6
ماتت فيوليتا بألم، لكن على الأقل لم تتألم طويلاً.
رغم أن موتها كان فارغاً بقدر تلك اللحظات القصيرة، إلا أن هذا كان على الأقل عزاءً لأبيغيل التي بكت طوال الوقت منذ أن حُبست في هذه الغرفة.
بالنسبة لأمٍ فقدت ابنتها، لم يكن هذا شيئاً يُقارن أبداً، لكن إن لم تجرؤ هي على قول هذا، فلن يستطيع أحدٌ آخر أن يقوله لها.
أغمضت الملكة عينيها ببطء، كأنها تحلل كلمات أبيغيل بتمعن. وبعد صمتٍ قصير، فتحت عينيها مرةً أخرى، ولم تعد تبكي.
في مواجهة تلك النظرة الصلبة، تجمدت أبيغيل غريزياً. كانت عيوناً كأنها لشخصٍ آخر.
“لا أعرف ماذا يريد راكييل أن يحقق باستخدامكِ.”
“…….”
“لا، في الحقيقة، يبدو أنني أعرف، لكن الآن لم يعد يهم.”
“جلالة الملكة، فقط عاقبيني ورجاءً…….”
“لا، أنا فقط لا أستطيع تحمل اختفاء فيوليتا من هذا العالم. لا أستطيع تحمل أن تختفي هكذا، بهذا الفراغ. أخي، ابني، و ابنتي……لا أريد أن يختفوا كما يريدون.”
“جلالتك.”
“كيف يمكن أن يختفوا جميعاً هكذا.”
كان صوتها الشامخ والمفجع غريباً.
واجهت أبيغيل نظرة الملكة بعيونٍ مرتجفة.
“قال راكييل أنه سيجعلكِ ملكة.”
“غير وارد، غير واردٍ على الإطلاق. أنا…….”
“سأجعلكِ ابنتي.”
لم يكن الأمر للاحتفاظ بالعرش باستخدامها. ولم يكن للانتقام من “هم”.
“أرجوكِ، إبيغيل. كوني فيوليتا.”
“…….”
“أنقذي ابنتي. اجعلي ابنتي تستمر في العيش في هذا العالم.”
كان طلباً يائساً لإنقاذ ابنتها. فتدفق صمتٌ خانق.
كان يكفي كلمةً واحدة “سأفعل”، لكن الكلمات لم تخرج بسهولة.
كلام الملكة كان طلباً مشرفاً لها، لكنه في الحقيقة خياراً محدداً مسبقاً لأبيغيل.
كادت أبيغيل أن تتوهم للحظة أن لديها خياراً، لكنها تذكرت سريعاً أنه لم يكن لديها حق الاختيار من الأساس.
راكييل، ذلك الرجل، قد سد بالفعل كل ثغرةٍ للهروب. لذا، كان يكفي قول “سأفعل” فقط.
لكن الملكة طلبت منها. طلباً، لا أمراً ولا إجباراً.
لو كان أمراً، لكان الرد أسهل بكثير، لكن الطلب جعله أثقل بكثير.
فتحت أبيغيل شفتيها الملتصقتين بصعوبة،
“سأفعل ذلك.”
“…….”
“سأفعل.”
كان من المضحك أن توافق أبيغيل هكذا. لكن الملكة ابتسمت كأنها ممتنةٌ حقاً لكلام أبيغيل.
نظرت أبيغيل إلى وجهها الجميل بدهشة وفكرت،
‘الآن، اخترتُ حقاً بنفسي―. اخترتُ أن أصبح بديلة الأميرة بنفسي.’
“شكراً لكِ. قريباً ستتمكنين من العودة رسمياً إلى البلاط. قبل ذلك، سأرسل رئيسة الخدم لتجهز لكِ كل ما تحتاجينه.”
“شكراً جزيلاً.”
“يجب أن أعود الآن قبل بزوغ الفجر. بالمناسبة، لن أتظاهر بأنني أعرف شيئاً أمام راكييل.”
“ماذا؟”
“ذلك الطفل، خذي منه كل الوقت الذي تريدينه و العبي معه كما تشائين.”
