4
“قلتَ أنها في الثامنة عشرة، أليس كذلك؟”
“نعم.”
“وماذا فعلت طوال حياتها حتى الآن؟”
كان راكييل واقفًا أمام المكتب، يقلب الملفات بسرعةٍ غير مكترث، ثم ألقى بها فوق المكتب بتعبٍ ظاهر على وجهه.
“كايل؟”
“نعم، سيدي.”
“اقرأ.”
“حسنًا.”
وكأنه كان يتوقع منذ البداية أن كل تلك الأوراق التي جمعها رجاله على عجلٍ طوال الليل ستُعامل بهذا الشكل، أخرج كايل ملفًا آخر كان قد رتبه بنفسه، في حركةٍ تشي بثقةٍ كاملةٍ تعكس اعتداد النخبة بأنفسهم.
“أبيغيل ديلوا، تبلغ من العمر هذا العام ثمانية عشر عامًا، وقد تم تأكيد هويتها رسميًا. بدأت ديون عائلة ديلوا بالتراكم بشكلٍ غير طبيعي قبل ست سنوات، وبعد عامين فقط، وصلت الفوائد المتراكمة إلى سبعة ملايين وثلاثمئة ألف رانت. للمقارنة، كان الدخل السنوي الأصلي لإقطاعية ديلوا يبلغ حوالي مليونٍ ومئة ألف رانت، لكن بسبب الجفاف الشديد الذي استمر لسنوات في تلك الفترة، انخفض الدخل إلى ثلاثمئة وخمسين ألفًا فقط، وتم توزيع معظمها على سكان الإقطاعية، ما أدّى إلى عجزٍ ماليٍ حاد. وأخيرًا، بعد الدعاوى القضائية المتتالية، أقدم والدها، البارون ديلوا، على الانتحار بإلقاء نفسه من على أسوار القلعة. بعد ذلك، اشترت عائلة الكونت شوفِت المجاورة الإقطاعية بسعرٍ بخسٍ شمل الديون السابقة، فتم تخفيض الدين إلى مليونٍ وأربعمئة ألف رانت. غير أن هناك أمرًا لفت انتباهنا..…”
“ما هو؟”
“عند مراجعة نسخةٍ من عقد البيع، وُجد بندٌ غريبٌ في العقد. إذ أُرفقت به فقرةٌ تنص على زواجٍ بين الكونت وعائلة ديلوا، بحيث تُحلّ جميع الديون المتبقية بعد إتمام الزواج. وبما أنه لم يكن لدى الآنسة سوى إخوةٍ صغارٍ بفارقٍ كبيرٍ في العمر، فإن الزوجة المذكورة في العقد تشير على الأرجح إلى تلك الفتاة نفسها.”
كان الكونت شوفِت من نبلاء الشمال في مملكة غرانتونيا، ويمتلكون إقطاعيةً كبيرة هناك.
راكييل تذكر ذلك العجوز المنافق ذي اللحية المشقوقة إلى نصفين والذي كان يتملق كل من يقابله.
“لا تقل لي أنكَ تتحدث عن ذلك العجوز السبعيني.”
“في ذلك الوقت، كان عمر الكونت بالضبط ثمانيةً وستين عامًا.”
“لقد فقد صوابه إذًا، شيخٌ قذرٌ مهووس.”
فكّ راكييل ربطة عنقه قليلًا وجلس بتعبٍ على الكرسي.
“إذاً، هل تزوجته؟”
“لا، يا سيدي. أثناء التحضير للزفاف بعد بيع الإقطاعية، هربت العائلة كلها ليلًا.”
ما إن سمع كلمة هربوا ليلًا حتى ضحك راكييل بخفة، وكأن هذا التصرف يناسبها تمامًا.
“سيدي.…؟”
نظر إليه كايل بدهشةٍ وارتباك، متجمدًا مكانه كأنه رأى شيئًا لا يُصدق. لكن راكييل سرعان ما عبس مجددًا، فاعتدل كايل بسرعة.
“تابع.”
“بعد ذلك، انتقلت العائلة إلى العاصمة. ووفقًا لتقارير المحققين، فقد عملت الشابة هناك في كل المهن الممكنة للنساء، ماعدا الدعارة وأعمال اللهو.”
