كانوا جميعًا يبتسمون بسعادة. وكانت أبيغيل أصغر بكثيرٍ مما هي عليه الآن، تجلس على الأريكة وقد وضعت جرواً صغيرًا في حجرها، تضمه بقوة بينما تحدّق في ذلك المشهد.
أبيغيل، لا….بل فيوليتا، خفضت رأسها ببطءٍ تحدّق في حجرها الخالي، الذي لم يبقَ عليه سوى قفازٍ واحد.
وعلى طرف فستانها الوردي الفاخر، كانت أصابعها التي طالت كثيرًا منذ ذلك الوقت مرتخيةً بلا حياة.
‘ما كان اسم ذلك الجرو؟ لم أعد أتذكر.’
ذلك الجرو ذو الفراء الأبيض الناعم كالقُطن، الذي لم يمضِ شهرٌ على تربيتها له حتى مات بجانبها و هي نائمة.
في التاسعة بكت عليه ثلاثة أيامٍ كاملة، أما و هي في الثامنة عشرة فلم تعد حتى تتذكر اسمه.
‘لم أكن أجيد الاحتفاظ بالذكريات السيئة طويلًا.’
الذاكرة عبثيةٌ إلى هذا الحد، فلماذا تبقى أجمل اللحظات حاضرةٌ و كأنها قريبة لدرجة أنني أكاد ألمسها؟
يا للحماقة.
حتى و هي تجلس وسط مطبعة يغمرها الغبار، كانت تفعل الأمر نفسه.
كانت تزيح الغبار الرمادي من أمام عينيّها، و تلصق على الجدران السوداء ورقًا جميلًا، و استبدلت الآلات القاسية بأثاثٍ أنيق، و تضع هناك واحدةً من أسعد لحظات عائلتها.
لحظاتٌ لا يمكن إعادتها ولا العودة إليها، لكنها كانت تطفو في ذهنها رغمًا عنها.
ثم، حين ينجلي ذلك الحلم الدافئ الخاطف، تجد نفسها من جديدٍ وحيدةً وسط الغبار.
‘يا للغباء. يا للسذاجة.’
في النهاية لن تصل إلى أي شيءٍ مهما حاولت.
ابتلعت فيوليتا تنهيدةً حارة ومختنقة.
ماتت. لقد ماتت أبيغيل بالفعل.
‘لقد ماتت، لقد متِّ.’
وكأن بضع مراتٍ من ترديد العبارة جعلت رأسها يبرد فجأة. لقد فكرت في ذلك كثيرًا حتى لم يعد يؤلمها كما كان.
وعاد لحن الرجل يعبر المأساة نحو لحظةٍ رومانسية جميلة، وارتفعت نغماته الرقيقة عاليًا كأنها تلامس البعيد، ثم تلاشت فجأةً وتوقفت.
“الآن….هل ترين؟”
أومأت فيوليتا بصمت. لم تعد قادرةً على قول شيءٍ أمام هذا العزف الكامل.
فنهض إيكارت من كرسيه وعاد إلى الأريكة.
“هل كنتِ تعرفين هذه الأغنية؟”
“….نعم.”
“كان في عينيكِ شيءٌ يشبه الحنين.”
“إنها الأغنية التي كانت مربيتي تحب غناءها لي.”
و عندما قالت ذلك تظاهر إيكارت بتفهم الأمر وأومأ.
“لا بد أنها كانت شخصًا عزيزًا جدًّا على سموك.”
“….نعم، كانت كذلك.”
‘تلك المرأة التي لا أعرف وجهها حتى، ربما كانت فعلاً كذلك بالنسبة لفيوليتا الحقيقية.’
لكن رغم تظاهرها، لم تشعر بالارتياح.
تبادلا أحاديث تافهةً مهمةً في ظاهرها، مثل موعد الدروس وذوقها العام ومتى بدأت بالعزف على الكمان.
ورغم أن الحديث بلا معنى، إلا أن إيكارت بدا وكأنه يراعي حالتها فلم يتطرق لشيءٍ يزعجها.
كان الحديث هادئًا، ساكنًا. حتى جاء طرقٌ خفيف على الباب بدا كأنه جاء لإنقاذها. وبعده سمعت صوت ديانا الرتيب،
“سموك، الدوق إيدلغارد قد وصل.”
“يبدو أن عليّ إخلاء المكان.”
ابتسم إيكارت ونهض. و فتحت فيوليتا فمها لترد، لكن صوتًا خلفها سبقها، فالتزمت الصمت.
