في اليوم التاسع والتسعين من الربيع، ومع اقتراب نهاية الفصل الأول من العام، بدأت أكثر عشرة أيامٍ صخبًا في غرانتونيا.
انفجرت الألعاب النارية الضخمة التي تعلن انطلاق ليلة ما قبل مهرجان الصيف، فزخرفت سماء العاصمة بألوان رائعة.
كان ذلك إيذانًا ببدء مهرجان الصيف الذي يُقام تكريمًا للملكة إينوما الأولى، أولى الملوك في الأساطير القديمة لغرانتونيا، و الأم التي فتحت العالم للمملكة.
العامة يستقبلون هذا الاحتفال بعروضٍ مسرحية تقام في المسارح الكبيرة والصغيرة، بينما النبلاء يفتتحونه بحضور أوبرا الليلة الافتتاحية في المسرح الملكي.
وكانت فيوليتا تجلس في مقدمة أولئك النبلاء.
“كاليفالا!”
على إيقاع النغمات التراجيدية للأوركسترا، ارتفعت صرخة بطلة الأوبرا الأولى، السوبرانو، تغني وكأنها تنتحب.
تساقط غبارٌ لامع بلون الماء من سقف المسرح، كدموعٍ الملكة إينوما نفسها.
بدأت دموعها، التي فقدت ابنها كاليفالا، تتساقط بلا نهاية حتى صنعت مجرى مائيًا. تحوّل ذلك المجرى إلى نهر، ثم إلى بحر. وارتفعت على خشبة المسرح أمواجٌ من حرير أزرق تتماوج ببراعة.
توالت ابنتها آريا الحزينة، تزداد ارتفاعًا رويدًا رويدًا، فيما كانت نغمات الأوركسترا تشتدّ وتنتفخ كالأمواج وهي تملأ المسرح.
وفي قمة ذلك الانفعال، ألقت السوبرانو بنفسها داخل أمواج الحرير، وكأنها تُبتلع بدموعها التي تحولت إلى بحر. تلا ذلك كورال، يرنّم بأسى: “أمي….يا أمي الجميلة!”
“لا تقولي أنكِ تبكين، أرجوكِ؟”
على الصوت المنخفض المندهش بجانبها، مسحت فيوليتا دمعةً انسابت على خدها ونظرت إلى راكييل بنظرةٍ حانقة.
‘دائمًا ما يفسد اللحظة….يا لِجفاف هذا الإنسان.’
“إنها مؤثرةٌ جدًا….”
لكنّه بالتأكيد ليس مضطرًا لتحطيم تركيزها بهذا الشكل. فرغبت في الردّ عليه بقسوة، لولا آذان الناس من حولهما، فاكتفت بأن تردّ بصوتٍ مرتجف صغير.
رفع راكييل شفتيه في ابتسامةٍ ساخرة. فأخرجت فيوليتا شفتيها بضيق، ثم مدّت يدها وسحبت منديلًا من جيب سترته الأمامية خلسة.
كانت أصابعها البيضاء تشدّ عليه بقوة، بينما راكييل يراقبها بلا مبالاة قبل أن يربت على يدها بخفة ويتحدّث بسخرية،
“كيف لسموّك أن تستعملي ممتلكات الآخرين وكأنها لكِ؟”
فتجهمت فيوليتا، ثم تركت المنديل.
‘يا له من رجل بخيل—منديل فقط ويثير كل هذا؟’
هي أيضًا تعرف تمامًا أنه يكره رؤية النساء يبكين، وإذا استمرت بالبكاء قليلًا سيبدأ في توبيخها، فرفعت يدها بعشوائية لتمسح دموعها.
لكن فجأة….شعرت بملمس قماشٍ ناعم على خدها وعينيها المتورمتين. فاتسعت عيناها. و كان راكييل، بابتسامةٍ جانبية مائلة، يمسح دموعها بنفسه.
“عادةً، السيدات في مثل هذه اللحظات يستعنّ برجالهن.”
همسه المنخفض العميق جعل نبضها يسرع دون قصد.
كانت تعرف أنه يتصنّع فقط أمام الناس، ومع ذلك شعرت بحرارةٍ خفيفة في وجهها. لا بد أنه بسبب حرارة القاعة….بالتأكيد.
ابتسم راكييل عندما رأى احمرار خديها، ثم أعاد طيّ المنديل ووضعه في جيبه.
