حتى في هذا العنوان الموجز، كم كان تحرّر البطلة صادمًا. ذاك الكتاب الذي اختلف الناس حوله طويلًا: أهو أدبٌ رفيع أم مجرّد تأثيرٍ خاطئ للمرأة….
لمعت عينا فيوليتا بالفضول وهي تمدّ يدها لالتقاطه. لكن بالرغم من طولها اللافت بالنسبة لامرأة، لم تصل أطراف أصابعها إلا بالكاد إلى سيّدة دوفاري الجالسة عاليًا هناك.
كان رف الكتب مرتفعًا بشكلٍ غير طبيعي لأن في المكتبة أمينًا مسؤولًا عن إخراج الكتب، لكن طلب مثل هذا الكتاب منه….لم يكن بالأمر السهل. فلو جرّ السلم وأخرج لها هذا الكتاب، بأي وجه كانت ستتسلّمه؟
لكنها اليوم ارتدت حذاءً منخفضًا كي تبدو هادئةً ورزينة، فصار طولها غير كافٍ.
أطلقت نقرةً خفيفة بلسانها وهي تتكلف الوقوف على أطراف قدميها، تئنّ محاولةً بلوغ الكتاب، لكنه بقي بعيدًا….قريبًا حدّ اللمس، بعيدًا حدّ العجز.
كان كتابًا لو وجدته في متناول اليد لتصفّحته قليلاً ثم أعادته، ولو كان أعلى مما يبلغها لما فكرت فيه أصلًا. لكن كونه يوشك أن يطال يدها دون أن يصلها أثار فيها عنادًا غريبًا، رغبةٌ حارقة في أن تراه مهما كلّف الأمر.
وفيما كانت تكرر محاولاتها الفاشلة، امتدت يدٌ لطيفة وقبضت على يدها بخفة.
“إخراج كتابٍ بهذه الطريقة خطرٌ يا آنسة.”
ارتطم بأذنها صوتٌ منخفض، دافئ وهادئ.
وفي غمرة المفاجأة، أنزلت فيوليتا يدها كما أرشدتها تلك اللمسة، واقفةً بانتظارٍ مطيع دون وعي.
وقف الرجل خلفها، وبيدٍ واحدة فقط سحب الكتاب الذي كانت بالكاد تبلغ طرفه. ورغم أنه وقف مبتعدًا عنها بأدب، فإن رؤية يده تعبر بجانبها للنزول بدت وكأنه يطوّقها من الخلف.
فزعت فيوليتا من ذلك القرب الزائد وقفزت مبتعدة. فابتسم الرجل كمن يشعر بحرجٍ طفيف.
و استدارت فيوليتا نحوه، تحدّق في وجهه المبتسم….مذهولة.
“أهذا هو الكتاب الذي تبحثين عنه يا آنسة؟”
“….…”
“آنسة؟”
“.……”
“هل علِق شيءٌ بوجهي؟”
“لا….أعني….ابتسامتكَ جميلةٌ فحسب.”
كانت أشعة الشمس تتسلل مائلةً بين رفوف الكتب، تتكسر على شعره البني الفاتح كأنها تضيئه. للحظة غريبة….للحظة فقط، كان و كأن الزمن توقّف.
كانت عيناه حين يبتسم تنحنيان بانسيابٍ جميل حقًا. لكن دون شك، ما قالته كان جنونًا خرج من فمها دون أي تفكير….
‘ما الذي قلته للتو؟ يا إلهي!’
تجمدت فيوليتا في مكانها. و الشاب الذي ابتسم بحرج لجوابها المفاجئ، لم يتملّك نفسه حين رأى ذعرها فضحك بخفوت.
كان سماع جملةٍ كهذه في وعيٍ صافٍ أمرًا يورث خجلًا حارقًا. فكيف إذا قالها رجلٌ بهذه الوسامة….وبهذه الجدية؟ فكرت فيوليتا بوجنتين محمرّتين دون أن تنتبه لنفسها.
اجتمع عليها الذعر والارتباك دفعةً واحدة. وبعد وقفةٍ طويلة تحدّق فيه كالمغيَّبة، أفاقت أخيرًا وخطفت منه الكتاب بسرعة.
لاحظت عينيه التي كانت تتسعان دهشة، لكنها لم تكترث.
عشرات الكتب الرصينة والمحترمة حولها، فلماذا بالتحديد….هذا؟ هل رآه؟ هل عرف محتواه؟ هل.…؟
وبينما كانت تتراجع خطوةً تلو أخرى دون وعي، تخلّت تمامًا عن أي حديثٍ أو تفكير. كان عليها فقط….أن تهرب.
