لم يلتفت الرجل حتى إلى السؤال، بل خلع معطفه الطويل ووضعه عند قدمي فيوليتا. ثم نظر إليها وأمال رأسه قليلًا كأنه يدعوها للجلوس.
“لماذا تخلع معطفكَ.…؟”
“إيكارت دو بيرون.”
الرجل الذي نطق اسمه بلفظٍ لبق نهض واقفًا بأناقة.
و لمحت فيوليتا شيئًا مألوفًا في ذلك الاسم، فاتسعت عيناها لحظةً بدهشة قبل أن تستعيد هدوءها المعتاد.
لا أحد يستحق أن يُحكم عليه بأنه مزعجٌ لمجرد عيوب والديه. لكن هذا لا يعني أيضًا أن هناك سببًا يدعوها للاقتراب من أحد أفراد عائلة بيرون.
“هذا اسمي. وقد انتظرتُ أن تسألي، لكنكِ لم تفعلي، فاعذريني على وقاحتي بإخباركِ بنفسي.”
كانت كلماته جريئةً بعض الشيء على الرغم من ابتسامته المهذبة. فأطلقت فيوليتا ضحكةً قصيرة وهمهمة مقتضبة ونطقت اسمه ردًا عليه.
“اللورد بيرون.”
“يمكنكِ مناداتي بإيكارت بكل بساطة.”
“لا. سأُبقى على اللورد بيرون.”
ابتسمت فيوليتا بلطفٍ وهي ترفضه بطريقةٍ تضع بينهما مسافةً غير مرئية. فضحك إيكارت بخفة.
“وهل سترفضين حتى معطفي الموضوع على الأرض؟”
“أولًا، لا أريد إتلاف معطفكَ. ثانيًا، مهما كنتَ قوي البنية، فالجو بارد جدًا للوقوف في الخارج بسترةٍ فقط. وأخيرًا، كنتُ في الأصل على وشك المغادرة. لذا خذ معطـ…”
توقف نفس فيوليتا فجأة. فيد إيكارت امتدت بسرعة غير لائقة وسحبت معصمها نحوه.
و بقوة سحبه اندفعت خطوةً دون أن تشعر. وتحت قدميها لم تعد البرودة القاسية لارضية الرخام، بل ملمس الصوف الناعم لمعطفه.
لكن مهما كان قصده، فحقيقة أنه أمسك بمعصمها هكذا بعد التعارف مباشرةً كانت أمرًا يستحق الغضب.
فرفعت وجهها نحوه لتوبّخه، لكنه كان قد ابتعد بالفعل، واقفًا بأدب وكأن شيئًا لم يحدث.
تحكمه في توقيت الحركة كان مذهلًا. فضحك إيكارت بصوتٍ منخفض وردّ عليها بهدوء.
“لقد تخلّصتُ من المعطف بالفعل.”
“….قلت لكَ أنني كنتُ سأغادر للتو.”
انحنى إيكارت قليلًا والتقط حذاءها من عند قدميها، ثم رماه بلا مبالاة نحو زاوية الشرفة. فتجمدت ملامح فيوليتا بدهشة غاضبة.
“ماذا….تفعل؟”
“قدماكِ تؤلمانكِ. لا يمكنني ترككِ ترحلين هكذا.”
قبل أيام قليلة فقط بدا لها ضحكه جميلًا….أما الآن فلم تشعر إلا بالانزعاج.
“….ما قلته قبل قليل عن ألم قدمي كان مجرد كلامٍ فقط.”
“وكذلك قولي أنني لن أسمح لكِ بالرحيل. لا تقلقي.”
“لحظة، ماذا؟ يعني لو كنت أحتضر أمامكَ ستتركني أموت بسلام؟”
ضحك إيكارت بصوتٍ منخفض كما لو أن كلامها مضحك. ثم تحدث بهدوءٍ أكبر.
“كل ما أطلبه هو أن تستريحي قليلًا.”
وانخفض صوته أكثر.
“و….أن أقضي معكِ تلك اللحظات.”
“ماذا؟”
“معي.”
انعقدت عيناه كالهلال وهو يبتسم. فحدقت به فيوليتا طويلًا قبل أن تسأله بارتباكٍ خفيف.