دخل راكييل دون انتظار، وكأن الغرفة غرفته، حتى أن أحدًا لم يشعر بغرابة دخوله.
‘لا يستطيع حتى الانتظار لحظة، يدخل كما يشاء….’
هكذا تذمرت فيوليتا في نفسها بينما التفتت بطرف عينها.
وبعد لحظة سمعت الصوت المألوف،
“السيد بيرون؟”
“آه، الدوق إيدلغارد.”
ردّ إيكارت التحية بأدب، فأمال راكييل رأسه بتعالٍ قبل أن ينحني نحو فيوليتا.
ومع التقاء نظراتهما جانبًا، خفضت فيوليتا عينيها، ليضع راكييل ابتسامةً دافئة ويطبع شفتيه على جبينها.
كان شعورًا غريبًا….ولم تستطع أن تبتسم بجرأةٍ كما اعتادت. فحين يكون أمام الآخرين، يُصاب دائمًا بذلك “المرض” الذي يحوله إلى شخصٍ رقيق لطيف، وقد اعتادت على ذلك، تقريباً.
لم يكن الأمر جديدًا حقاً.
ثم ابتعدت شفتاه بعد لحظةٍ قصيرة، ورفع رأسه الذي كان مائلًا.
و رفعت فيوليتا نظرها ببطء. ومع اختفاء شعره الأسود الكثيف من مجال رؤيتها، التقت عيناها مباشرةً بعينيه الموجهتين نحوها بثبات.
هل كان هذا الشعور الغريب من نظرته؟
حدقت فيوليتا مدهوشةً فيه، لكن يده الكبيره قبضت على كتفها مما جعلها تلتفت إليها. وعندها، لم يكن راكييل ينظر إليها.
“سمعتُ كثيرًا عن شهرتكَ. جلالته كثيرًا ما تحدث عن تأثير عزفكَ العميق عليه.”
“هذا لطفٌ كبير.”
“وقيل أن جلالته اختاركَ بنفسه لتكون معلم الموسيقى للأميرة الخامسة.”
“هذا شرفٌ لا أستحقه. إنه مجدٌ لآل بيرون.”
كان الجو باردًا متوترًا لا يمكن وصفه بالجيد. و استمر تبادل العبارات الرسمية الجافة، ولو اختصرناها لكانت مجرد: “أرجو أن تعتني بها.” و”سأفعل.”
ومع ذلك أطالا الكلام بلا داعٍ، حتى أسندت فيوليتا ذقنها على يدها بمللٍ قبل أن ينتهي الحديث أخيرًا.
وبينما لم تنتبه فيوليتا لنهاية الحديث، تقدّم إيكارت حتى وقف أمامها، وأمسك يدها الموضوعة في حجرها ورفعها ليقبّل ظهرها.
ارتعشت فيوليتا من المفاجأة ونظرت إليه، فبادلها ابتسامةً هادئة.
“أراكِ قريبًا.”
أومأت، فأفلت يدها ونهض برشاقة، ثم حيّا راكييل وهو يمر بجانبه وغادر.
ثم أزال راكييل يده من على كتف فيوليتا بوجه خالٍ من التعبير. و اتجه بخطواتٍ واسعة وجلس في المقعد المقابل، محدقًا فيها بصمتٍ طويل.
وعندما بادلته النظرات باستغراب، أشار بذقنه نحو حجرها. فخفضت رأسها تتبع إشارته….
“آه.”
خرج صوت دهشةٍ خافتة منها.
“هذا….القفاز الذي ضاع مني في فلاديمورو.”
قالت ذلك بفرحٍ وهي تلتقط القفاز الموضوع برقةٍ على حجرها.
“قال السيد بيرون أنه وجده صدفةً في الحديقة وأعاده إليّ.”
خرجت الكذبة من فمها تلقائيًا، فشعرت ببعض الاشمئزاز من نفسها، لكنها تماسكت.
ورغم أن نظرتها للقفاز حملت إحساسًا خفيفًا بالذنب، إلا أنها كتمت ذلك أيضًا.
فكرت فجأة بأنه لم يكن اسمها مكتوبًا على القفاز أصلًا، فكيف عرف أنه لها وأحضره إليها؟ كانت كذبةً مرتجلة وواهية للغاية. و كان عليها تجاوز هذا الجزء سريعًا.
“حقًا؟”
وقبل أن تظهر الثغرة، أخذت فيوليتا تهز رأسها بحماسٍ محاولةً تغيير الموضوع، فابتسم راكييل بضحكة منخفضة.
