“منذ أن عثرت عليكِ بدل تلك الأميرة الحمقاء التي لا تملك سوى حق الوراثة، لم أجد انتقامًا أروع من هذا. فحتى لو قلبتُ غرانتونيا رأسًا على عقب، فلن أحتاج إلى حرب، ولا حتى إلى معركةٍ صغيرة واحدة.”
حتى لو انهارت الأسرة الملكية تمامًا على هذا النحو، فلن تهبّ على غرانتونيا حتى نسمةً من رياح الدم بسبب ذلك.
ورغم أن هذه الطريقة في نظره شديدة الفاعلية، فإن الكلمات التي لفظها بصوته العذب كانت من أسوأ ما يمكن أن يُقال داخل القصر.
ولم يكن الأمر غير متوقعٍ تمامًا. فحتى وإن لم تفكر بجدية في الزواج أو إنجاب وريث، فإن مجرد فكرة جعلها ملكةً كانت ضربًا من الانقلاب في حد ذاتها.
لكن ما لم تتوقعه هو أن تكون هذه الخطوة ليست حلًّا مؤقتًا فرضته الظروف الطارئة، بل الهدف النهائي نفسه…..هدفًا سيمتد أثره حتى سلالة الأحفاد.
‘لم أتوقع أن أكون دائماً مزيفة، لا حقيقية…..ويكون ذلك سببًا في كوني الخيار الأكثر كمالًا.’
***
منذ تتويج الملك، لم يُفتح قصر بلاديمورو قط، ولهذا ضجّت العاصمة كلها.
ففي الأيام الماضية، لم يكن هناك حديثٌ في مقاهي المدينة بين النبلاء والطبقة المتوسطة والعمال سوى هذا الأمر.
زواج الملك من الملكة جرى قبل اعتلائه العرش، وحتى في يوم ميلاده لم يكن يفتح بلاديمورو قط، ولذلك اعتقد الجميع أن المرة التالية التي سيفتح فيها القصر ستكون بعد وفاة الملك.
وقد انهالت الطلبات كل عامٍ في يوم ميلاده لفتح بلاديمورو، لكنه كان يرفض دائمًا بجملة واحدة: “ترفٌ غير ضروري”. وكانت هذه إحدى القلائل من القرارات التي نالت تقييمًا حسنًا في عهده.
ففتح بلاديمورو لمرةٍ واحدة فقط كان يتطلب تكلفةً باهظة.
ومرّ أكثر من ستمئة عام منذ أن تحوّلت تلك القرى الصغيرة في طرف القارة الغربية إلى مملكة.
وإن كان إديلغارد قد رافق العائلة الملكية قبل ثمانمئة عام في بداية تلك المملكة، فإن بلاديمورو كان رمزًا لبداية المملكة قبل ستمئة عام—بهيبته الشاهقة، وتفاخره الأنيق، وبنائه العظيم الذي أقيم خصيصًا للملك وحده.
وخلال أكثر من ستمئة عام منذ قيامه، نادرًا ما فُتح بلاديمورو لغير الملك، حتى أن الأمر كان ضمن قائمة جرائم الطاغية الذي خُلع قبل مئة عام.
وحتى الملك الذي عُرف بحكمه الرشيد تعرّض للانتقاد لأنه فتح بلاديمورو في زفاف ولي العهد.
ومع ذلك، كان لكلٍ منهم مبرره الخاص: يوم ميلاد الأميرة التي ولدت بشق الأنفس، زفاف الأمير المحبوب، جنازة الملكة العزيزة، أو جنازة الابنة الصغيرة التي توفيت مبكرًا…..
لكنّ كل تلك المبررات، مهما بدت مؤثرة، كانت تسقط لأنها لم تكن لأجل الملك نفسه.
كلها اعتُبرت شؤونًا شخصية. أما الآن؟ فلا يوجد حتى ذريعةٌ هشة يمكن التمسّك بها.
فالأميرة الخامسة ليست راشدة، ولا يوم ميلادها مناسبةٌ نادرة، وبالطبع لم تمت.
إنها فقط صارت “موجودة” رسميًا في القصر.
ورغم أن حبسها كان ظلمًا، وحتى لو تعاطف الجميع مع طفولتها التي سُلبت منها، فذلك لا يكفي. فحجزها كان تقليدًا من تقاليد العائلة الملكية، وقرارًا صادرًا من الملك نفسه.
والحديث علنًا عن فتح بلاديمورو تعويضًا لحبسها يعني معارضةً للملك وهدمًا لتقاليد القصر، وهو أمرٌ مستحيل.
لذا، وبغض النظر عن الظروف، لم يكن هناك أي مبرر رسمي.