“آه.…”
“لا عليكَ….حسنًا، أنا سأذهب الآن!”
هتفت بسرعة، لكن بخفوت شديد مراعاةً لحرمة المكتبة، ثم استدارت بجمودٍ تام.
كانت تظن أنها بدأت بالمشي إلى الأمام. تظن فقط.
“…هلّا تتركني الآن؟”
“آه، المعذرة.”
أدارت رأسها بصلابة. كان الرجل—على غير ما يوحي به صوته الهادئ—قد أمسك بطرف فستانها. وبرغم كلمة الاعتذار المهذبة، لم يتحرك إصبعه قيد أنملة.
“يدكَ….لو سمحت؟”
“سأتركها إن وعدتِ ألا تهربي.”
قال ذلك بصوتٍ منخفض أقرب إلى الهمس، يليق بمكانٍ هادئ كهذا. لكن بدلاً من أن ينبض قلبها لصوته الساحر، استجمعت كل هدوئها ونظرت إلى الكتاب في يدها.
كان مقلوبًا بين أصابعها، يُظهر صفحة المقدمة بكل جرأة: [المرأة الكاملة، لا يجب أن تبقى المرأة في بيتها فقط، ثم……هل يحق لهم الحكم عليها فقط لأنها امرأة؟]
رفعت فيوليتا رأسها بهدوء، واستدارت نحوه.
لم يُكتشف شيء بعد. نعم….لا يزال هذا الرجل يرى فيها امرأةً جميلة. وحتى لو كان جمالاً نسبيًا أو مجاملةً شكلية، فقد قررت ألّا تفكر في ذلك الآن.
أدارت جسدها قليلًا نحوه. و ظنّ الرجل أنها ستبقى قبالته، فخفف قبضته على الفستان فورًا.
‘الآن تمامًا.’
“أود معرفة اسمكِ يا آنسة-”
لكن فيوليتا كانت قد انطلقت تركض دون أن تلتفت. ومع ذلك، لم تنسَ — كما تربّت — أن ترفع طرف فستانها برشاقة وهي تجري.
كان جريها قويًا وأنيقًا في آن، حتى أن الرجل وقف مذهولًا، عاجزًا عن إكمال جملته، يحدّق فقط في ذاك الذيل الحريري الذي ابتعد متمايلًا بين رفوف الكتب.
***
“سموكِ، ماذا تفعلين هنا؟ لقد بحثت عنكِ طويلًا.”
قدّمت فيوليتا الكتاب إلى ديانا بوجهٍ متعب. فأخذته ديانا بيدها الفارغة.
“وهذا ماذا.…؟ سموك، لا ينبغي أن تُعجبي بأشياء كهذه بهذه السرعة.”
“أنا لا أحبها.”
“هل كنتِ مختبئةً هنا لقراءته؟”
صارت فيوليتا — من حيث لا تدري — تلك الفتاة التي تختبئ في الزوايا لقراءة روايةٍ نسوية. لم يبقَ لديها حتى القدرة على الإنكار.
“….أعيديه.”
عند الأمر القصير، دفعت ديانا إليها الكتب التي كانت تحملها بيدها الأخرى بتكاسل.
“هذه المرة ابقَي هنا بهدوء، مفهوم؟”
تمتمت متذمرةً وهي تبتعد، شاكيةً أنها قبل قليل طلبت من فيوليتا الانتظار بلا داعٍ.
‘يا لها من عديمة ذوق….’
تمتمت فيوليتا بيأس.
بعد رحيل ديانا، وقفت فيوليتا تحدّق في الأرض أو في زخارف الجدار بلا معنى، ثم أسندت ظهرها إلى الحائط، رافعةً يدها لتغطي خدّها.
الخد الذي احترق حرارةً قبل لحظاتٍ كان الآن باردًا كأن شيئًا لم يكن، حتى نبضها الهادئ عاد يختفي.
لم تختبر شعورًا كهذا من قبل….طوال حياتها لم يوبض قلبها لرجل إلا خوفًا أو غضبًا أو فزعًا. وحتى عندما رقصت مع راكييل في المرة السابقة، كان ذلك بسبب المفاجأة، لا أكثر. طبعًا، لا أكثر.
فهل هذا ما يسمّى….بالنبض الجميل؟ بالانجذاب؟ كلا، أي فتاةٍ كانت ستضطرب لو قال لها رجلٌ بهذا الجمال تلك الكلمات.
ما اسمه يا ترى؟ كم بدت مثيرةً للشفقة قبل قليل….
وبينما تستعيد الأحداث، ارتسمت بسمةٌ مريرة على شفتيها. فقد أدركت أخيرًا ما الذي جعلها تهرب منه حقًا.
