“لأن ذلك ممكن، أليس لهذا السبب أرسل جلالته كل هؤلاء الأساتذة؟ سموكِ، يمكنكِ فعلها!”
“الجواب معروفٌ سلفًا. أنتِ فقط أجيبي! ما كنت أريده هو شخصٌ يفكر معي قائلًا أن الأمر مستحيل.”
“أظنه مستحيلًا فعلًا. جلالته يبالغ كثيرًا! كيف يمكنه أن يطلب أمرًا بهذه القسوة!”
عند صرخة لويز المصطنعة ازداد وجه فيوليتا امتعاضًا.
و كانت ديانا التي تتقدمهن تبتسم بخفة وهي تأمر الخادمات بفتح الباب. ثم أمسكت ميلويلا بالذراع الفارغة الأخرى لفيوليتا بدلًا من لويز، ووافقت بجدية.
“صحيح، حتى الأمراء لا يقدرون على استيعاب هذا الكم من المواد دفعةً واحدة.”
“أليس كذلك؟”
“وبالطبع، بما أن صاحبة السمو أضاعت الكثير من فرص التعليم، فمن الطبيعي أن تعاني في بدء دراستها المتأخرة. ولهذا كان من حسن الحظ أن جلالته استدعى بنفسه أبرز الأساتذة لمساعدتكِ. ثم إنكِ شديدة الذكاء أيضًا. لكن، رغم ذلك، وكما يُقال: الإفراط لا يقل ضررًا عن النقص، فقد يكون كثرة المحتوى سمًّا لا نفعًا.”
عند كلمة “ذكية” هزّت فيوليتا رأسها بارتياحٍ بالغ، وما إن أنهت ميلويلا كلامها حتى ربتت على كتفها كأنما تُكافئها على موافقتها الطويلة الحافلة.
“كما هو متوقّع، ميلويلا ماير. هذا مُرضٍ جدًا.”
“أنتِ تبالغين في لطفكِ، سموك.”
“ماذا؟ إذاً يكفي أن أتحدث بصعوبةٍ كهذه؟”
“إن استطعتِ فجربي.”
هزّت لويز رأسها نحو الخادمات بوجهٍ متجهم. وما إن فُتح باب غرفة الاستقبال حتى رفعت فيوليتا طرف فمها بدلال وهي تدخل.
***
كان أحد رموز مبنى مجلس الشورى العظمى تلك الأقواس الحجرية الهائلة المتتابعة كل عشرين خطوة.
كان راكييل يتلقى تحيات الموظفين بلامبالاة فيما يمضي عبر الممر بخطواتٍ منتظمة اعتادها جسده.
و كان ظلّه، الممتد بخفةٍ خلف خطواته الدقيقة كأنها محسوبة، يرتجف فوق رخام القاعة.
وعندما بلغ الباب الخشبي القاني المزخرف بنقوش السيف والوردة، توقفت خطواته. فأزاح الفارسان الواقفان على الجانبين رماحهم التي كانت تقطع الطريق، وانحنيا باحترام.
“نحيي سمو الدوق.”
أومأ راكييل دون رد. ثم بدأت البوابة السميكة المشبعة بقرون طويلة من التاريخ تنفتح بصوتٍ ثقيل. وحين اتسع الباب تمامًا، دخل راكييل ببطء إلى غرفة رونتميان.
“سيدي الرئيس، يدخل الآن الدوق إيدلغارد.”
لم يكن المكان في حجمه شيئًا يليق بأن يُسمّى غرفة. و كان دخان السيجار يسبح بين عشرة أعضاء مصفوفين حول منضدة رونتميان الضخمة في الوسط.
مسح راكييل الجمع بنظرةٍ باردة، ثم مضى إلى المقعد الأعلى شأنًا وجلس.
كان ذلك هو جلوسه الثاني فقط منذ ورث اللقب بعد وفاة أبيه، لكنه بدا طبيعيًا كأنما وُلد على هذا المقام.
“السنة الملكية 806، اليوم الثامن والثمانون من الربيع، الجلسة الدورية رقم 4887 لمجلس الشورى.…”
“ليست دورية.”
“عفوًا؟”
“يكفي. اخرج.”
