لقد كان قوله منطقيًا تمامًا، لكنّه لم يكن الاتجاه الذي رغبت به.
فرفعت فيوليتا حاجبها قليلًا.
“إذًا…….”
“لكن إن وُجد ما يضمن لنا موعدًا آخر…….”
وفجأة، لامست يد إيكارت أطراف أصابعها. كان تماسًا شديد الحذر، بالغ الخفّة.
وقبل أن تدرك فيوليتا ما حدث فتبعد يدها، كان قد أمسك بطرف قفازها الحريري الطويل ونزعه بسلاسة تامة، كأن أصابعه لم تلامسها قط.
فحدّقت في القفاز المعلّق بين أصابع يده، ثم رفعت بصرها إليه.
“……سأقفز لأجلكِ، يا صاحب السمو، طواعية.”
أدخل إيكارت القفاز في جيب صدريته، ثم رفع شفتيه بابتسامةٍ ناعمة وهو يلاقي عينيها؛ فانحنت عيناه الطويلتان برشاقة.
وكما وعد بكلمة “طواعية”، لم يتردّد لحظة في تنفيذ قوله.
أسند يده إلى الحاجز وقفز بخفة. و حتى قبل أن تُفلت من فيوليتا صرخة دهشة، دوّى صوت ارتطامه أوّلًا. و اختفى الرجل من أمامها في طرفة عين.
فارتجفت فيوليتا كمن أُفرغ عليه ماءٌ بارد، واستدارت بسرعة لتتشبث بالحاجز وتنظر إلى الأسفل.
“يا إلهي…….”
لحسن الحظ لم يكن المكان أرضًا حجرية. فتنفّست الصعداء وهي تحدّق في العشب الداكن تحت ظلمة الليل الثقيلة.
صحيحٌ أن السقوط فوق العشب لا يجعل من هذا الارتفاع آمنًا أبدًا، لكن يبدو أنه إمّا أحسن السقوط أو كان محظوظًا لا أكثر؛ فقد نهض بلا أنين، و نفض العشب عن ثيابه، ثم اختفى باتجاه المبنى.
توقّعت منه أن يلوّح لها بغباءٍ كما يفعل الحمقى….لكن لا. فضحكت فيوليتا بخفة وهي تراقب اختفاءه، وقد هدأ قلبها على سلامته.
ثم أعادت بصرها إلى معطف السهرة الموضوع عند قدميها.
“حتى هذا تركه خلفه.”
رفست طرف المعطف بنعلها برفق قبل أن تزفر زفرةً خفيفة، وتلاشى نفسُها الأبيض وسط الهواء البارد في لحظةٍ قصيرة.
حدّقت في الفراغ الذي اختفى فيه بخار أنفاسها، ثم انحنت ببطء لتنـزع القفاز الآخر بيدها العارية.
و بعد ذلك التقطت الحذاء الملقى في الزاوية. كان متلألئًا حتى وسط العتمة، فشعرت بجفاف حلقها.
‘حان وقت العودة.’
أدخلت قدميها في الحذاء البارد واحدةً تلو الأخرى، ثم التقطت المعطف من الأرض وطوته بنعومة وعلّقته على الحاجز، قبل أن تستدير وتتجه نحو الباب بخطواتٍ انساب فيها ما تربّت عليه من أناقة لا واعية.
لكن ما إن فتحت الباب حتى وجدت شخصًا غير الذي توقّعته.
“هل انتهى وقت الاستراحة؟”
“راكِييل؟”
نادته باسمِه وقد بدا عليها شيءٌ من الراحة، قبل أن تتجمّد فجأة.
‘تُرى….هل كان راكييل هو من فتح الباب قبل قليل؟’
رمشت بنظرةٍ فطنة يختلط فيها القلق، لكنها سرعان ما هدّأت نفسها.
فحتى لو كان قد فتح الباب ورآهما معًا، فهو آخر من قد يقع في سوء ظن تافهٍ كهذا. ثم إن الباب أُغلق فورًا آنذاك. فابتسمت فيوليتا مطمئنة.
كان راكييل قد أزاح ستارة الشرفة بيد واحدة و تحدّث بفتور،
“الوصيفات قلن إن سموّكِ تستريحين هنا.”
نظرت فيوليتا حولها عند سماع ذلك. و في الزاوية هناك: لويز ذات الملامح الخجولة تتحدث مع أحد النبلاء الوسيمين، ثم ميلويلا التي ترقص في وسط الصالة مع رجلٍ وسيم تبدو معه أسعد من أي وقت مضى، وثالثهما ديانا العالقة بين البارون نيثن وزوجته اللذين يبدوان شديدَي العبوس.
ثلاثتهم….ولا أحد منهم مناسبٌ لتُناديه.