ولهذا علت الضجة. فبعد أربعة وعشرين عامًا كاملة، يُفتح بلاديمورو من أجل مجرد أميرة، بلا أي سببٍ معلن—مع أنه لم يُفتح حتى في ميلاد الملك، ولا بعد وفاة ولي العهد قبل أشهر قليلة.
وتراكمت الرسائل المجهولة على أسوار القصر. وبعض كبار النبلاء أصدروا بيانات اعتراضٍ مختومة بأختام عائلاتهم، والمثقفون أرسلوا مقالات احتجاجٍ إلى الصحف.
وكانت اعتراضاتهم طبيعية. لكن صبيحة اليوم السابق للوليمة، أغلق الملك بالقوة خمسًا من الصحف التسع في العاصمة، وأحرق بعضها.
ورغم أن هذا الإجراء لم يكن بقدر بطشه المعتاد، فإن الهدوء حلّ فجأة على المدينة بعد ذلك القمع الخفيف.
فالجميع ما زال يتذكر رعب الملك، ويعرفون أن ما حدث قد يكون مقدمةً لرعبٍ جديد.
وفي المقابل، فإن فتح الملك لبلاديمورو لأجل أميرة واحدة دون أي مبرر—مع أنه كان يغلقه حتى في يوم ميلاده—كان دليلًا واضحًا على المكانة الخاصة التي تحتلها تلك الأميرة لديه.
وهذا أحد أسباب خفوت الاحتجاجات سريعًا؛ فقد كان خصمًا شديد الخطورة ليهاجمه أحدٌ بالقلم.
وهكذا طفت على السطح قصة الأميرة المحبوسة التي كان العامة يهمسون بها كما لو كانت حكايةً شعبية.
ورغم أن القصة انتقلت صاخبةً عبر النبلاء ومنها إلى الطبقات المتوسطة، فإن العامة الذين لا يفهمون خفايا السياسة تعاطفوا معها فقط لأنها لم تكن حمقاء كما شاع، ولأن حياتها كانت مظلومة. ولذلك وقف معظمهم إلى جانب الملك.
وفوق ذلك، ألم تفقد شقيقها الأكبر وخالها قبل عدة أشهر؟ كان حسنًا أن الملك لم يهمل الأميرة الخامسة. وهي تستحق أعظم تعويض.
وهكذا مضت القصة.
***
كانت العربة التي تستقلها فيوليتا وحدها، بعد أن ركبت وصيفاتها عربةً أخرى، هادئةً لا يُسمع فيها سوى وقع حوافر الخيل البعيد.
حدّقت فيوليتا في المقعد الفارغ أمامها وهي تستعيد بهدوء الأحداث التي سردتها ميلويلا ذلك الصباح.
ورغم أن البداية كانت مشتعلةً بالجدل والاعتراض، فإن النتيجة لم تكن سيئة. بل لعلها كانت أفضل بداية يمكنها الحصول عليها.
مكافأة الملك كانت أفضل مما توقعت.
صحيحٌ أنها متعبة ومرهقة ومزعجة، لكن تأثيرها على النبلاء والطبقات الراقية لم يكن سوى جانبٍ ثانوي، أما ذلك التأييد الشعبي الهائل وغير المتوقع فقد كان شيئًا لم تحلم به.
فقد منحها الملك حتى قلوب الناس. حتى أنه ضحّى ببعض ما كان يُعد من السياسات الحسنة القليلة في عهده.
لكن…..هل خسر الملك حقًا شيئًا من كل هذا؟
ابتسمت فيوليتا ابتسامةً ساخرة خفيفة.
لا شكّ أن إغلاق الصحف وحرق بعض المباني سيُبقي انتقادات المثقفين كامنةً لفترةٍ تحت السطح، لكنّ السلطة الملكية لم تكن يومًا قويةً بفضل أقلام المؤيدين لها أصلًا.
فالسلطة الملكية راسخة بذاتها. ومنذ مئة عامْ تلاشت الحدود التي كانت تفصل بين الملكيين وحزب النبلاء، وتلاشت الكلمة نفسها من الذاكرة، ولم يعد هناك أحمقٌ يجرؤ على الوقوف علنًا في صفٍّ مناوئ للملك.
كان هذا القدر من الاحتجاج مجرد واجبٍ تملي على أصحابها مكانتهم أو ثقافتهم.
بل على العكس، فقد كسب الملك شيئًا.
أسندت فيوليتا ظهرها براحةٍ وهي تتأمل النافذة التي بدأت تغرق في العتمة.
ثم دخلت العربة باحة القصر الملكي وأخذت تُبطئ تدريجيًا. وما إن أدركت قدماها الأرض التي تطؤها حتى شعرت بنفور غريزي يتصاعد بداخلها، إحساسٌ فطري بعدم الارتياح.