“هل….هل تحاول مغازلتي يا لورد؟”
داخل الباب الزجاجي خلفهما، وقفت عشرات السيدات الشريفات، ولم تكن أيٌّ منهن لتجرؤ على قول شيء كهذا صراحة.
كلمات فيوليتا الصريحة لم تناسب مكانتها كأميرة، فجعلت إيكارت يبتسم بارتباكٍ خفيف.
لم يكن الرجل من النوع الذي يطارد النساء، بل كنّ هن من يلاحقنه على الأرجح. وحتى إن حاول مغازلة إحداهن بمظهره الأنيق، فالأغلب أن تسعًا من كل عشرٍ منهن سيُفتتنّ به.
ربما لهذا بدا عليه أنه يسمع مثل هذا الرد لأول مرة. فللأسف، فيوليتا كانت واحدةً من أولئك العشر.
ولولا أنه كان يجهل حكاية “السيدة دوفاري”، ربما كانت هي أيضًا لتشعر بالنبض الآن.
“من أين تعلمتِ قول شيءٍ كهذا؟”
منذ طفولتها الباكرة، وهي محبوسةٌ داخل قصر صغير، لا تعرف شيئًا عن العالم، فكان طبيعيًا أن يسأل.
لكن بداية علاقتها معه كانت أصلًا قِصّة خزيٍ بالنسبة لها، فلم تجد داعيًا لتصنع الأناقة. فردّت بضحكة خفيفة.
“كان لديّ خادمات.”
وكأنها تقول له: لم أعش بمفردي رغم حبسي. فما كان من إيكارت إلا أن اعتذر فورًا بأدب.
“إن كان سؤالي قد بدا لكِ مهينًا، فأرجو أن تسامحيني.”
“أظن أن هذا الاعتذار كان يجب أن يأتي قبل قليل. لكن….حسنًا، سأقبله. فقدماي مرتاحتان فوق معطفكَ، بعد كل شيء.”
أضافت ذلك وهي ترفع ذقنها بتدللٍ بسيط، فابتسم إيكارت ضاحكًا بخفة.
كان لصوته المنخفض وقعٌ جذاب في أذنها، لكنها لم تهتز لذلك، بل سألت بنبرةٍ حادة قليلًا.
“هل تجد الأمر مضحكًا؟”
“بعد التفكير….نعم. أظن أنني أغازل سموكِ بالفعل.”
اعترف إيكارت بذلك اللفظ الدارج بوضوحٍ تام. لكنه، على الرغم من اعترافه أنه يغازلها، بقي واقفًا بأدب وبمسافةٍ محترمة. ففتحت فيوليتا فمها بدهشة.
“وتعترف بذلك بهذه السهولة؟”
“نعم.”
“شكلكَ طبيعي تمامًا، فلماذا بحق.…؟”
“أشكركِ على حسن ظنكِ.”
“….أنا لم أُثنِ على مظهركَ أصلًا، أتعلم ذلك؟”
“وأنا أيضًا….هذه أول مرة أجد نفسي ألاحق امرأةً هكذا، لذلك لا أعرف السبب الدقيق.”
كان يتحدث بلا ذرة خجل، بينما شعرت هي بالخجل بدلًا عنه. فزفّرت فيوليتا أنفاسًا قصيرة.
“أليس هذا العمر الذي يفترض أن يضحي فيه الفارس بحياته من أجل الشرف؟”
“لا شرفَ لديّ يستحق أن أضحي بحياتي لأجله.”
“مستحيل.”
“لأنني…..لستُ فارسًا أصلًا.”
كان طويل القامة وذو بنية قوية، لكن لم يكن يبدو كمَن خضع لتدريبٍ عسكري حقيقي.
فأومأت فيوليتا باستخفاف.
“إذاّ فلتفكر على الأقل بسمعة عائلتكَ.”
“لو أخبركِ الدوق إيدلغارد بشيءٍ قليل عن العالم، لعرفتِ سمعة عائلتي جيدًا.”
ردّه الهادئ جعل فيوليتا تشعر بضيقٍ غير متوقع. و عندما لم تُجب، أضاف إيكارت،
“ولهذا….لا فضيحة في العالم قادرةٌ على الإضرار بسمعة أسرتي بعد الآن.”