صحيحٌ أن ديانا ستجري نحوها كمن وجد منقذه لو استدعتها، لكن ذلك بالضبط ما جعل فيوليتا تستبعدها.
أما ميلويلا فقد عانت كثيرًا اليوم، فليس من اللائق إفساد لحظة سعادتها. ولويز….دعوها وشأنها فحسب.
توقّفت نظرات فيوليتا بحنانٍ عند ابتسامة لويز اللطيفة، ثم عادت إلى راكييل، الذي بدا أنه وصل توًّا.
إن كانت الوصيفات هن من أخبرنه، فالغالب أن من فتح الباب قبل قليل كانت إحداهن. ولا بدّ أنها رأت طرف فستان فيوليتا فعرفت أنها هنا. وبالطبع ظنّت أنها وحدها.
أمال راكييل رأسه قليلًا وهو ينظر إلى يديها.
“والقفازات؟”
اتّبعت فيوليتا نظره نحو يديها وأجابت ببرودٍ لا مبالٍ. فالحديث لا يستحق الشرح من بدايته.
“أزعجتني قليلًا فنزعتها، لكن أحدهما سقط في الحديقة بالخطأ. فقررت نزع الآخر أيضًا…….”
“حتى قفاز واحد لا تستطيعين الاحتفاظ به؟”
“أعتذر لأني حمقاء لا أحسن الحفاظ حتى على قفاز. ورغم وقوفي على الشرفة فجسب، إلا أن فلاديمورو يظل فلاديمورو.”
ردّت فيوليتا بابتسامةٍ مشرقة تحمل في نبرتها لسعةٌ لاذعة. فأطلق راكييل نقرةً خفيفة بلسانه وانتزع القفاز منها.
“قفازي……!”
“أتنوين أن تظلي تحملين واحدًا هكذا؟ أتريدين أن تعلني للجميع أنكِ فقدت الآخر؟”
ردّ راكييل بجفاء خفيف وهو يضع القفاز في جيب صدرية معطفه، قبل أن يبتسم ابتسامةً متصنّعة.
فقابلته فيوليتا بابتسامةٍ لا تقلّ ودًّا وهي تردّ بسخريةٍ لطيفة،
“كيف تساعدني وتقول كلامًا جارحًا في الوقت نفسه؟ شيء مدهشٌ حقًا.”
“وأنتِ من يفقد توازنه هكذا، فماذا تتوقعين؟”
زمّت فيوليتا شفتيها، ثم لمحت أحدهم خلفه فابتسمت وأومأت بعينيها تحيّةً رشيقة، قبل أن تهمس بسرعة،
“يا للعجب، ها هي الكونتيسة ماير، و الكونتيسة ألينوف، وحتى الكونتيسة موندرِيوال جميعهن مجتمعـات!”
ومثل تلك المجموعات يُسارَع إلى الانضمام إليها.
وما إن نطقت عبارتها حتى تجاوزت راكييل بخفة واتجهت وحدها نحو القاعة.
ورغم أنها بدت متعجلةً في البداية، إلا أن خطواتها صارت أكثر هدوءًا ورشاقة وهي تمضي. فابتسم راكييل قليلًا وهو يرى ظهرها يبتعد.
وسرعان ما اختفت بين ثنايا الفساتين الفخمة التي تزهر بها النبيلات.
ثم عاد راكييل إلى الشرفة، و خطا خطوةً إلى الداخل، وأسدل الستارة ثم أغلق الباب خلفه. و تقدّم بوجه خالٍ من التعبير نحو الحاجز.
توقف أمام المعطف المعلّق عليه. كان معطف سهرة أنيقًا بلون أزرق داكن، يبدو أنه صُنع خصيصًا لرجل شاب.
و تلاشى بريق عيني راكييل وهو يحملق فيه.
“بيرون، إذاً……”
رفع راكييل يده وأمسك بالمعطف. و تحرّكت يده الحاملة للمعطف ببطء في الهواء، ثم فجأة….سقط المعطف على الأرض بخفّة.
***
لقد كان الرابع بالفعل. رابع شخصٍ يدخل بسبب تلك المكافأة اللعينة.
تمتمت فيوليتا بالشتائم داخليًا، ثم رسمت ابتسامةً متحفظة وهي تستقبل المعلّم الرابع.
بعد الاقتصاد، والسياسة، والقانون، ظهر الآن من سيدرّسها الفلسفة. وكان مظهر الأستاذ عميقًا تمامًا مثل مجال بحثه.
قدّم نفسه باسمٍ غريب: يالتا مورغن من غيرتينو؛ رجلٌ أشيب يمرّر يده على لحيته الرمادية الشبيهة بلحية الماعز، فيما ترمش عيناه الضيقتان كالأزرار بوقارٍ شديد.