عندها تحدّثت فيوليتا بامتعاض وهي تُكشّر شفتيها قليلاً،
“ما الأمر الآن؟”
“من مجلس الشؤون العليا.”
“….تكلم للنهاية. كنتَ قادمًا من هناك، أليس كذلك؟ ولماذا المجلس؟”
“بسبب اجتماع.”
“إذا كان هناك اجتماع، فمن الطبيعي أن تذهب. لكن….ألم يكن من المفترض أن يكون الاجتماع الدوري في اليوم 92؟”
فكّ راكييل ربطة عنقه قليلًا وعقد ساقيه، وبخلاف حركته الهادئة كان في عينيه بريقٌ حاد جعل فيوليتا ترمش بدهشة.
“قبل يومين قُتل الدوق إنغوست في المعركة.”
“ماذا؟”
اتسعت عيناها بصدمةٍ أمام الخبر المفاجئ.
“وميلنيرو سيطرت بالكامل على مقاطعة لياج التابعة لدوقية إنغوست.”
“هذا….غير معقول.”
فمقاطعة لياج تُعد نصف دوقية إنغوست تقريبًا. ولم يكن وصول خبر الحرب إلى مسامعها قد حدث من الأساس، فبدا الأمر أشبه بالخيال.
“لن يمر وقتٌ طويل حتى تسقط إنغوست تمامًا.”
“لكن دوق إنغوست من السلالة الفرعية للعائلة الإمبراطورية في فالوبير. هل ستقف فالوبير مكتوفة الأيدي أمام ميلنيرو؟”
“لن تقف. لكن ميلنيرو وصلت إلى حدّها. ما حدث الآن هو انفجار لما تراكم وقَدِّم منذ زمن.”
كان الخلاف بين مملكة ميلنيرو ودوقية إنغوست عميق الجذور.
فدوقية* إنغوست، التي لم يمض على تأسيسها مئة عام، كانت دولةً أنشأها إمبراطور فالوبير قبل أجيال، حين غزا ميلنيرو ليمنح ابنه الثاني أرضًا يحكمها.
*اظنها اراضي دوق بس مالها دولة فصارت دوله لحالها
آنذاك خسرت ميلنيرو ربع أراضيها لصالح فالوبير في لحظة، ولم يمضِ أسبوعٌ واحد حتى رُفع علم فالوبير الأزرق فوق أرضٍ كانت ملكًا لهم. وهكذا وُلدت دوقية إنغوست.
ومنذ تلك اللحظة بدأ الصراع بين ميلنيرو وإنغوست. حتى اليوم يُحتفل بذلك الأسبوع في إنغوست باسم “أسبوع التأسيس”، بينما يُخلده شعب ميلنيرو كـ”أيام الكارثة الكبرى”.
وعلى الحدود المشتركة بين البلدين لم تهدأ الفتن والنزاعات، وكانت إنغوست تتكئ على نفوذ فالوبير فتتمادى في مطالبها.
وبالرغم من كون حقد ميلنيرو على إنغوست منطقيًا جدًّا، إلا أن احتلالها لإنغوست لم يكن قرارًا حكيمًا.
فإن كانت ميلنيرو أقدم حلفاء غرانتونيا، فإن إنغوست بالنسبة لفالوبير ليست مجرد حليف، بل جزءٌ من العائلة نفسها. فمؤسسها أميرٌ من البيت الإمبراطوري، ودوقيتها امتدادٌ طبيعي لدم الإمبراطورية.
وبالنظر إلى تمسّك فالوبير بدم العائلة، فالعواقب متوقعةٌ تمامًا.
بعد أن أعادت فيوليتا تحليل الأمر بتمعّن، سألت راكييل بقلقٍ خفيف،
“هل يمكن أن تكون ميلنيرو مستعدةٌ لتحمّل انتقام فالوبير….؟ لا، لا يمكن أن يصل بهم الأمر إلى هذا الحد، صحيح؟”
“لو كانوا يريدون مجرد الانتقام من إنغوست، ما كانوا سيشنّون غزوًا شاملًا بهذا الشكل، ولا سيعلنون ذلك رسميًا، ولا يرسلون المبعوثين بهذه السرعة.”
استمعت فيوليتا وهي تعقد حاجبيها بصداعٍ واضح. فحتى لو خسرت ميلنيرو ربع أرضها لإنغوست، فهي لا تزال ثاني أكبر ممالك القارة الثمانية مساحة.