‘ما الذي كسبه الملك؟’
تمتمت لنفسها، ومدّت يدها تسدل الستار الصغير. ومع اختفاء المشهد الذي كان يزعجها، بدأ ذهنها يصفو قليلًا.
لقد فعل الملك ما كان يكفيه التظاهر به فقط. فالعامة يعرفون أن بلاديمورو مكانٌ عظيم، لكنهم لا يعرفون مدى عظمته.
وكان يكفي أن يُظهر نيته في فتحه لينفجر النبلاء احتجاجًا، لكنّ تراجعه وحده سيجعل العامة يرونه بخيلًا أو غير مُنصِف.
ومنذ سنوات كانت تنتشر في العاصمة شائعةٌ تقول أن الملك يكره ولي العهد. لم يتخيل أحدٌ أنه يكرهه إلى حدّ تركه يموت، لكن بعد وفاته بات من الصعب التكهن بمدى تطور تلك الشائعة.
ومع ذلك، فإن لامبالاته بعد موته وحدها كانت كافيةً ليُقال عنه أنه أبٌ قاسٍ.
وربما أراد الملك محو تلك الشائعة، بل من المؤكد أنه فعل. فمجرد أن تحظى شقيقة ولي العهد الوحيدة من الأم نفسها بهذا الاحتفاء كان كافيًا لنسف كل الاتهامات.
وبهذا بدا الملك “أبًا” بحق. و رغم أن فيوليتا كانت الأكثر استفادةً من كل ما حدث، فقد أحست بانقباضٍ في صدرها.
وبينما كانت أفكارها تتشابك بلا نهاية، توقفت العربة أخيرًا. وتوقفت معها خيوط تفكيرها.
ولم يُفتح الباب فورًا، وهذا يعني على الأرجح أن دخول أحدهم ما يزال جاريًا.
وبصفتها الشخصية الرئيسية الليلة، كان يجب أن تدخل بعد الجميع، باستثناء الملك.
سمعت ميلويلا في الخارج تطلب منها الانتظار باحترام، فأجابت بإيجاز.
و لو أنها دخلت فور وصولها لكان الأمر أسهل بكثير، بدل هذا الانتظار السخيف الذي يزعمون أنه “تنسيقٌ للوقت”.
حرّكت قدميها بضجر وهي تتأكد من ثوبها.
أما انزعاجها من الطبقات الكثيرة المعقدة فكان أمرًا تحتاج لتحمله، لكن ملامحها ظلت محافظةً على السكينة المتعالية التي بثّتها فيها أغنيس بإتقان، ولم ترتجف أناملها وهي ترتّب ثوبها.
لو استطاعت فقط أن تحافظ على هذا القدر من الثبات…..
أغمضت فيوليتا عينيها بقوةٍ كمن ينتزع تماسكه من أعماقه، ثم فتحتهما مجددًا.
وفي تلك اللحظة، جاءها صوتٌ يناديها من جديد، بصوتٍ مصقول حد الاستفزاز،
“لقد انتظرنا طويلًا، يا صاحبة السمو.”
وقبل أن ترد، فُتح الباب. وأمسكت يدٌ ممدودة بها لتساعدها على النزول. و اتسعت عينا فيوليتا بدهشة. فقد ظنّت أنها ستدخل وحدها.
كان شعره الأسود القاتم القصير مرتبًا كما اعتاد، وبدلته البيضاء المحكمة على جسده الطويل بدا أنها خُففت بإزالة السترة بسبب حرارة اليوم.
لم يكن عليه أي زينة، ورغم ذلك بدا الرجل لافتًا—سواءً بسبب اللون الأبيض، أو بسبب وسامته الفاضحة.
فأبدت فيوليتا إعجابًا صامتًا لم يعد يبهرها كما كان.
نعم…..قشرته الخارجية حقًا مذهلة.
“هل يمكنكَ مرافقتي؟”
“إن لم أمسك أنا يدكِ……فمن تراه يجرؤ على ذلك؟”
ردّ راكييل بصوتٍ منخفض وحنون وهو يجذب يدها نحوه.
و كانت ابتسامته الدائرية تبدو لها خبيثة، لكن من لا يعرف خلفية الأمر كان سيظنه رجلًا متيمًا يفيض غيرةً وحبًا.
زفرت فيوليتا ضحكةً قصيرة، وانتزعت يدها بخفة ثم وضعتها مجددًا فوق يده بالطريقة اللائقة. فضحك راكييل بسخرية خفيفة، ثم شدّ يدها بين يديه بقوةٍ طفيفة.
‘هو لا يعرف الهزيمة أبدًا.’