“فتاةٌ في الرابعة عشرة؟”
“نعم، سيدي.”
“وما المقصود بكل المهن الممكنة؟”
“وقّعت عقد عملٍ مع نقابة القوى العاملة، وعملت في النزل كنادلة، وفي أسواق المواشي كمرشدة، وغسلت الأواني في المطاعم، وساعدت في ورش الخياطة، وقدّمت القهوة في المقاهي، واهتمت بالعربات، ونظّفت قاعات الحفلات، ودهنت السفن، وفرزت المنتجات المعيبة في مصانع المظلات، وعملت في محاسبة مطابع الكتب، وأدارت الكتب في المكتبات، وفرزت النسخ التالفة…..إلى جانب أكثر من خمسين عملًا آخر من هذا النوع.”
“….…”
“كما عملت أحيانًا مع نقابة الخدمات المؤقتة، حيث كانت تُستأجر لأداء أدوارٍ غريبة مثل رفيقة العروس في حفلات الزفاف، أو الأخت الصغرى البديلة، بل وحتى عشيقة العريس المزيّفة لإفساد الزفاف. كما شاركت أيضًا في تمثيل دور أفراد العائلة في الجنازات. وأدت امتحاناتٍ بدل طلاب الأكاديمية أو حضرت محاضراتٍ نيابةً عنهم..…”
“لذلك إذًا كانت تبكي بتلك الطريقة المبالغ بها.”
“عذرًا؟”
“ثم أصبحت خادمةً في القصر، أليس كذلك؟”
“نعم، سيدي. مرضت والدتها فجأة، فدخلت القصر كخادمةٍ دائمة لتغطية تكاليف العلاج. وصادف في تلك الفترة وفاة خادمة الأميرة الخاصة، فأصبحت هي البديلة.”
“بالطبع، لم يكونوا ليرسلوا ابنة نبيلٍ من العاصمة إلى وظيفةٍ دائمة كهذه، خاصةً أن المنصب يتطلب ملازمة الأميرة المحبوسة مدى الحياة. لذا استغلّوا كونها مجهولة الأصل نسبيًا، وأدخلوها مكان الخادمة السابقة.”
“صحيح، يا سيدي.”
أسند راكييل رأسه إلى ظهر الكرسي وأغلق عينيه بصمت.
أيّ عملٍ عظيمٍ، لا بد أن يبدأ بالتنظيف أولًا.
فتح شفتيه أخيرًا بصوتٍ باردٍ جعل الهواء من حوله يبرد فجأة، فاستقام كايل في جلسته فورًا.
“ابدأوا بتنظيف القصر الملكي أولًا. حققوا بدقةٍ في كل مسارٍ سلكته عند دخولها إليه، وتخلصوا من كل شخصٍ ربما رآها ولو لمرةٍ واحدة. أما الآخرون، فانقلوهم جميعًا.”
“أمركَ، سيدي.”
“ذكرتَ اسم شوفِت قبل قليل، أليس كذلك؟”
“نعم، سيدي؟”
“ابدأوا بإعادة البضائع التي زوّدنا بها ذلك الكونت هذا العام إلى الدوقية، وإن كانت هناك مفاوضاتٌ تجارية جارية معه، فاستبدلوا جميع بضائعه بمنتجاتٍ من أراضٍ أخرى. الأسباب لتبرير ذلك كثيرة، فألغوا فورًا كل عقود الوساطة المتبقية. ثم اجمعوا ما لدينا من سجلات حول تهربه الضريبي في تجارته وإقطاعيته وحتى حساباته الشخصية، وجهّزوها على شكل قضية كبيرة يسهل عرضها، ثم أرسلوها إلى وزارة المالية. أما هو، فأنهوا أمره بهدوءٍ أثناء نقله إلى العاصمة.”
“مفهوم.”
قال كايل بلسانه “مفهوم” لكنه بدا مترددًا وكأنّه يرى أن ما قاله الدوق مبالغٌ فيه. غير أن راكييل لم يعره أي اهتمامٍ وأصدر أمره التالي،
“وأرسل الطبيب تيولي إلى منزل عائلة أبيغيل ديلوا.”
“الطبيب الخاص بالقصر الملكي؟”
“في أسرع وقتٍ ممكن.”
