سألت لويز ببراءتها المعتادة. و صمت إيكارت قليلًا، كأنه ينتقي ألفاظه، ثم أشار إليها لتقترب. فسارت نحوه بلا مقاومةٍ تقريبًا.
“ماذا يفعلان.…؟”
تمتمت فيوليتا بشك، لكنهما لم يلتفتا إليها وبدآ يتبادلان الهمسات. وكان احمرار وجه لويز المتزايد أمرًا لا يُطمئن إطلاقًا.
“حسنًا، لننطلق.”
“أيّ انطلاق؟ إلى أين سأذهب أنا معكَ؟”
“تفضّلي يا سموك. لا تقلقي ما دمتُ معكِ.”
معكَ؟ هذا بالذات ما يدعو للقلق!
“الآن يجب أن تخرجي فعلًا للاستمتاع بالمهرجان.”
***
“لا بد أنني فقدتُ عقلي.”
تمتمت فيوليتا، وكان الوقت متأخرًا جدًا لتقول ذلك بعد أن غيّرت ملابسها كما طُلب منها، وركبت عربةً بعد أخرى دون مقاومة تُذكر. لكنها لم تستطع فعل شيءٍ الآن.
كان إيكارت يعطي التعليمات للسائق، ثم التفت فور سماعه كلماتها الساخرة. و ألقى نظرةً نحو النافذة الصغيرة التي لا تُظهر إلا مؤخرة رأس السائق، ثم أغلقها.
“تبدين في كامل وعيكِ.”
“وتركتُ لويز وحدها. لا بد أنني جننت.…”
“هل هناك ما يدعو للقلق بشأن الآنسة موندريول؟”
“وهل يبدو أنه لا يوجد؟”
“…….”
لم يجد إيكارت ما يقوله، فأومأ برأسه فقط. فمن وجهة نظره، تلك الفتاة ذات الستة عشر عامًا فتاةٌ طيبة بلا شك، لكنها ليست ممن يمكن الاعتماد عليهم مطلقًا.
فابتسمت فيوليتا بتهكمٍ لطيف، ثم أكملت بقلق.
“لو تتمكن لويز من التحدث أولًا مع ميلويلا أو ديانا لكان أفضل.”
“لم يكن خروجنا من هناك مشكلة أبدًا.”
“الخروج ليس مشكلة.…”
حقًا، لم يكن أحدٌ يراهم بشكلٍ غريب.
فمع أن الشائعات والتكهنات لم تغب، إلا أن رؤية الابن الأكبر لبيت بيرون يرافق الأميرة الخامسة لم تكن أمرًا غير مألوف. بل أن استغراب ذلك كان هو غير المألوف.
كان بينهما تواصلٌ رسمي عبر دروسهما، لذا خروجهم معًا لم يثر الريبة.
المشكلة لم تكن في الخروج….بل في أن آخر من رأوها هي لويز عديمة الاطمئنان.
“لم تحدث أي مشكلةٍ بالفعل.”
“ومع ذلك؟”
بل كانت المشكلة أنها هي — فيوليتا — خرجت من الأساس.
فما فعلته اليوم هو أول خروجٍ لها عن خطة راكييل وإرادته.
صحيحٌ أن إيكارت ظل يدفعها للخروج، ولويز تُحفّزها بلا توقف، وقد اعترفت لنفسها أنها بدأت تميل فعلًا….
وبصراحة؟ كانت ترغب قليلًا في اللهو. وبعد كل التزامها حتى اليوم، ألا تستحق قليلًا من التحرر؟
بل أليس من الطبيعي أن يقوم المرء مرةً واحدة على الأقل بشيءٍ خارج القواعد كي يشعر بأنه إنسان؟
بدأت فيوليتا تبرر لنفسها دون قصد. وتخيلت عيني راكييل الغاضبتين تشتعلان وخلفهما جحيمٌ كامل، فحاولت تجاهل ذلك القلق.
والحقيقة أنها لم تكن تريد الرجوع إلى القصر وهي على هذه الحال.
و لو عادت مع راكييل كما كان مقررًا، لكانت مشاعرها مشتّتةً تمامًا، ولكان وجوده يكفي لينسيها كل ذلك.
إذاً….فالذنب ذنبه لتركه لها تلك الثغرة. وقررت فيوليتا أن تلقي اللوم عليه لتخفيف قلبها قليلًا، ولو لوقتٍ قصير.
فابتسمت بارتخاءٍ وأجابت.
“لا بأس. أنا بخير.”
“يسرّني أنكِ بخير.”
“لكن….إلى أين نحن ذاهبان الآن؟”
رغم ظلام العربة وعدم قدرتها على رؤية الطريق، شعرت فيوليتا أنهما ابتعدا كثيرًا.