قبل أن تستوعب أبيغيل الكلام، نهضت الملكة مبتسمة. و قفزت أبيغيل من السرير مسرعةً ووقفت. فضحكت الملكة بخفة.
“قريباً، سنلتقي مجدداً.”
“نعم، جلالتك.”
“عندها ستكونين ابنتي حقاً، أبيغيل.”
عندما نادتها الملكة باسمها بهمس، شعرت أبيغيل بغصةٍ غريبة، فانحنت.
نظرت بدهشة إلى ذيل فستانها وهي تدور، ثم رفعت رأسها بعد أداء التحية، لتجد الملكة قد اختفت من الغرفة.
وتذكرت أبيغيل آخر كلماتها لها.
“أبيغيل.”
شعرت كأن اسمها نُودي للمرة الأخيرة. لم تعرف لماذا شعرت هكذا. و ربما كانت حقاً المرة الأخيرة.
‘الآن، من في هذا العالم سينادي اسمي؟’
جلست أبيغيل مذهولةً لفترة. و تذكرت أمها، ومربيتها، وإخوتها المزعجين الذين مرّوا في ذهنها.
هل ستتمكن من رؤية أمها مرةً أخرى قبل الموت؟ ربما لا.
‘لو علمتُ أن ذلك كان حقاً الوداع الأخير، لقلتُ كلماتٍ أجمل.’
لنظرت إليها أكثر. لعانقتها أكثر.
‘لقلتُ أنني أحبكِ يا أمي……’
ابتسمت أبيغيل بابتسامةً فارغة ودموعها تسقط بدهشة.
كان شعوراً غير مفهوم. لم تعرف لماذا تسيل الدموع مجدداً.
بسبب الأميرة؟ الملكة؟ عائلتها؟ أم كل شيء؟
من أين بدأت حياتها تتعقد هكذا؟
لو دخلت القصر أسرع قليلاً، أو أبطأ قليلاً، لما التقت بالأميرة. و لو لم تمرض أمها، لما كان عليها أن تدخل البلاط أصلاً.
لا، لو لم تأتِ إلى العاصمة وتتعب، لما مرضت أمها أصلاً.
في الحقيقة، قالت أبيغيل إنها لا تندم، لكنها كانت تندم أحياناً. لو أنها بقيت في مسقط رأسها وتزوجت الكونت شوفيت بهدوءٍ فقط.
كلما رأت يدي أمها الخشنتين، كلما مرضت أمها، كلما بحث إخوتها عن طعام لذيذ، ندمت أبيغيل مرات، بل عشرات المرات.
ما هذا الزواج الذي جعل عائلتها هكذا؟ هل هو جسدي الذي دمر الجميع هكذا؟
‘في النهاية، ربما كنتُ أفكر في نفسي فقط.’
ضحكت أبيغيل ساخرةً من نفسها.
من الأساس، لم يكن تحطم العائلة خطأها، ولا خطأ الأب الذي تركهم وانتحر.
لكن الحقيقة أنها أضاعت فرصةً لجعل العائلة تعيش أفضل قليلاً، وهذا لم يتغير.
‘حتى لو كنتُ مظلومة، لم أستطع حقاً بيع جسدي.’
لماذا غادرتُ مسقط رأسي إذاً؟ على الأقل يجب أن أكون فخورةً أمام إخوتي الصغار الذين أتعبهم.
‘عشتُ بضراوةٍ هكذا، وبجهد هكذا. بعد موت أبي، عشتُ للعائلة فقط، والآن العائلة……’
قطع صوت خطوات الأحذية أفكارها المتواصلة.
وظهر في مجال رؤيتها المنخفض، حذاءٌ فاخر، بنطال بدلةٍ سوداء أنيق، صدريةٌ سوداء، ربطة عنق سوداء أولية، وشعرٌ أسود كئيب على رأسٍ مزعج……
كل شيء كان كئيباً.
من الصعب أن يكون شخصٌ ما وسيماً بيولوجياً ومزعجاً إلى هذا الحد.
بينما كانت أبيغيل تنظر إلى وجه الرجل بدهشةٍ وتفكر هكذا، مسحها الرجل بنظرةٍ مشككة من رأسها إلى أخمص قدميها.