رمقته فيوليتا بطرف عينها قبل أن تتبع الخادم إلى الداخل.
كان الممر العتيق المتصل بالمدخل هادئًا بشكلٍ مريب، يكاد يجعلها تشك أن الليلة بالفعل ليلة احتفال.
لكنّ الأمر كان طبيعيًا، فقد دخل الجميع قبلها. ومع ذلك، وجدت نفسها تنظر إلى الممر بنظرةٍ غريبة لم تستطع تفسيرها.
اصطفّ الخدم على الجدران متباعدين، وكلما مرّت فيوليتا ومن معها كانوا يعلنون دخولها بصوت عالٍ.
كانت الأصوات ترتد إلى السقف العالي وتتشابك كالصدى، ومع كل نداء كان نبضها يتسارع أكثر فأكثر.
وحين اقتربت. ارتفع صوتٌ آخر خافت من خلف الباب،
“تتشرف سمو الأميرة فيوليتا دي غرانتونيا مور إيدلغارد بالحضور!”
“و الدوق إيدلغارد تدخل!”
ومع ذلك النداء الأخير، انفتح الباب العتيق مُطلقًا صريرًا عميقًا يشهد على قِدمه. واتّسع الشق الضيق شيئًا فشيئًا حتى تدفقت منه أنوار القاعة كمن يخرج من ظلمة كهفٍ ليجد فجأةً بوابة الشمس أمامه.
أغمضت عينيها لشدّة الضوء، رغم أن الممر الذي جاءت منه لم يكن معتمًا أصلًا.
و دون أن تشعر، شدّت فيوليتا على يد راكييل التي تسندها من تحت، وكأنها تتمسّك بما تبقّى من ثباتها. فضغط هو بدوره على يدها بخفة وضحك ضحكةً منخفضة.
كم هو ساخر…..هو من دفعها إلى هذا الجحيم، ومع ذلك لم تجد شيئًا تستند إليه سواه.
ورغم كل شيء، أحسّت براحةٍ خفيفة في قوّة قبضته.
‘نعم…..سأكون بخير. سأصمد.’
كرّرت ذلك في داخلها مرات كثيرة.
ثم…..خطت فيوليتا داخل الضوء. ضوءٌ ساطع، حدّ العتمة.
***
في غرانتونيا، يكون أوّل نخبٍ لافتتاح أيّ حفل حقًا لصاحب المناسبة وحده. وهو أمرٌ خاص بهذه البلاد، إذ إنّ معظم الممالك الأخرى تمنح هذا الشرف لسيد العائلة، حتى لو كان الحاضر هو الملك نفسه.
غير أن ما شعرت به فيوليتا حين دخلت لم يكن مجرد صمت الاحترام المعتاد. كان صمتًا متوتّرًا، غريبًا، كأنّ الهمهمة تدور تحت جلد الهدوء نفسه.
فرفعت بصرها على السلالم الطويلة المفروشة بسجاد فخم، و رأت الملك واقفًا هناك.
كانت أضواء الثريا العملاقة تنكسر على آلاف قطع الكريستال وتتناثر كالشرر على القاعة، وفي وسط كل تلك الشظايا اللامعة كان يقف وحشٌ يبتسم بهدوء.
ابتسامةٌ كسيحة، وادعة، كوحشٍ شبع من الصيد ويراقب فريسته بتكاسل.
هل كان هذا عقابًا أم مكافأة؟ لم تعد تدري. قابتلعت فيوليتا ضحكةً خاوية.
لأجل أميرةٍ ظهرت بعد ثمانية عشر عامًا من الغياب، كُسر تقليدٌ خُصص لأعظم شخصية في البلاد.
الملك الذي يجب أن يدخل آخرًا…..انتظر الأميرة. والأميرة دخلت في النهاية، قبله.
وفي الـ”بلاديمورو” تحديدًا. آلاف الأعين تلاحقها بين الاستغراب والادعاء بالأناقة. لا أحد يعرف هل هو جنون الملك؟ أم ظهور الأميرة؟ أم الاثنين معًا؟
ضغط راكييل على يدها قليلًا، وكأنه يقول لها: انتبهي. فردّت عليه بالمثل وهي تتقدم. و خلفها أُغلق الباب بصوتٍ ثقيل، قاطعًا أي طريقٍ للعودة.
اصطفّ الناس على الجانبين لصنع ممرٍ لها، ولم يبقَ أمامها إلا السير. فنزلت الدرج بخطواتٍ رشيقة منضبطة، وعند آخر درجةٍ أفلت راكييل يدها بكل احترام.
ومع كل خطوة كانت الصفوف تنحني لتحيتها كموجٍ هادئ يتراجع عن الشاطئ.
التعليقات لهذا الفصل " 25"