ومع أنها تعرف جيدًا إلى أين يذهبان — فالمكان الوحيد المنطقي لمن أراد الاستمتاع بليلة الملكة إينّوما هو السوق الليلي — فتظاهرت بالجهل وسألت.
وكان الجواب واضحًا. كانت أشهر معالم مهرجان الملكة إينوما لا تقتصر على أوبرا ليلة المهرجان فحسب.
وكانت الطقوس التي تقدّمها نساء العائلة الملكية في اليوم الأول من الاحتفال تتسم بضخامةٍ جعلت اسمها ذائعًا، كما كان موكب الملوك والقدماء الذي يجوب أوسع شوارع العاصمة كل ظهيرةٍ ويترك مشهدًا فريدًا.
وكانت حفلات التنكّر الكبيرة والصغيرة، بملابس القدماء، تُقام في كل زاويةٍ طوال المهرجان، بينما اشتهرت بطولة الفروسية التي يشرف عليها الملك بنفسه تكريمًا لابن الملكة إينوما الشجاع كاليفالا بكونها تقليدًا عمره قرنان.
غير أنّ الأشهر بينها جميعًا كان السوق الليلي الضخم الممتد من ليلة المهرجان حتى آخر ليلةٍ فيه.
“إننا نتجه إلى شارع فيزن الشرقي.”
ردّ إيكارت بجوابٍ مقصود الالتفاف، وقد بدا واثقًا من أنها لن تعرف ما يعنيه.
فذلك الشارع هو المكان الذي يبلغ فيه سوق مهرجان إينوما الليلي ذروته، كما أنه يبعد تمامًا عن الأحياء الخارجية التي عاشت فيها.
فسألت متظاهرةً بالجهل،
“شارع فيزن الشرقي؟”
“عندما يحلّ مهرجان الملكة إينوما، يصبح ذلك المكان أكثرها صخبًا.”
ورغم أنه كان أمرًا متوقعًا، لم يمنعها ذلك من الشعور ببعض الترقّب. فقد عاشت أربع سنوات في العاصمة دون أن تقترب من ذلك المكان في أيام المهرجان، وكذلك عائلتها.
ولم يكن لها، بوصفها مجرد مستخدَمة بسيطة طوال أكثر أيام السنة ازدحامًا، أن تتجول بطمأنينةٍ في ذلك المهرجان الباذخ.
ولم يخطر لها أن تفعل، وحتى لو خطر، لما رغبت بذلك أصلًا. فمهرجان إينوما كان يوفر أفضل الأجور في العام، لكن مقابل عمل يبدأ قبل الفجر وينتهي بعده، وعشرة أيام وليلتين من إنهاكٍ يجعل بضع دقائق للغذاء نعمةً تُفضَّل عليها النوم.
وبالتفكير في الأمر، أدركت أنها تزور السوق الليلي لأول مرةٍ حقًا.
ثم رفع إيكارت الستارة قليلًا ليتأكد من الخارج.
“لقد أوشكنا على الوصول.”
“لكن، يا لورد….لو.”
“نعم؟”
“لو لم يكن اليوم ممتعًا، كيف ستعوّضني؟”
يبدو أن التزامها المفاجئ بالمجيء جعله لا يتوقع سؤالًا كهذا، فاحتفظ بابتسامته وهو ينتقي كلماته.
“هل تودّين وضع شرطٍ ما؟”
“نعم.”
“وما يكون؟”
“أولًا، إن استمتعتُ اليوم فالنصر لكَ، وإن لم أستمتع فستخسر.”
“…..وكيف يكون هذا رهانًا وهو غير متكافئ؟”
“يكفيني أنني جئتُ أصلًا، ولن أبذل جهدًا أكثر.”
ردّت فيوليتا بوقاحةٍ لطيفة. فسألها إيكارت بوجهٍ فيه شيء من الذهول،
“وإن خسرتُ، ماذا سيحدث؟”
“تتوقف عن إثقال صدري.”
“هل أكوّن عبئًا عليكِ؟”
ولم يكن يبتسم هذه المرة. فتوقفت فيوليتا لحظةً تنتقي كلماتها، ثم ردّت باختصار،
“نعم.”
فعاد إيكارت ليبتسم بسهولةٍ عجيبة، كأن جديته العابرة لم تكن موجودةً أصلًا.
“وإن فزتُ أنا؟”
“قلتُ أنني لن أفعل شيئًا، لذا من البديهي أن-”
“أن أتابع كما كنتُ، أليس كذلك؟”
فهزّت رأسها موافقةً رغم شعورها بأنها انزلقت دون قصد.
“نحتاج إلى معيار.”