“أتُراكَ تفتخر بذلك؟”
“أسميه….استسلامًا.”
وكانت تفهم ذلك جيدًا. فسيد عائلة بيرون الحالي كان يمتلك ما يكفي من الفضائح. وبما أن الخوض في هذا الحديث يزعجها هي دون غيرها، آثرت الصمت.
كان مختلفًا جوهريًا عن والده. وبالكاد استطاعت فيوليتا أن تستشعر بالتعاسة الكامنة في أعماقه. وذلك ما جعل الأمر أصعب.
و كانت لا تريد أي علاقةٍ به أصلًا.
“أليس لديكِ أي سؤالٌ آخر تودين طرحه؟”
“لا.”
“إذاّ هل لي أن أسأل أنا سموكِ شيئًا؟”
“لا، لا تفعل.”
و ارتسمت ابتسامةٌ على شفتيه عند رفضها الحازم.
“لِمَ هذا الحذر؟”
“وكيف تريدني أن أثق بكَ؟”
“لا أذكر أنني فعلت شيئًا يستدعي منكِ هذا القدر من الارتياب.”
لم يكن يعلم، على ما يبدو، أنها كانت تتحفظ منه منذ أن كانا في الداخل. فأخرجت فيوليتا شفتها السفلية بضيق.
كانت قوة السحب هذه المرة غير محسوبة، ففقدت توازنها واصطدمت بصدره مباشرة. و تجمدت فيوليتا في مكانها كتمثال.
وهذه المرة….كان عليها أن تغضب بالفعل.
حاولت أولًا التراجع بجسدها المتصلب، لكن قبضته القوية ضغطت على كتفيها مجددًا.
“ماذا تفـ.…!”
“هش.”
ثم حرّك شفتيه دون صوت.
‘إن لم تريدي الوقوع في ورطة….فابقي ساكنة؟’
قرأت حركة شفتيه ببطء، وعندها فقط شعرت بشيءٍ ما. كان صوت الباب يهتز. فتحركت عيناها بقلق.
العاصمة كانت تعج بالضجيج منذ أن ظهرت الأميرة الخامسة بطريقةٍ صاخبة، ولو انتشر الآن أنها كانت تختلي برجل في أول حفل لها….فكم ستظل الألسنة تلوك ذلك؟
تسارع نبضها. و لحسن الحظ، كان إيكارت قد اختار مسبقًا مكانًا لا يُرى من عند الباب، أما فيوليتا فلم يظهر سوى ظل خافتٍ من طرف فستانها.
وجودهما هناك كان بمثابة إشارة تمنع الداخل من اقتحام المكان.
وبالفعل، بالكاد انفتح الباب صريرًا صغيرًا….ثم أُغلق مباشرة. فابتعدت فيوليتا عن صدره بسرعة وهي تبلع ريقها.
ما زال نبضها في غير موضعه، متسارعًا على نحو غريب. كان شعورًا يصعب فهمه.
فرمشت بهدوء لتتجاهل ذلك الإحساس، ثم خطر لها فجأة،
“.…انتظر. لو كان وجود شخصٍ يكفي لمنع الدخول، كان يكفي أن تختبئ أنتَ وحدكَ. لم يكن عليكَ سحبي معكَ.”
“لو بقيتِ واقفةً هناك وحدكِ، لربما فتح أحدهم الباب بالكامل ورأى وجهكِ مباشرة. كنتُ فقط….أزيل الاحتمال.”
“حقًا؟ لا، في النهاية….سيرون فستاني وسيعرفون أنني أنا، أليس كذلك؟ ثم إن هناك من رآني أدخل إلى هنا أصلًا.”
“آه.”
توقعت منه ردًا آخر، لا هذا الذي بدا كأنه اكتشف الأمر للتو.
فأطلق إيكارت همهمةً خفيفة، وكأنه يقول: صحيح…|لم أفكر بذلك. ثم هز رأسه ببساطة موافقًا على كلامها، فضحكت فيوليتا بمرارة.
يكفي الآن. كان عليها أن تغادر بأسرع ما يمكن.