وعندما أعادت نظرها إلى المنصة، كان الفصل الثالث قد انتهى بالفعل. و خرجت السوبرانو من أمواج الحرير بوقار، مبتسمةً ببهاء وهي تنحني للجمهور.
نهض الملك واقفًا، فنهض الناس خلفه كأمواجٍ تتلاحق. ودوى التصفيق معهم.
غمرت القاعةَ عاصفةُ التصفيق التي تُعدّ أعظم وسامٍ يمكن أن تهديه العائلة الملكية لنجمة هذا العرض.
وكان ذلك نجاحًا باهرًا للمخرج، ولمدير المسرح كذلك.
“الأداء رائعْ جدًّا هذا العام. أخبروا قائد الأوركسترا أن يكافَأ كما يستحق. ويمكن أن نلقبكِ دون تردد بأعظم سوبرانو في غرانتونيا.”
“إنها نعمةٌ منكَ، يا صاحب الجلالة.”
تتابعت كلمات الملكة و محظيات الملك بعدها. و عندما انتهت كلمات الزوجة الرابعة، إلويز، كانت فيوليتا لا تزال واقفةً بصمت، تنتظر دورها، فاقترب منها بيلكيرس وقادها.
“أخي؟”
سألت فيوليتا، وهي تنظر إليه باستغراب، فابتسم بيلكيرس وهمس لها،
“الدور لكِ قبل الجميع.”
وألقى نظرةً جانبية خفيفة نحو فاساكاليا، و مدّت فيوليتا نفسًا صغيرًا، فهي رغم انزعاجها من صرامة ترتيب المراتب، إلا أنه لا يبدو متضايقًا على الإطلاق.
وقفت فيوليتا أمام السوبرانو، و تبادلت معها نظرةً قصيرة، ثم تحدثت ببطء،
“لقد كنتِ رائعة. و….مؤثرةً فعلًا.”
اتسعت عينا المغنية قليلًا بدهشة قبل أن تبتسم بسعادةٍ وهي ترفع طرفي عينيها برقة.
كانت فيوليتا قادرةً على تقليد الكلمات المنمقة التي قالها الآخرون، لكنها لم ترغب بذلك. لقد تأثرت حقًا، وكانت المغنية جميلةً فعلًا في أدائها.
ومن الطبيعي أن أميرةً قضت حياتها كلها حبيسةً لن تبدو خبيرةً بالأوبرا وهي تشاهدها للمرة الأولى.
في الحقيقة، حتى كأبيغيل، كان هذا أول عرضٍ افتتاحي للملكة إينوما تحضره، فأُخذت به بصدق.
“أشكركِ بعمق، يا صاحبة السمو….الأميرة الخامسة.”
“لا تبدين بهذا العمر الكبير، فكيف تمكنتِ من التمثيل هكذا؟ لا بد أن التعبير عن ألم أمٍ فقدت طفلها لم يكن أمرًا يسيرًا.”
“حتى لو كنتُ صغيرة في السن، فالأم تبقى أمًا.”
ردّت المغنية بابتسامةٍ هادئة على سؤال فيوليتا.
كانت تبدو في أوائل العشرينات بالكاد. ولأن ممثلات الأوبرا يتزوجن عادةً في سنٍ متأخرة، سألتها فيوليتا بدهشة.
“يا إلهي، ألكِ أطفالٌ فعلًا؟”
“بالطبع. لدي ابنتان. الكبرى تبلغ الرابعة الآن، أما الصغرى….لو كانت ما تزال على قيد الحياة لكانت قد أتمّت عامها الثاني.”
“آه….أنا آسفة، كان سؤالي في غير محله.”
“لا عليكِ. لقد انتقلت الصغيرة إلى مكانٍ أفضل العام الماضي.”
قالت المغنية ذلك وهي تضحك بخفة، وكأنها تؤمن بذلك من أعماق قلبها.
عندها فقط أدركت فيوليتا العمق المتخفي في عينيها المشرقتين. عمقٌ لا يملكه إلا من نهض بعد أن سقط في اليأس. وعمق الألم الذي اجتازته.
فشعرت بحرارةٍ تختنق في حلقها. وبصوتٍ خافت باركتها.
“سأدعـو لكِ أن تقفي على هذا المسرح في العام القادم أيضًا.”
“شكرًا لكِ.”
‘أمي….أمي هي أيضاً….ماذا حدث لها يا ترى.’
لم تعد تسمع ما قاله بيلكيرس بعدها جيدًا. فأطبقت شفتيها المرتعشتين وحاولت ابتلاع ريقها بصعوبة.