عند أمره الخافت الذي بدا كأنه لا يرغب حتى في إضاعة أنفاسه، خرج الموظف مذهولًا قبل أن يكمل حتى نصف جملة الافتتاح.
ثم حلّ الصمت، ولم يبق سوى خشخشة أقلام الكتبة وهي ترتجّ تحت السقف العالي. فأغمض راكييل عينيه ثم فتحهما ببطء.
“أظن أن الأمر قد أُبلغ للنواب خطأً أيضًا. الجلسة الدورية لمجلس الشورى بعد أربعة أيام.”
“هي قريبة، فما الحاجة إلى أخرى؟ اجمعوهما.”
“لأن ما سنناقشه اليوم يختلف عمّا سيناقش في الجلسة الدورية.”
“وما الذي يدعو للتفريق؟”
“إن كان الأمر يزعجكَ إلى هذه الدرجة، فسأجيز لدايك التغيّب بصفته حقًا من حقوقكَ.”
عند رد راكييل اللطيف لكن القاطع، كفّ الكونت دايك عن الكلام وأخذ نفسًا عميقًا من سيجارته بوجهٍ عابس.
فلو غاب حقًا كما اقترح الرئيس، لتحولت الجلسة الدورية العادية فورًا إلى جلسةٍ لبحث عزله.
ذلك الشاب لا يشبه أباه الراحل. يكفي غيابٌ واحد حتى يستند إلى مبدأ “تسيّب أعلى النبلاء” ليطالب بطرده من المجلس.
ولم يكن السبب أنه متمسكٌ بمبادئ قديمة، بل لأنه يقف في الجهة المناوئة تمامًا له.
كان يملك على الأقل شيئًا من الإدراك….فقد كانت عيناه التي كانت تبتسم قبل قليل قد بردتا فجأة.
ثم فتح راكييل السجل المرتب أمامه وتكلم،
“أعلنت مملكة ميلنيرو رسميًا سيطرتها الكاملة على إقليم لييجو التابع لدوقية إنغوست.”
كان الخبر عظيمًا رغم نبرة صوته الهادئة التي ألقته كأنه أمرٌ تافه.
أطلق بعضهم أنينًا خافتًا من الدهشة. بينما نقل راكييل نظره مباشرةً من السطر الأول إلى منتصف الصفحة.
“وكذلك تم التأكيد رسميًا على مقتل الدوق إنغوست.”
“هل وجدوا جثته؟”
رفع راكييل رأسه نحو صاحب الصوت المزعج.
كانت العينان الضيقتان تحت الشعر الذهبي الفاخر تحدّقان فيه مباشرة، وذلك بينما يجلس على المقعد المخصص لممثل العائلة الملكية—المقعد الذي ينبغي أن يكون لميخائيل.
وقاحةٌ بغيضة. جلوسه هناك وكأنه حقٌ مكتسب منذ ولادته كان كافيًا لإثارة الغثيان. فأجاب راكييل ببرود،
“بحسب مبعوث ميلنيرو، نعم.”
“أليس هناك احتمالٌ آخر؟”
“بما أن الملابسات واضحةٌ فلا حاجة للجدل. نحن نكتفي بوضع فرضيةٍ فوق المعطيات، ثم نختار.”
كان ردّه مهذبًا خاليًا من أي شعور.
لم تكن سوى نظرة باردة عابرة خفيفة الازدراء. ومع أنه كان ازدراءً طفيفًا، إلا أنّ تجاهله مستحيل، لأنه كان مقصودًا بوضوح.
واجه بيلكيرس تلك النظرة ببرود، ثم أدار رأسه عن راكييل إلى الماركيز كلارينس المقابل له، وفتح فمه ببطء.
كان كلامه طعنًا في أصل عائلة ماير العريقة، وتسفيهًا لكونه “نبيلاً رفيعًا تحول إلى تاجر يلعب بالمال في بنك”.
كما كان يلمّح إلى أنه، لعدم خدمته في السلك الإداري، لا يفهم سوى حركة أمواله.
تجمّد وجه الكونت ماير برودةً، فرفع الماركيز كاديلينغر يده نحو الكونت دايك، آمرًا إياه بالصمت.
صم تحدّث الكونت موندريول، وهو يخرج سيجارًا من جيبه الداخلي بنبرةٍ صلبة،
“لكنني لا أرى أن التخلي عن فيلوبير يستحق كل ذلك.”