وفي وقتٍ ضعفت فيه يقظة فالوبير، فإن توجيه ضربةٍ قاسية لإنغوست لم يكن أمرًا يصعب على ميلنيرو فعله، خصوصًا مع كثرة الذرائع القابلة للتبرير.
وحتى فالوبير نفسها لا تستطيع الطعن في تلك الذرائع. لكن ميلنيرو فعلت ما يتجاوز ذلك بالفعل. كما قال راكييل: لقد غزت، واحتلت رسميًا، وأرسلت مبعوثًا….
“إذاً القضية لم تعد تتعلق بإنغوست أصلًا.”
“نعم.”
“إن كان كل هذا مجرد إعلان حرب على فالوبير….”
“فقد أصبح الأمر قريبًا جدًّا من ذلك. ورغم أن فكرة مواجهة فالوبير تبدو جنونية، لكنها ليست مستحيلةً تمامًا.”
“وما القرار الذي توصّل إليه مجلس الشؤون العليا إذاً؟”
إن اختارت غرانتونيا الوقوف مع ميلنيرو، فستقف تلقائيًا في صفّ معادٍ لفالوبير. وإن اختارت فالوبير، ستخسر ميلنيرو.
وبمنطقٍ بسيط، اختيار فالوبير هو القرار الواضح. لكن اختيار ميلنيرو لا يعني أن فالوبير ستعلن الحرب فورًا، كما أن اختيار فالوبير لا يضمن الولاء الأبدي. فقد تراكمت الأسباب بما يكفي لعدم الثقة بين الأطراف.
تنهدت فيوليتا بضيق، فأجاب راكييل بهدوءٍ وهو يراقبها،
“ستة مقابل صفر.”
“ستة مقابل صفر….يعني أنهم اختاروا بين فالوبير وميلنيرو؟”
“وميلنيرو هي التي حصلت على الستة.”
“غير متوقع.”
ابتسم راكييل ساخرًا وهو يرفع زاوية شفتيه.
“ولي العهد الأول يريد حربًا.”
“….حربًا؟”
“نعم. لو ترك الأمر دون تدخله، لمال ثمانيةٌ من أصل عشرة إلى فالوبير، لكنه خرج بنفسه ودفع المجلس دفعًا نحو ميلنيرو.”
“وأنتَ؟”
“كنتُ مع ميلنيرو منذ البداية.”
“أنتَ أيضًا؟ لستَ مع فيلوبير؟”
“حتى لو تخلّينا عن ميلنيرو، فسنخسر فيلوبير عاجلًا أم آجلًا. لكن إن تمسّكنا بميلنيرو، فسنستطيع على الأقل إعادة صنع نوعٍ من الودّ المزيّف مع فيلوبير لاحقًا.”
أومأت فيوليتا كأنها بدأت تفهم، لكنها عادت لتسأل باستغراب.
“لكن أليس وليّ العهد الأول قد دعم ميلنيرو فقط لأجل الحرب؟ كاديرينغر، وحتى دايك بايك، لا بد أنهم يفكرون بالطريقة نفسها. فكيف تكون أنتَ في صفهم أيضًا….؟”
“لا يهم إن اختلفت التفاصيل البسيطة. فالموقف الأساسي واحد. وليس سيئًا أن نتماشى مع ما يريده وليّ العهد الأول على نحوٍ عام.”
“……لكن ماذا لو حدثت الحرب فعلًا كما يريد؟”
كان ذلك بالنسبة إليه أمرًا لا بأس به إطلاقًا. فابتسم راكييل ابتسامة مائلةً وتمتم،
“للجندي، ليست هناك فرصةٌ أفضل للصعود من الحرب.”
كان يلفظ كلمة “الصعود” بنبرة تهكّمٍ واضحة، ثم سرعان ما عاد إلى ملامحه الخالية من التعابير وهو يتابع،
“لكن مكاسب الحرب لا تعود على الجندي وحده.”
“…….”
“بل تُحاسَب مسؤولياته أيضًا. خصوصًا إن كان هو الشخص الذي دعا إلى الحرب أساسًا.”
“وإن وصلت الأمور إلى أسوأ حالاتها.…؟”
“سيبدأ الجميع في التفكير بشيءٍ واحد. من كان سبب كل هذا؟”
اهتزّ الهواء بأثر صوته الهادئ البارد، وأغمضت فيوليتا عينيها ببطء.
“من هو صاحب هذه الكارثة كلّه؟ وعلى من يجب أن تقع هذه المسؤولية؟”
“…….”
“حتى لو كان ابن الملك، فذلك لا يجعل منه استثناءً.”
التعليقات لهذا الفصل " 32"