“…وعليه، فقد اختارني جلالة الملك بنفْسه لأكون معلّم سموّ الأميرة.”
لم تُعر فيوليتا كلامه اهتمامًا كبيرًا؛ فالثلاثة الذين سبقوه قالوا الكلام ذاته تقريبًا.
“وعليه، فعلى سموّك أن تتلقّي إرادة جلالته الرفيعة بكل إخلاص، وأن تُقبلي على الدراسة بروح صاحب الهمة، وتلازمي الكتب ليلًا ونهارًا…”
وفوق ذلك كان يتعمّد لفّ الكلام وتعقيده.
كان بإمكانه بكل بساطة أن يقول: “ادرسي جيدًا.” ما معنى كل تلك الكلمات الغريبة؟ وما شأنها بأي لغة؟
أيضًا، بما أنه من أهل إرنست، فقد كان يتحدث اللغة المشتركة بلكنةٍ جامدة وبسرعةٍ تجعل فهم بعض الكلمات ضربًا من المعاناة.
فحدّقت فيوليتا في مكانٍ ما قرب جسر أنفه وهزّت رأسها تمثيلًا للإنصات.
“…وهكذا كان الأمر. والآن أسألكِ: ما الفلسفة برأي سموّكِ؟”
“……عفوًا؟”
“الفلسفة. ما تعريفكِ لها؟”
تعمّقت ابتسامة فيوليتا المتحفظة.
كان السؤال قاسيًا، موضوعه معقدٌ للغاية. لكنها لم تشأ أن تبدو بلهاء منذ أوّل لقاء. فابتسمت بثباتٍ وهي تجيب،
“كيف لي أن أجرؤ على مناقشة الفلسفة أمام عالمٍ مرموقٍ مثلكَ، يا أستاذي؟ أنت أهلٌ للقب ‘حكيم الفلسفة’، وأحبّ أن أسمع رأيكَ أنتَ أولًا.”
“لا تبدئي باكتساب عادةٍ سيئة كهذه؛ عادة استنساخ إجابات الآخرين. هذا من فعل أدنى الطلاب في الأكاديمية.”
رمش يالتا مورغن بعينيه الصغيرتين كمن يوبّخ، فلم تُجْدِ محاولتها للّطف أو الإطراء.
و وجدت فيوليتا نفسها وقد هبطت منزلةً في ثانيةٍ واحدة، فتمتمت بعبوس خفيف لا يكاد يُرى،
“……هي علم التفكير، على الأرجح.”
“وماذا أيضًا؟”
“وأن يكون المرء حكيمًا بقدر الإمكان.”
“وماذا أيضًا؟”
ليته يتوقف الآن، قبل أن تضطر لصفعه.
“أريد أن أرى الأشياء برحابةٍ وعمق، لا أن أعرّف الأمور بسرعة بآراءٍ ضيقة متعجلة.”
تفادت أخيرًا أن تقول: “لا أعرف شيئًا.” لحدّق فيها يالتا مورغن بعينين ضيقتين كخيط،
“ما قلتيه صحيحٌ طبعًا. لكن العلم يحتاج أحيانًا إلى تعريف دقيق. فمثلًا: قدامى العلماء قالوا أن حبّ الحكمة هو الفلسفة. وقالوا أيضًا أن الفلسفة هي فعل إدراك الوجود. وما معنى إدراك الوجود؟ معناه ألّا نُسلّم بوجود الأشياء كأمر بديهي، بل أن نكوّن منظورنا الذاتي نحوها.”
تساءلت فيوليتا إن كانت حتى قد سمعت كلمةً واحدة حقًا. فلا أذنٌ تسمع….ولا عقل يستوعب.
‘ما الذي يعنيه بالوجود والإدراك وما شابه؟’
ابتلعت شهقة ضجر، خشية أن تفلت منها. بينما استمر صوت يالتا مورغن الرتيب العميق كمن يُلقي محاضرةً لا تنتهي.
حتى الأكاديمية لا تبدأ الدروس فعلًا في أول يوم.
“…وعليه! فإن الإدراك النهائي للوجود هو المبدأ الذي يمنح الموجودات وجودها، وهو ما يثير التساؤل حول قيمة الوجود وضرورته. لماذا يوجد هذا؟ كيف يوجد؟ هل يحقّ له الوجود أصلًا؟ وماذا يضيف وجوده من قيمة؟!”
ارتفع صوته تدريجيًا حتى أصبح يخطب بانفعال، فيما تمنت فيوليتا لو تضع يديها على أذنيها من شدة الإرهاق.
لو كان الأمر بيدها لبَدأت بالتحقيق في القيمة الوجودية لذلك الشيء المسمّى فلسفة.