ساد الصمت برهة. ثم تحدث بيلكيرس وهو يطوف بنظره الحاد على الحاضرين،
“لم يمضِ على الودّ بيننا وبين فيلوبير خمسة عشر عامًا. خلال ذلك، هرم إمبراطور فيلوبير، ووريث العرش يقف الآن في صفٍّ مختلفٍ تمامًا عن صف أبيه. وإن اعتلى العرش كما هو، فالصدام مع فيلوبير محتوم، سواءً اخترنا ميلنيرو وابتعدنا عنهم، أو اخترناهم ووقفنا معهم. النتيجة واحدة.”
“….…”
“فهل قيمة ميلنيرو حقًا أقل من هذا الاضطراب؟ ماذا لو مات إمبراطور فيلوبير؟ هل ستقولون الشيء نفسه؟”
وعاد الصمت من جديد. صوت الأقلام، وأنفاس الدخان، وجرسٌ خافت لكؤوس الشراب فوق طاولة رونتميان….
نظر راكييل إلى الأوراق أمامه ثم قَلَبها مقلوبةً فوق بعضها، قبل أن يوافق بيلكيرس بنبرةٍ لا مبالية،
“أتفق مع سموّ ولي العهد في أن ميلنيرو حليفٌ مخلص لنا. لا شك أن ميلنيرو أفضل أنصارنا، ولا مقارنة بينها وبين فيلوبير. فصلة الود التي دامت أكثر من مئتي عام أمرٌ لا يمكن تجاهله، وهم دائمًا ما عاملونا بما يليق بتلك العلاقة.”
ومع تجاهله لنظرات التوجس المثبتة فيه، رفع راكييل القارورة البلورية الأنيقة، وملأ كأسه.
كانت السوائل الشفافة المتلألئة بالذهب تتماوج داخل الكأس المزخرفة. فراقب بيلكيرس الكأس قليلًا وهو يبتسم بسلاسة ويسأل،
“إذاً، وفيما عدا ذلك؟”
“لكن يبدو أن سموّك يولي اهتمامًا بشيءٍ آخر غير قيمة ميلنيرو.”
بردت زرقة عيني بيلكيرس تحت حواف جفونه المنحنية بنعومة. بينما رفع راكييل كأسه بوقار محسوب، ورطّب شفتيه برشفةٍ صغيرة، ثم أضاف بنبرةٍ مهذبة لا تمتّ للتهذيب بصلة،
“على ما يبدو، سموّ ولي العهد يتوق إلى لعبة حرب مع فيلوبير.”
***
توقفت فيوليتا حال دخولها غرفة الاستقبال عندما وقعت عيناها على الرجل الواقف هناك.
و توقفت الخادمات معها وبدت الدهشة عليهن، لكن فيوليتا لم تأبه، واستدارت ببطء.
“……ما هذا؟”
“سموك؟”
كان صوت ديانا، الذي نادتها بنبرةٍ تحمل شيئًا من الارتباك، ما جعل فيوليتا تعقد حاجبيها وتتساءل من جديد.
“تقولين أنه معلّم الموسيقى؟”
“نعم.”
“هذا الشخص تحديدًا؟”
“نعم.”
اتسعت عينا ديانا كأنها لا ترى أي مشكلة، فردّت ببساطة.
و حاولت فيوليتا قول شيءٍ آخر، ثم أطلقت نفسًا خفيفًا واستدارت.
وما إن التقت عيناها بعينيه حتى انحنى طرفا عينيه بابتسامةٍ مشرقة.
“إنه اللورد إيكارت دو بيرون. الابن الأكبر لدوق بيرون.”
أضافت ديانا بلطف. فسأل الرجل بأدب،
“هل هناك مشكلةٌ ما؟”
“لا.”
ورغم أنه غالبًا كان يسأل ديانا أو ميلويلا، سارعت فيوليتا إلى نفي الأمر وكأنها تقطع الطريق. وأشارت للخادمات بالخروج ثم اتجهت نحو إيكارت.
وما إن سمعت صوت الباب يُغلق خلفهن حتى جلست بوجهٍ متضايق، و تحدّثت مباشرة،
“أعطني القفاز.”
جلس إيكارت قبالتها وهو يبتسم بخفة.