قال راكييل ذلك بنبرةٍ حاسمة كأنه لم يسمع سؤال كايل أصلًا، ثم نهض من مقعده.
كان وجهه متجمّدًا ببرودٍ قاتل يوحي بأنه لا يحتمل أي تأخير، فخفض كايل رأسه بسرعة وغادر الغرفة دون كلمة.
اقترب راكييل بخطواتٍ هادئة من جدارٍ يغطيه رفٌ ضخم مليء بالكتب في مكتبه. و راحت أصابعه الطويلة تتنقّل بين المجلدات وكأنها تبحث عن شيءٍ محدد، حتى توقفت عند كتابٍ بعنوان نهاية الذوق الرفيع.
أخرجه من مكانه ووضعه على الطاولة المجاورة دون أن يفتحه، إذ لم يكن الكتاب غايته. فقد مدّ يده إلى الفراغ الذي تركه الكتاب وضغط شيئًا خفيًا، فانفتح الرفّ العملاق ببطءٍ كأنه مشهدٌ من حلمٍ مستحيل.
وخلفه انكشفت غرفة النوم الحقيقية الخاصة بالدوق، قلب قصر إديلغارد، المكان السري الذي لا يعرفه سوى دوقات السلالة المتعاقبين، إلديرديوم.
وفي وسطها، فوق سريرٍ واسعٍ يليق بالملوك، كانت ترقد امرأةٌ لا تمتّ لإديلغارد بصلة، بوجهٍ ساكنٍ لا يعكس ذرةً من القلق رغم حالها الغريبة وموقفها المستحيل.
حين أُحضرت إلى هنا كانت شاحبةً كالثلج، تبكي وترتجف وتستجدي الرحمة قائلة أن هذا خطأ، تتوسل أن يتركوها. كان المشهد كافيًا ليثير في نفسه الضجر، فتركها بضع ساعاتٍ دون أن يقترب منها.
لكنه الآن، وقد عاد ليراها، وجدها على حالٍ لم يتوقعه.
لم تكن تبكي، ولم تكن مستيقظة، بل كانت نائمةً بعمقٍ عجيب، وكأنها في فراشها المعتاد، في بيتها لا في غرفة الدوق السرية.
تأمل راكييل نومها الساكن الهادئ، ثم أطلق ضحكةً قصيرة بلا أي دفء.
ربما عند الفجر ستقتحم عمته المكان. ستصدم، ستغضب، وربما ستفقد الأمل. لكنها في النهاية ستدرك أهمية هذه المرأة.
تلك الأهمية وإن اختلفت عن نظرته هو، إلا أنها حقيقية.
***
“أمي، حلمتُ حلمًا غريبًا.”
كان في كلام الطفلة تناقضٌ لطيف، فقد نادت أمها بأدب ثم أنهت الجملة بلهجةٍ طفولية غير رسمية.
ابتسمت الأم برقة ومسحت على رأسها بحنان. ومع تلك اللمسة الدافئة، هدأت ملامح أبيغيل وارتسمت على وجهها ابتسامةٌ مطمئنة.
كانت تشعر دومًا بالسكينة حين تلمسها أمها هكذا.
“ما الحلم الغريب هذه المرة يا أبيغيل الصغيرة؟”
“أتعلمين؟ في الحلم، فجأة ظهر في القصر رجلٌ مجنون و-”
“انهضي.”
توقفت الفتاة في منتصف الجملة ورمشت بعينيها.
هل كانت متعبةً جدًا بعد يوم طويل؟ أم أنها تسمع أصداء صوتٍ غير موجود؟
“انهضي.”
“أبيغيل، ما بكِ؟”
“لا أدري….هناك صوتٌ غريب..…”
“انهضي، أيتها الوقحة.”
وفي اللحظة نفسها، انتُزعت عنها البطانية بعنف، فانتفضت أبيغيل جالسةً دون وعي. و شهقت من شدة المفاجأة.
“كنتُ قلقًا ألا تستطيعي النوم بسبب تغير الفراش..…”
“….…”
“لكن يبدو أنكِ نمتِ نومًا عميقًا جدًا.”
“…..هذا مستحيل.”