“ما الذي فعلتِه بالضبط؟”
“ماذا؟”
خرج الرد قاسياً دون وعي. و فوجئت أبيغيل بكلامها فسكتت بغموض.
لكن راكييل واصل كأنه لا يبالي.
“كيف نجحتِ في شيءٍ لم أتوقعه أبداً؟”
حقاً، قدرة التكيف البشرية مخيفة.
‘بعد أن تصرفتُ بوقاحة، لم يعد يرى وقاحتي في الأمور العادية.’
“ماذا تقصد؟”
“الملكة لم تعرف شيئاً.”
عندها فقط تذكرت كلمات الملكة. “لن أتظاهر بأنني أعرف شيئاً أمام راكييل……”
فابتسمت أبيغيل.
“ذلك لأن……”
“هل وضعتِ إصبعكِ في فمكِ ببلاهة وتظاهرتِ بالغباء؟”
“صاحبة السمو الأميرة لم تكن تفعل ذلك.”
“حسناً، أنتِ لا تحتاجين إلى ذلك.”
“إلى ماذا؟”
“إلى التمثيل. أصلاً أنتِ ناقصةٌ كثيراً……”
أيقصد، ‘أنتِ غبية أصلاً فلا داعي للتمثيل؟’
كان فمه المائل ساخراً مزعجاً جداً. لكن أبيغيل لم تنجرف، بل رفعت ذقنها بكبرياء،
“نعم. بفضل التمثيل المثالي.”
“تمثيل الغباء؟”
“لا، تمثيل الابنة الحقيقية!”
“لكن الأميرة كانت طبيعية.”
مالت أبيغيل رأسها. بينما نظر راكييل إليها من الأعلى،
“قلتُ للملكة أنها طبيعية، لكنكِ استيقظتِ للتو، فكيف تبدين طبيعية؟”
“……ألا أبدو هكذا؟”
“فكري جيداً.”
“لا أعرف ما تعني!”
استمر راكييل في النظر إليها بنظرةٍ مشككة كأن الأمر مستحيل.
‘كفى. لقد جُرحت. لن أفعل. لن ألعب معكَ.’
“هل يمكن أن تنخدع الملكة؟ قلتُ أنني لن أفعل شيئً من قبل، ولم أفعل.”
“……هكذا إذاً.”
عبس راكييل كأنه اعترف بأنه شككّ قليلاً بينهما. و لم تفوت أبيغيل الفرصة، فرفعت جانب فمها كما فعل هو.
لكن وجهه سرعان ما تجمّد، فانخفض فمها تدريجياً.
“لقد بدت شخصاً طيباً، أعني جلالة الملكة.”
“ليست سيئة.”
“هل يزعجكَ قول أنها طيبةٌ فقط؟”
“لا أعرف.”
“إن قلتَ كلمةً واحدة جيداً، هل تنقلب معدتكَ؟”
“صاحبة السمو الأميرة، إذا لم تكتمي كلمةً واحدة، ماذا سيحدث لمعدتكِ؟”
“حسناً حسناً. لقد عرفت فوراً أنني لستُ هي.”
هز راكييل رأسه قليلاً بوجهٍ مرير قليلاً. لم يناسبه ذلك، و ربما كان قلقاً على “العمة”.
فنظرت أبيغيل إليه بعيونٍ غريبة.
“وجهكَ يقول أنك توقعتَ ذلك.”
“على أي حال، هذا ليس أمراً مهماً جداً.”
“كان مهماً. لها، ولكَ.”
“تركتكِ تتكلمين براحة، فأصبحتِ تقولين كلاماً وقحاً جيداً.”
قال الرجل ذلك بقسوة كأنه يقول لا تتجاوزي حدودكِ. فسكتت أبيغيل بهدوء.
هل يكره أن يُكشف قلبه إلى هذا الحد؟
“عندما غادرت، قالت فقط أنها ستفعل كما يريد ابن أخيها. على أي حال، يبدو أن الأمر انتهى بينكما جيداً من البداية. هذا يكفي.”
مهما كان، بما أن الأمور سارت كما يريد، فهو لا يهتم بالباقي. فشعرت أبيغيل بغصة دون سبب.