كان حلقها يؤلمها وكأن شوكًا نما فيه.
قيل أن الملكة إينوما، حين قُتل ابنها ظلمًا، زارت بحار العالم لتملأ بها دموعها، ثم لم تحتمل حزنها، فقفزت أخيرًا في البحر الذي صنعته بدموعها.
إن كان هذا فعلًا معنى ألم الأم الثكلى….فإن الألم الذي تتحمله أمها الآن يفوق ما تستطيع تخيّله.
‘ليتها، يومًا ما، تصبح بخيرٍ مثل هذه المرأة.’
لو كان ذلك ممكنًا، لكان خيرًا للجميع. لكنها لم تكن امرأةً قوية مثلها.
طوال السنوات الأربع التي قضتها في العاصمة، لم تتوقف والدتها يومًا عن اجترار ألم فقدان زوجها. والآن ازداد عليها وجع ابنتها أيضًا.
لتمتمت فيوليتا بمرارة في نفسها. مع ذلك، كانت قد اتخذت أفضل قرارٍ ممكن.
قرارٌ لا يترك حبة رمل واحدةٍ للحسرة.
كان أمرًا لا مفر منه. ففي غرانتونيا، كان من المعتاد أن يُعدم الخائن أمام أسرته. فبدلًا من أن ترى والدتها ابنتها تُعدم أمام عينيها،
وبدلاً من أن تعيش حياةً بائسة كعائلة خائنة، ألا يكون أفضل لها أن تفقد ابنةً واحدة وتعيش بقية حياتها في نعيمٍ وراحة؟ فعضّت فيوليتا شفتها بقوة.
‘والمؤلم حقًا، هو أنني ما زلتُ على قيد الحياة هكذا. أنا موجودةٌ في هذه الدنيا، بينما تظن أمي أن ابنتها ماتت، وتمزقها الحسرة…..’
كان هذا ما يكسر قلبها حتى الجنون.
‘لو أمكنني فقط أن أخبرها أنني ما زلت حيّةً في مكان ما….’
لكن كل ذلك مجرد أمنياتٍ عابرة.
قبضت فيوليتا يدها بقوة. و رفعت رأسها فيما ارتجف ذقنها قليلًا. وقد كان راكييل ينظر إليها بعينيْن يستحيل فهمهما.
ثم رفعت فيوليتا شفتيها بابتسامةٍ هادئة. بينما كان راكييل يوشك أن يقول شيئًا حين تحركت شفتاه، لكنه تحدّث باقتضاب.
“لنذهب.”
أمسكت فيوليتا بيده مبتسمة، كأنها محبوبةٌ تُسرف في الدلال.
وحين بدأ مخرج المسرح يبدو بين الحشود المتزاحمة، ظهر كايل مسرعًا من الجهة المقابلة نحو راكييل. و توقف بانزلاقٍ خفيف، وانحنى سريعًا أمام فيوليتا، ثم سلّم راكييل مذكرةً صغيرة.
“رسالةٌ من الكونت ماير.”
تسلّم راكييل المذكرة، قرأها بسرعة، ورمش بضع مرات. ثم دفعها إلى كايل بضيق.
“مزعج.”
التفت قليلًا ينظر إلى شيءٍ ما، ثم نقر لسانه بامتعاض.
“ما الأمر؟”
“لا شيء مهم. سيخبر كايل الوصيفات، فانتظري قليلًا.”
“وأنتَ؟ ألم نقرر أن نعود معًا؟”
“عليّ الذهاب إلى مكانٍ ما بسرعة. لا تتجولي بحثًا عن الآنسة نيثن أو الآنسة ماير، فقط ابقي هنا بهدوء.”
“ما بكَ؟ هل أنا طفلةٌ بنظركَ؟”
ردّت فيوليتا ببرود، فابتسم راكييل ووضع خصلة شعرٍ سقطت قرب أذنها خلفها. و كانت أطراف أصابعه الباردة تلامس خدها.
وقد حدقن النساء المارات فيه بإعجاب، مما أزعجها قليلًا. فدفعت كتفه بخفة كأنها تودعه.
“أنتَ مشغول، اذهب. سأعود بمفردي.”
“آه، هناك….”
لم يكمل حديثه حين لمح لويز تقترب بابتسامةٍ مشرقة. أو بالأحرى، كان يظن أن الوصيفات قادمات لكنه رأى لويز وحدها، فاختفت البهجة من وجهه للحظة.