الرجل الذي ظهر في حلمها قبل قليل…..لماذا هو في غرفتي؟ لا، أين أنا أصلًا؟
تمتمت أبيغيل بذهول وهي تدير عينيها في أرجاء المكان.
“سموكِ.”
هذا حلم، أليس كذلك؟ لا بد أنه حلم! أم أنني…..استيقظت من حلمٍ داخل حلم؟
أبيغيل أغمضت عينيها بقوة ثم فتحتهما مجددًا، لكن المشهد أمامها لم يتغير قيد أنملة.
فتمتمت لنفسها بارتباك،
“هل…..هذا حلم؟”
“على الأقل الآن، من المؤكد أنه ليس حلمًا. يجب أن تنهضي يا سموكِ.”
“…….”
“من المفترض أن تري الشمس في كبد السماء الآن.”
أي شمسٍ يتحدث عنها؟ لا يوجد هنا حتى نافذةٌ واحدة.
بدلًا من ذلك، أخرج الرجل ساعةً من جيبه ومدّها نحوها بعصبية. وكانت الساعة تشير إلى الواحدة.
“آن، في الواقع، الشمس لا تكون في أعلى السماء تمامًا عند الواحدة بل..…”
نقر الرجل بأسنانه المشتدّة قليلًا، ثم رسم ابتسامة متكلّفة و ردّ بسخريةٍ مهذبة،
“آه، خطئي. لقد تأخرتِ عن الموعد بنصف ساعةٍ بالضبط.”
لكن أبيغيل لم تكن تصغي بعد الآن.
كانت منشغلةً بالإحساس الغريب الذي يزحف في ذراعيها منذ لحظة. وفجأة تجمّدت، وانحبس نفسها.
ارتجف جسدها كله من قشعريرةٍ حادة اجتاحتها من الرأس إلى القدمين.
“لِـ…..لماذا تتحدث إليّ بلغةٍ رسمية؟”
“أأجرؤ على مخاطبة سموّ الأميرة بغير الاحترام الواجب؟”
“يا إلهي…..لا تقل أنكَ تقصد ذلك حقًا!”
“وهل تظنينني أمازحكِ؟”
قال الرجل ذلك بنفاذ صبر، ثم جلس على الكرسي خلفه بحركةٍ حادة.
“هذا لا يُصدَّق..…”
“ربما ستأتي الملكة اليوم. لا، بل من المرجّح أن تصل فجر الغد بالضبط.”
“ستعرف الحقيقة من أول نظرة!”
لكن الرجل تجاهل احتجاجها تمامًا، ومضى في حديثه الهادئ،
“وفق ما انتشر بين الناس، فقد قيل أن الحريق الذي اندلع في جناح الأميرة كان حادثًا مدبّرًا، وإنكِ الآن في مأمنٍ هنا. والجميع يظن أنكِ…..متِّ.”
“لا تقل لي إن خبر وفاتي…..وصل إلى البيت؟”
هذا مستحيل! لم يكن الأمر ليحدث بهذه السرعة…..
أمها كانت لا تزال في مرحلة العلاج، ولو وصلها الخبر فجأة فقد لا تتحمل الصدمة…..
“في الظروف العادية، نعم، كان سيُعلن فورًا. لكنني أوقفت الأمر مؤقتًا. على أي حال، بما أن الحريق أصبح حديث العاصمة، فحتماً سيطلب أهلكِ التحقق من نجاتكِ.”
تنفّست أبيغيل قليلًا بارتياح.
على الأقل مؤقتًا. فوالدتها المريضة لم تكن تغادر المنزل منذ إصابتها، وإخوتها ما زالوا صغارًا ولا يعرفون شيئًا عن العالم الخارجي، لذا فلن يسمعوا بالخبر إلا من المربية…..
والمربية لن تجرؤ على نقل شيءٍ كهذا إلى العائلة دون يقين.
ولكن مع ذلك…..
________________________
اعترف اول ما اخترت الروايه وشفت الغلاف حسبتهم باردين عاقلين بدون شي بس البطل مجنون يضحك ماتوقعت😭
وهي كانت تمثل عليه وتصارخ لا خلني والحين راقده زي الورعه على فراشه🤏🏻
المهم مره عاجبتني يارب تقعد على ذا الرتم✨
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 4"