في حياتنا.”
“نعم، حتى آخر يوم.”
وافقها راكييل بابتسامةٍ ساخرة وهو ينهض ببطءٍ من مكانه. وبما أن الحديث انتهى، تنفست أبيغيل ارتياحًا وابتسمت على غير إرادة، فرؤية هذا الرجل يغادر تعني ساعاتٍ من الهدوء.
لكن راكييل تحدّث بجديةٍ مفاجئة،
“إن كان سبب ابتسامكِ أنكِ بدأتِ تخططين لما ستفعلينه بعد خروجي-”
“بماذا تظنني!”
وأضافت بنظراتها: طبعًا أنا سعيدةٌ لأنكَ ستخرج. فردّ عليها بابتسامةٍ لطيفة—ولطفه كان دومًا نذير شؤم.
“للأسف، عادتكِ الكسولة في النوم بلا نهايةٍ تنتهي اليوم. لماذا؟ لأنكِ، اعتبارًا من اليوم، لديكِ من العمل ما يكفي لأن يصبح جزءًا من تنفّسكِ.”
***
رجل غريب، يحمل في يديه دفتر جلدٍ فاخر وقلمًا يبدو أن ثمنه وحده يكفي لشراء خمسة فساتين، ظهر فجأة ووقف محدقًا في أبيغيل.
وحتى عندما نهضت من سريرها وجلسَت على الأريكة، بقي ينظر إليها بصمتٍ دون أن ينبس بكلمة.
قابلت أبيغيل نظرته بعنادٍ أشبه بتحدٍّ، ثم أدركت فجأة أمرًا ما فأرخَت عينيها. ففي اللقاء الأول، يجب على صاحب المكانة الأعلى أن يفتح الحديث.
تذكرت فجأة أنها عاشت سنواتٍ بعيدة عن حياة النبلاء، وأن الأعراف الدقيقة ظلت غريبةً عنها حتى بعد دخولها القصر.
وتذكرت أيضًا أنها تملك الآن مكانةً لا تُقارن بمكانة هذا الشاب النبيل الذي يقف أمامها.
كان يبدو كأنه يتعمّد الوقوف هكذا ليذكّرها بمكانتها. فشعرت ببعض الارتباك ونظرت إليه.
كان يعرف هويتها جيدًا. وكان من المضحك أن تتصرّف أمامه وكأنها تمارس سلطتها. لكنها مهما كان الأمر محرجًا، فعليها أن تعتاد. ففتحت فمها بحرجٍ أشبه بزفرة،
“ما الأمر؟”
“كايل ثونتون، يا صاحبة السمو.”
ليس اسمكَ! بل ما الذي يحدث بيننا الآن؟
سألت أبيغيل ذلك بعينيها. و يبدو أنه فهم نظرتها تمامًا، فتحدّث بثقة وهو يتابع الكلام،
“منصبي هو المستشار الأول للدوق، وأقرب المقربين إلى دوق إيدلغارد. ومع جلالة الملكة والدوق، والكونتيسة غيلدي، فأنا واحدٌ من قلائل الذين يعرفون حقيقة أمر الآنسة…..لا، صاحبة السمو. ووظيفتي الأساسية التحقيق في الناس، والعمليات الخلفية، والاستشارات، والحيل، وجمع فساد الأقطاعيين..…”
لم يكن لأبيغيل أدنى اهتمامٍ باسمه أو وظيفته أو بأيٍ مما يقوله. فمجرد مظهره يكفي لتقدير نوع العمل الذي يقوم به.
وعندما عبسَت تضجرًا من مقدمته التي لا تنتهي، توقف كايل عن ثرثرته.
ولئلا يبدو أنها أظهرت انزعاجها بوضوح وهي في أول لقاء، ابتسمت متكلّفةً وسألته بنبرةٍ لينة،
“أعتقد أنكَ ستعرّفني بنفسكَ شيئًا فشيئًا دون الحاجة إلى هذا السيل الآن…..لكن ما الذي تفعله في هذه اللحظة بالضبط؟”
“آه، بدايةً، لقد أجرينا بعض التحريات عن صاحبة السمو.”
“تحريات؟”
لم يهتم كايل بأن وجه أبيغيل تجمّد فجأة، وتابع كلامه بلا توقف،
“لقد تتبعنا كل ما حدث بعد وفاة والدكِ، الكونت ديلّوا، لكن ما قبل ذلك تعذّر جمع أي معلوماتٍ عنه تقريبًا.”
كانت مجرد طفولتها، ومع ذلك بدا كايل جادًا بصورةٍ أفزعتها.
ما قبل وفاة والدها…..عضّت أبيغيل على شفتيها لحظة. و بدأ القلق ينهش صدرها—ربما كانت هناك أشياء تجهلها.