“هل تنوين طردي فور أخذه؟”
“تعرف الأمر جيدًا. هذا ما كنتُ أنوي فعله حقاً.”
“كنتُ أعلم أنكِ ستطردينني، لذا جئت لأمرٍ آخر.”
“……وبالتالي لا يمكنني طردكَ الآن.”
ردّت فيوليتا بأسفٍ واضح وهي تتلقى القفاز المطوي بعناية وتضعه فوق حجرها.
“هل ساقكِ بخير؟”
“يمكنني المشي.”
“أوه.”
“هذه الـ‘أوه’ بدت غريبةً جدًا.”
“لأن بإمكانكِ المشي…..وهذا أمرٌ مؤسفٌ قليلًا.”
ورغم أن كلماتها كانت حادة بوضوح، إلا أن تفسيرها جاء لطيفًا. فضحك إيكارت ضحكةً خفيفة وسألها،
“هل تنوين الاستمرار في معاملتي وكأني لستُ معلّمكِ؟”
“لا أدري. إن رأيتُ معلمي حقًا…..ربما لا أفعل.”
“تعلمين أنكِ تجرحين كبريائي الآن، أليس كذلك؟”
“أرى أن كبرياءكَ حساسٌ للغاية.”
ازدادت بسمة إيكارت العابثة عمقًا. ووصلتها منه نظرةٌ غريبة، جعلت فيوليتا تشعر بشيء غير مألوف.
فرمشت ببطء. و بقي ينظر إليها. ثم رمشت مرةً ثانية….وكان قد اختفى.
كان إيكارت قد خطا بالفعل نحو البيانو بخطواتٍ واثقة، ومسح أطراف أصابعه فوق المفاتيح قبل أن يجلس.
ظلّ لحظةً ينظر إلى المفاتيح كأنه يختار نقطة البدء، ثم وضع أصابعه عليها برفق. و تحركت أصابعه الطويلة على البيانو بمرونة ساحرة. فامتلأت الغرفة بلحنٍ بطيء ورومانسي.
كان يعامل النغم وكأنه لعبةٌ بين يديه، ومع ذلك لم يكن في عزفه أدنى فوضى.
كانت مهارته في مستوى لا يمكن مقارنته بها. فوجدت فيوليتا نفسها تحدّق به بإعجابٍ صادق.
اعتقدت في البداية أنها تسمع لحنًا جديدًا لم تسمعه من قبل، لكن بعد بضع جملٍ موسيقية، أدركت أنها أغنيةٌ شهيرة كانت والدتها تغنيها كثيرًا، فاشتد إعجابها أكثر.
تساقط ضوء الشمس المتفتت بخفة على رموشه البنية المنخفضة. لم تكن هناك أي ابتسامةٍ على شفتيه—بل كانت ملامحه جادةً تمامًا.
فجأة أدركت فيوليتا أنها لم ترَه من قبل بتلك الجدية الخالصة. فتمعّنت فيه أكثر: خصلات شعره البنية الدافئة، وعيناه التركوازيتان الشفافتان.
ومرّت نظرات أبيغيل عند تلك النقطة للحظة، ثم عادت إلى يديه.
ترنّحت نغمة الأغنية، وكأن الشوق فيها واجه ألمًا عابرًا، ثم انسكب أجمل جزءٍ في اللحن—أجملها وأكثرها شاعرية—بدفءٍ عميق.
دفءٌ مليء بحنينٍ يكاد يكون موجعًا.
وفي لحظة، تغيّر المشهد من حولها كما لو كان حلمًا.
رأت الغرفة القديمة البسيطة ولكن الأنيقة، ورأت البيانو الصغير، ويدَي أبيها الشابّتين تتحركان فوق المفاتيح.
وأمّها—التي كانت أجمل مما تذكر—واقفةً إلى جانبه تغني.
وبجانبهما، بعض أصدقاء والديها يستمعون.
_________________
يوجع ليه فيه مومنتات شاعريه مع الطرف الثالث غش كذا بزعل عليه😔
المهم فيوليتا حتى مسكينه واضح اشتاقت لكل شي وجع في ابوها عديم المسؤولية
وراكييل مع ذولا السياسيين صدقوني مافهمت شي سكبوا سكبوا
التعليقات لهذا الفصل " 31"