“لقد طلبت مني أن أصبح ابنتها.”
“…….”
“قالت أنها لا تطيق أن يختفي اسم صاحبة السمو فيوليتا من العالم.”
“هكذا إذاً.”
“اسمٌ كان مدفوناً حتى الآن، مات قبل أن يُعرف للعالم، فلا عجب أن تشعر بهذا. لكن بالنسبة لدوق إيديلغارد السابق، ولصاحب السمو ولي العهد…….مهما تراكمت المآسي دفعةً واحدة، فإن فكرة بديلةٍ للأميرة هي خيارٌ متطرف جداً بالنسبة لشخصٍ مثلكَ. بل، متطرفٌ جداً.”
نعم، لأنه “شخصٌ مثله”.
شعرت أبيغيل بالرضا لأنها شتمت راكييل ضمناً، فطبّقت شفتيها. ثم سأل راكييل بلا تعبير،
“إذاً؟”
“لماذا أصبحت الملكة متطرفةً هي الأخرى؟”
“الفرق بين الناس الذي تتحدثين عنه ليس مشكلة. على الأقل الآن.”
“……ماذا تعني؟”
“بالطبع، أنا الذي شتمتِني ضمناً، وجلالة الملكة التي قلتِ أنها طيبة، نختلف كثيراً.”
يا لهذا الشيطان.
“على الأقل، الفرق الذي تظنينه موجودٌ بالتأكيد. أنا لا أتردد في استعمال الوسائل والطرق إذا لزم الأمر، لكن الملكة مختلفة.”
“…….”
“لكننا الآن تجاوزنا مسألة طباع الناس. تجاوزنا أنني أفعل هكذا لأنني كذلك، وهي لا تفعل لأنها كذلك.”
“إذاً.”
“كل هذا بسبب الظروف.”
مع إجابة موجزة، اقترب راكييل ببطءٍ من الطاولة المقابلة للسرير، ورفع الإبريق الموضوع عليها.
صدح صوت الماء وهو يّصب في كأس شاي مزين بشريط ذهبي دقيق و رنّ في الغرفة قليلاً ثم اختفى.
ثم جلس راكييل على الأريكة باسترخاء، متكئاً بأناقة، رافعاً الكأس إلى شفتيه.
عندما تعبت عيناها من متابعة حركاته وعادتا إلى ركبتيها، فتح الرجل فمه مجدداً.
“هل تتذكرين يوم موت ولي العهد ودوق إيدلغارد السابق؟”
كأنهما لا يعنيان له شيئاً، سأل راكييل ببرود.
“بالطبع، لم يمر وقتٌ طويل…….قيل أن العاصمة كلها ثارت. كان الحرس الملكي وحرس العاصمة في كل مكان، والمدينة بأكملها تحت السيطرة لأسبوعٍ تقريباً.”
“نعم، كذلك.”
أجاب راكييل باختصارٍ كأنه يسأل عن شيءٍ لم يكن يعرفه. فنظرت أبيغيل إلى وجهه باستغراب.
كانا والده وابن عمه. كيف يسأل شخصٌ في قلب الحادثة عن شيءٍ يعرفه، و هو فقط أن العاصمة ثارت؟
كانت هي محبوسةً مع الأميرة طوال الأشهر الثلاثة الماضية. و لم يكن مسموحاً لها التواصل حتى مع الخادمات اللواتي يدخلن قصر الأميرة، وكانت صلتها الوحيدة بالعالم الخارجي بضع رسائل مرت عبر رقابة إدارة الشؤون الملكية.
بهذه الرسائل فقط عرفت هذا القدر.
ثم أمال راكييل رأسه قليلاً، و ضيّق عينيه كأنه يتذكر.
______________________
دمعت معها صدق ليه ماتعلم امها خيييير
بعدين ليه تقول ابوها ماله ذنب؟ الا الذنب ذنبه! تهرب من المسؤولية وخلا زوجته وعياله يتبهذلون لو انه حي كان يمكن تصرفوا ولا صار الي صار
صدق رخمه
المهم راكييل يضحك شخصيته واضح حنون وحبيب ويحب اهله بس بااارد يا انه تسوندري يا انه مستسلم للواقع 😔
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 6"