“كنتُ مجرد فتاةٍ من عائلة ريفيةٍ نبيلة. ما الذي يُعدّ مشكلةً في ما قبل وفاة والدي؟”
“ما هي موهبتكِ وهواياتكِ يا صاحبة السمو؟”
“.……”
“نعم؟”
“….…”
“صاحبة السمو؟”
أصابها السؤال الفجائي بالغيظ لحظة، لكنها شدّت فمها ورسمت ابتسامةً مصطنعة.
“ولماذا تسأل؟”
“لرسم منهج التدريب القادم. إن كانت لديكِ موهبة، فسيوفّر ذلك كثيرًا من الجهد عنكِ. وإن كانت لكِ هواية، فعلينا استثمارها.”
“درستُ البيانو قرابة عشر سنوات، لكن يداي تجمدتا الآن فلا أظنه موهبةً تُذكر. وتعلمتُ الكمان نحو خمس سنوات، لكن الأمر نفسه. ولا أملك هوايةً أو مهارة خاصةً أخرى. درستُ فقط ما تتعلمه أي آنسةٍ نبيلة.”
ومع أن كلامها بسيط، إلّا أن كايل غرق في دفتره يحرك قلمه الفاخر بحماسة.
“وما المقصود بالأساسيات؟”
“تعلمت الرسم لكن بلا موهبة. وأجيد بعض الشيء لغة القارة الغربية، ودرست قليلًا من لغة فيلوبير. أما الثقافة فقرأت كتاب المعارف الأساسية لأطفال النبلاء في غرانتونيا وكتاب تاريخ القارّة لا غير. كان والدي يتمنى أن يصطحب ابنه للصيد، لكن إخوتي كانوا أصغر مني بكثير، فكنتُ الوحيدة المناسبة لذلك. وفي الشمال لا يعلّمون الفتيات الفروسية عادة، لكن والدي أراد أن يصطحبني للصيد، فعلمّني الفروسية والرماية.”
ومع أنه علمها كل ذلك، إلا أنها بالكاد شاركته الصيد لأنه كان يراها مهارةً خطرة. فابتسمت بسخرية خفيفة.
ومرّ بخاطرها مشهدٌ باهت ليديه الكبيرتين وهما تثبتان يدها الصغيرة على اللجام، وصوته الدافئ، وذراعه التي كانت تحيط بها بثبات—ثم تلاشى.
“إن كنتِ قد عزفتِ لمدة عشر سنوات، فستستعيدين مستواكِ بسرعة مع بعض التدريب. والكمان كذلك. لكن بما أن القصر الذي كنتِ محبوسةً فيه يخلو من الآلات..…”
“كان فيه بيانو واحدٌ على الأقل.”
“لم يُضبط منذ عشرين عامًا على الأقل، يا صاحبة السمو.”
تدخل صوت راكييل فجأة وهو يرتمي على الأريكة المقابلة بوجه هادئ. لا أحد يعرف متى دخل.
و شعرت أبيغيل بالغرابة من حديثه الرسمي عليها لكنها تجاهلت الأمر،
“نعم، هكذا بدا.”
“تابع.”
“نعم. بما أنه ليس هناك آلات، فلنقل أن صاحبة السمو تعلمت البيانو والكمان لاحقًا للتسلية في بيت أبيها، وأنها تملك موهبةً موسيقية فطرية…..عبقرية تقريبًا.”
أليس هذا احتيالًا؟ أو ربما…..
“بهذا العمر؟”
“صحيح، فصاحبة السمو كبيرةٌ قليلًا عن سنّ العبقرية.”
التفتت أبيغيل عن كايل وحدقت بغضبٍ في راكييل، لكنه ظل ببرودٍ يشير لكايل أن يكمل.
“معظم سيدات العاصمة يتعلمن آلةً أو اثنتين، لكن قليلاتٍ يصلن لمستوى جيد. ولو شاع أن سمو الأميرة—رغم تعلمها المتأخر—موهوبةٌ بما يكفي لتعزف آلتين بإتقان، فسيترك ذلك انطباعًا ممتازًا لدى نبيلات العاصمة.”
_________________________
حوارهم في البدايه اعترف اني مافهمت الا انها تبي ثقته وشكلها خذته بعقد شفهي حتى ماوقعوا😭 انفدا الثقه
والبطل طلع مغرور✨ نايساااات شخصيته مره عاجبتني لأني ماتوقعته كذا 😂
المهم كل شوي ازعل على ابوها كان مره حلو وش انهدام المسؤليه الي جاه فجأه؟ يارب يطلع مقىًول ولا انه رخمه
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"