ثم تدارك نفسه وابتسم برقة، وقبل أن تقترب أكثر، اختفى مصطحبًا كايل معه.
‘يا لسرعته.’
حدّقت فيوليتا في ظهره الذي ابتعد، ثم التفتت حين شعرت بوجود أحدهم يقترب منها.
“أغادر سمو الدوق؟ كنت أود سؤاله في هذا المرة تحديدًا!”
“طرأ أمرٌ عاجل.”
“فهمت. يبدو أن الأخوات مشغولاتٍ بتحية عائلاتهن. أما أنا فقد جئتُ لأن والدي ناداني!”
‘والدكِ ناداكِ….فلماذا جئت إذاً؟’
لكن عيني لويز المستديرتين كانتا تلمعان كأنها تنتظر مديحًا، فاكتفت فيوليتا بابتسامةٍ صغيرة وربّتت على كتفها.
صار المكان مكتظًا أكثر فأكثر، فالتفتت فيوليتا حولها بضيق، ثم بدأت تتحرك ببطء.
“إلى أين تذهبين، يا سموك؟”
“الجو هنا خانق. لسنا أطفالًا حتى يعجزوا عن إيجادنا لو وقفنا قليلًا قرب المخرج.”
وما إن خطت بضع خطواتٍ حتى توقفت فجأة. فقد استقر بصر فيوليتا على طفلةٍ صغيرة مرّت بجانبها. كانت طفلةً شديدة اللطافة.
تحت تنورتها الوردية المطرزة بالدانتيل الرقيق، كانت قدماها الصغيرتان تركضان بخطواتٍ قصيرة كأنهما تلحقان بأمها.
لكن حين عجزت عن اللحاق بها رغم هرولتها، نادت بصوتٍ صغير وحذر. فاستدارت والدتها فورًا لتنظر إليها.
وانخفض بصر فيوليتا ببطءٍ تتبعها. من عيني الأم اللطيفتين المنحنيتين نحو طفلتها، إلى ابتسامتها الهادئة، إلى كتفيها المنحنيين نحوها، إلى يدها التي امتدت برفق.
لامست يد المرأة رأس طفلتها قليلًا ثم انخفضت شيئًا فشيئًا نحو يدها الصغيرة. و حدقت فيوليتا في أطراف أصابع المرأة وهي تلتقي بيد طفلتها.
ظنت حقًا أنها بخير….لكنها لم تكن كذلك. فالقلب الذي ظلت تجمع شتاته بصعوبة، تفتت فجأة مثل رمالٍ انسلت من بين أصابعها.
كانت هناك حرارةٌ مكبوتة طوال الأوبرا ترتفع الآن مع مشهد الأيادي المتشابكة.
احمرت عيناها بحرارةٍ لا يمكن كبحها. و خشيت أن يلحظ أحدٌ ضعفها، فاستدارت مبتعدةً بخفوت.
سمعت لويز تقول شيئًا إلى جوارها، لكنها لم تستوعبه. و تابعت فيوليتا السير كما هي.
أومأت فيوليتا برأسها دون تفكير لتحية إيكارت. وحين التقت عيناها باللون الأخضر المزرق الغريب، ارتجفت قليلًا وتراجعت خطوة.
لحظتها فقط شعرت أن شيئًا قد انكشف. وما إن ابتعدت خطوةً حتى انخفض رأسها مجددًا إلى موضعه الطبيعي بعد أن كانت رفعتْه بسبب قرب المسافة.
رمشت فيوليتا بعينيها مراتٍ عدة محاولةً إخفاء اللمعة التي تجمعَت فيهما، بينما تحاول لملمة نفسها.
وقد ثبتت عينَا إيكارت عليها طويلًا، تستقران تحديدًا على عينيها المحمرتين، قبل أن يعود بصره إلى تلك النظرة الهادئة المهذبة. فأحسّت فيوليتا براحةٍ خفيفة دون أن تعرف السبب.
________________
ياعمري هي تذكرت امها😔 صدق ليه بس ماتعلمها انها حيه؟ ولا مايبونها تكشف ذا الشي لو بالغلط؟
المؤلفه ظالمتها حتى وقت السرد وهي تشتاق لأمها تقول فيوليتا كأن ابيغيل صدق مب موجوده😔
المهم ليت راكييل معها ليه الحين راح للللييييييييييييه
انا عارفه ذاه حظ بطلات رواياتي البطل يجي في الأخير
التعليقات لهذا الفصل " 33"