لكنها كانت مضطرةً للبقاء طالبةً مهذّبة حتى اليوم الأخير الذي تفترق فيه عن يالتا مورغن؛ فالقدر وحده يعلم أي من تلاميذه المستقبليين سيصبح شخصيةً مهمة في بلاده.
كانت غيرتينيو، إلى جانب ويلاون وجيفِن، واحدةٌ من أعرق الأكاديميات في القارة الغربية، ومركزًا يجتمع فيه كبار نبلاء الدول والنابغون من كل مكان.
وكان يكفي أن يتمتم ذلك العجوز في إحدى قاعات الدرس قائلاً بخفة: “أذكّر الآن أنني درّستُ الأميرة الخامسة من غرانتونيا….وكانت وقحةً إلى حد لا يُطاق.” حتى ينتشر الخبر بين جميع من في القاعة، ثم يعود كلٌّ منهم إلى بلده بعد التخرج ناقلًا ما سمعه، فيتداوله نبلاء تلك البلدان ومثقفوها، ثم ينقله هؤلاء بدورهم إلى آخرين…..وهكذا بلا نهاية.
أوقفت فيوليتا خيالها المفرط الاتساع وهزّت رأسها بملامح تبدو جادةً عمدًا، فابتسم يالتا مورغن راضيًا بما ظنه فهمًا صحيحًا منها.
“يسعدني أن أرى فيكِ جديّةً تختلف عن سموّ ولي العهد الأول. كنتُ قلقاً، لكن يبدو أن خوفي لم يكن في محلّه.”
“نعم؟”
“آه….لعلّكِ لا تعلمين أن سمو ولي العهد الأول تخرّج من غيرتينيو؟”
“لم أكن أعرف ذلك.”
“دخلها وهو في الثانية عشرة فقط، وغادرها ما إن بلغ الرابعة عشرة.”
وحتى لو كان ذلك المسار مدهشًا بحد ذاته، فقد بقيت فيوليتا غير متحمّسةٍ لسماع مدح ولي العهد بعد أن قطعت كل هذه المسافة، فاكتفت بهز رأسها.
“كان شقيًّا حتى في طفولته. صحيحٌ أنه كان طالبًا شديد الذكاء، لكنه لم يكن مثالًا يُحتذى في الانضباط. كان يبتسم بتلك الابتسامة البريئة ثم يقول: “أستاذي، لا أظن أن هذا صحيح.…” وهو يصحّح لي، وكان…”
آه، اتضح أنه ليس مدحًا بعد كل هذا.
اتكأت فيوليتا على راحة يدها باهتمام، وعينيها تتلألآن بفضول، وبدأت تُصغي.
كان هذا اليوم هو الخامس على التوالي من المقابلات المتواصلة.
قابلت كل هؤلاء الأشخاص—وكان كل شخص فيهم أشبه بعلمٍ متجسّد—لو أنها قابلتهم جميعًا في يوم واحد، لكان عقلها قد انهار انهيارًا بائسًا.
السياسة، القانون، الاقتصاد، الدبلوماسية، الفلسفة، التاريخ…ارتجفت قليلًا وهي تستعيد وجوه الأساتذة الذين قابلتهم في الأيام الأربعة الماضية.
وما كان يحزنها أكثر في هذه اللحظة هو أن الأمر لم ينته بعد. فبينما يدور كل هذا، لم ينسَ كايل أن يكدّس غرفتها بالكتب كعادته، كما ألقى راكييل قنبلةً صغيرة حين قال أنه ربما حان الوقت لتبدأ تعلم لغة “فيلوبير”.
***
“… لقد وصلتِ يا صاحبة السمو. آن أوان التوجّه إلى قاعة المقابلات.”
“هذا غير معقول.”
“سموكِ؟”
وبينما كانت ديانا تناديها، التفتت فيوليتا بذهولٍ نحو لويز التي كانت تطرّز بجانبها، وسألتها،
“لويز، هل تعتقدين حقًا أن هذا المنهج الدراسي قابلٌ للتطبيق؟”
كانت حياة القصر الملكي مختلفةً كليًا عن حياتها السابقة في القصر الجانبي، حيث لم يكن عليها سوى الجلوس والدراسة طوال اليوم.
أمّا هنا، فنهضتها من السرير في الصباح مهمةٌ يقوم بها الخدم، ونومها في الليل مهمةٌ أخرى لهم، وحتى الاستحمام صار جزءًا مُثبتًا في جدول القصر الرسمي.
وحين تصبح أبسط تفاصيل الحياة اليومية شأنًا عامًا، فإن التعب يتضاعف حتى لو أدّت الفعل نفسه كما كانت تفعل من قبل.
وما إن نهضت فيوليتا بوجهٍ متجهم، حتى شبكت لويز ذراعها بذراعها كمن يسندها و ردّت بمرحٍ مشرق،
التعليقات لهذا الفصل " 30"