“على كل حال، سأذهب. لم يكن يجب أن أبقى هنا من البداية….لو دخل أحدٌ قبل قليل لكان—”
قطعت كلامها بنظرةٍ طويلة تجاهه، وكأن شيئًا ما تريد قوله. فمال إيكارت برأسه قليلًا مبتسمًا، ثم تابعت هي ببطء،
“….لورد بيرون، لا تقل لي أنكَ ستخرج مباشرةً بعدي؟”
“بالطبع لا.”
“وماذا ستفعل إذاّ؟”
“سأخرج بعد برهة. بعد أن تغادرين أنتِ.…”
“وكيف أثق بكَ؟”
“….عفوًا؟”
“كيف أطمئن إلى أنكَ ستنتظر فعلًا؟ من قال أنكَ لن تخرج بعدي مباشرة؟”
ضاق نظر إيكارت قليلاً، غير قادر على فهم نوع الإجابة التي تبحث عنها. ثم أجاب،
“إذاّ….هل تريدين مني أن أخرج أولًا أمامكِ لأثبت لك ذلك؟”
“هل جننتَ؟ ربما رأى أحدهم فستاني قبل قليل! إن خرجتَ الآن فسيظن الجميع أننا كنا معًا هنا!”
“لكن يبدو أنكِ تصرّين على رؤية خروجي بأم عينكِ.”
“صحيح.”
“لكنني في النهاية لا أستطيع الخروج قبلكِ.”
“لا يمكنك الخروج….لكن يمكنكَ الهرب.”
تجمدت ملامحه في دهشة. فأومأت فيوليتا وهي تبتسم بلطفٍ مبالغٍ فيه.
“….أتعنين أن أقفز من هنا؟”
“تستطيع، أليس كذلك؟”
“وإن لم أستطع….ماذا ستفعلين؟”
“لا يمكن. ستستطيع. عليكَ ذلك.”
الوجه الواثق الذي رآه منذ لحظاتٍ تحطم تمامًا. فهذه شرفة الطابق الثاني من قصر فلاديمورو.
“هذا ثمن مغازلتكَ لي.”
“ألـ….ألا تعتقدين أن هذا….قاسٍ قليلًا؟”
“أبدًا.”
قاطعته بابتسامةٍ مشرقة، فازداد لون وجهه قتامةً وهو يرمق الشرفة.
“لا أظن رجلاً مثلكَ، أنيقًا وراقيًا، من النوع الذي يورّط امرأةً ثم يتخلى عنها. صحيح؟”
“….تُحسنين غرز الخنجر بكلماتٍ لطيفة جدًا.”
تقدّم إيكارت بخطواتٍ بطيئة نحو الحافة. ثم خرج منه ضحكٌ قصيرٌ مرير.
كان المشهد اشبه بمن يُدفع إلى حافة منحدر، لكنها بالتأكيد مجرد أوهام. فهذا مجرد طابق ثانٍ….نظريًا.
لم تتوقع فيوليتا حقًا أن يقفز كالأحمق. فطابق فلاديمورو الثاني لم يكن بطبيعي. ومع ذلك، التفت إليها بوجهٍ هادئ على نحو غريب.
“أريد ضمانًا.”
“….ضمان؟”
سألته بنبرةٍ متوجسة. بحدّق بها لحظة ثم ابتسم واقترب صوته منها كهمس منخفض.
“أنا كنتُ هنا أولًا. الضيف الذي دخل لاحقًا….كان سموكِ.”
“وماذا يعني هذا؟”
“المشكلة الحقيقية ليست أني أزعجت سموك….بل أن سموك ِهي من وطئت المكان الذي كنت فيه. وهذه المشكلة—ستنعكس عليكِ أنتِ، لا عليّ. ولا أرى سببًا يجعلني أصلح هذا الموقف بالقفز من هنا فقط لأجلكِ.”
____________________
يضحك ذي قاعده تقوله بصراحه اىْتحر قدامي ذلحين😭 الموت ولا المذلة
مره يضحك بس مسكين طرف ثالث هااااهاهاعها
المهم اشوا قلبها مانبض له مره ثانيه ماغير تنرفزت منه مره اشوا
التعليقات لهذا الفصل " 29"