“أيّ معيار؟”
“أنا الطرف الأضعف في هذا الرهان.”
“أنتَ الطرف الأضعف؟”
‘بذلك الجسد؟ يا لها من طرفة…..’
تمتمت فيوليتا في سرها، لكنها هزّت رأسها بضجر.
“لذا أحتاج إلى حدٍ أدنى يحميني. فالرهان ينتهي لو استمتعتِ كثيرًا ثم ادّعيتِ العكس بكلمةٍ واحدة.”
“إذًا أنتَ لا تثق بي، أليس كذلك؟”
“وما عساي أفعل غير ذلك؟”
“إذًا….”
“خمس مرات.”
نظرت فيوليتا إلى إيكارت باندهاش.
“خمس مرات.”
“ما الذي تقصده بخمس.…؟”
“إن ضحكتِ خمس مرات، سأفوز أنا.”
ولم يكن ذلك أمرًا يصعب عليها احتماله، فهزّت رأسها بثقةٍ وهي تتقبّل شرطه عن طيب خاطر.
‘أيعقل ألا أحتمل مجرد خمس مرات؟’
***
كانت العربة التي ركباها للمرة الثانية عربةً سوداء قديمة وعادية، أما الفستان الذي ارتدته فيوليتا فكان أنيقًا لكنه من الطراز الذي تشتهر به بنات طبقة الجنرال للهو والسهرات الصيفية.
وكذلك غيّر إيكارت ملابسه إلى زيّ أنيق بما يكفي ليبدو كأحد أبناء الجنرال الأثرياء.
لذلك لم يكن نزول شابٍ وفتاة بملابس مهندمة من عربةٍ عادية شيئًا يثير الانتباه في هذا المكان، وسط الأزقة المظلمة التي تصطف فيها العربات السوداء على جانبي الجدار، فيما يتحرك أناسٌ يشبهونها بحماسةٍ نحو الداخل.
عندما نزلت فيوليتا من العربة ارتدت الرداء الصيفي الذي ناولها إياه إيكارت، وكانت أطراف أصابعها التي تشدّ الرداء مبتلّةً قليلًا من التوتر.
ثم مسحت المكان بنظراتٍ متيبّسة قليلًا. ورغم أن هذه المنطقة أبعد ما تكون عن أطراف العاصمة التي عاشت فيها، لم تستطع طرد قلقها تمامًا.
ومع أن آخر يوم من الربيع لم يكد ينقضي بعد، كانت فساتين النساء قد دخلت صيفها المبكر، وكانت ظهورهن البيضاء تلمع بين بقع الظلام.
“الصيف. أجل، لقد حلّ الصيف.”
تمتمت فيوليتا بمرارة.
كانت هذه أول مرة تطأ فيها قدماها أرضًا خارج القصر منذ شتاء دخولها إليه. مكانٌ ليس بقصر العائلة الملكية ولا بقصر الدوق، بل شارعًا يعبره الناس العاديون ببساطة.
فأخذت نفسًا طويلًا. و تسللت برودة الليل الخفيفة إلى صدرها.
‘ربيعي….لم يبقَ منه شيء.’
و استوعبت فيوليتا ذلك بشعورٍ غير مريح.
“الآنسة ريتا؟”
ناداها الرجل باسم فتاةٍ عادية يمكن أن نجد واحدةً منه كل عشرين بيتًا، الاسم الذي ابتكره إيكارت وفرضه عليها قبل نزولهما من العربة.
ومع سماع اسمها المزيّف، انسابت فيوليتا بعيدًا عن شرودها.
واقتربت كتلة الأضواء الساطعة شيئًا فشيئًا، وازداد صخب الشارع ارتفاعًا.
كان هذا الضجيج مألوفًا لها يومًا ما. وكلما اقتربت، ازداد نبضها سرعة، وتبدّد قلقها تدريجيًا.
وبعد دخولهما السوق الشعبي، ظلت فيوليتا واقفةً في وسط الطريق مسلوبة الذهن.
كان الطريق الذي لا يُرى آخره مزداناً بفوانيس صفراء كبيرة وصغيرة معلّقة أمام كل دكان، بينما ارتفعت الفوانيس الطائرة التي أطلقها الناس في أرجاء الشارع تسبح في السماء كنجوم الليل.
_____________________
معليه المؤلفه خليس كذا معطيه مومنتات حلوه مع الطرف الثالث ثمين في الاخير خلي كللل المومنتات مع راكييل تكفيييييييييين
بس ايكارت مره حلو حرام يصير طرف ثالث وابيغيل مره تجنن ابيها مع راكييل اكيد علاقتهم عاجبتني بس ايكارت كاسر خاطري😭
التعليقات لهذا الفصل " 34"