لم تكن تخشى أن تنتشر إشاعة سخيفة عن “الأميرة الخامسة التي بدأت عادتها تقرأ كتبًا متمردة منذ عودتها”. لم يكن ذلك يهمّها أصلًا.
كانت المشكلة أنها — لوهلة قصيرة، إلى حد الحماقة — نسيت موقعها الحقيقي. نسيت أنها ليست فتاةً عادية. وأن الظهور بمظهرٍ مخجل أمام شاب وسيم في مثل عمرها….كان أمرًا لا تطيقه.
حدّقت فيوليتا في ذيل فستانها الفخم، وقضمت شفتها.
‘لا تنسي. من أنتِ.’
“سموك؟”
ظهرت ديانا في اللحظة التي حملت فيها الكتب من يد فيوليتا اليسرى، ونادت عليها باستغراب. فتقدمت فيوليتا بصمت.
“لم تنسي أن الدوق إيدلغارد أرسل رسولًا صباحًا، أليس كذلك؟ قال أنه سيزوركِ وقت الظهيرة.”
“وسأحتفظ بسرّ قراءتكِ لـ『سيّدة دوفاري』، لا تقلقي.”
“نعم….ماذا؟”
“في مثل سنكِ، الفضول تجاه أمورٍ كهذه طبيعي تمامًا. فلا تخجلي.”
“هاه.…”
زفرت فيوليتا بصوتٍ منخفض، عاجزةً عن الرد على نبرة ديانا المتفهمة، التي تعاملت معها كأخت صغيرة دخلت سن المراهقة.
وحين دخل راكييل، يتبعه صفٌ كامل من الرجال والخدم، قطّبت فيوليتا حاجبيها بشك. بينما اقترب راكييل منها بابتسامةٍ مشرقة لا تشبهه، وأمسك يدها بخفة ورفعها نحو شفتيه ليطبع عليها قبلة.
كان تصرفه فظًا حدّ الوقاحة، لكن طبيعته المفرطة جعلتها تبدو مجرد تحيةٍ دافئة لا تستدعي الغضب.
كان راكييل قد جلب معه ما يقارب ستة من خدم القصر، كل واحد منهم يحمل شيئًا مختلفًا.
و اكتفى هو بالجلوس قربها براحة قبل أن يومئ للخادم الأول. وحين اقترب، ظهر على الوسادة المخملية التي يحملها شيءٌ صغير متلألئ.
فانحنت فيوليتا قليلًا تنظر إليه. و كان سلسلةً رفيعة تبرق تحت الضوء.
“إنه ألماسٌ أصفر.”
رفع راكييل السوار عن الوسادة المخملية، وجذب ذراع فيوليتا إليه بلطف ليضعه بيده حول معصمها.
فانساب السوار على بشرتها البيضاء كأنه صُنع خصيصًا لها، لكنه لم يلفت نظرها قط—و ظلت تحدّق في راكييل بملامح متوجسة.
ثم همست بصوتٍ لا يكاد يُسمَع من وصيفاتها،
“قلتَ أننا سنأكل فقط.”
تظاهر راكييل بأنه لم يسمع شيئًا، ولوّح للخادم التالي. وهذه المرة….كانت الأقراط.
من دون أن يستأذن، مدّ يديه وأزال الأقراط القديمة من أذنيها واحدةً تلو الأخرى، ثم علّق الجديدة مكانها.
بدا المشهد رومانسيًا من بعيد، لكن يديه الخشنتين قليلًا—بسبب قلة الخبرة—أوجعتاها في كل مرة دفع فيها القرط ليثبّت.
كان الألم سرًا صغيرًا بينها وحدها. بل إنها كانت ترى لويز تحدّق مدهوشة، وميلويلا وديانا تحمران قليلًا وهما تراقبان.
ربما بسبب بريق الأحجار….أو بسبب هذا الرجل الذي يُخفي تحت مظهره البارد وسامةً لا تُقاوَم….أو ربما بسبب الاثنين معًا.
في النهاية، بدا المشهد جذابًا بالفعل—كما أراد هو بالضبط.
“هذا أيضًا ألماسٌ أصفر. كل القطع صاغها الأقزام بأنفسهم.”
ثم أضاف بابتسامةٍ رخوة، بصوتٍ منخفض لا يسمعه سواها،
“جرّبتُ أن أقلّد ذاك المجنون قليلًا.”
فضحكت فيوليتا بخفة.
الأقراط الثقيلة تدلّت من أذنيها وكأنها تحمل وزنًا يليق بثمنها. ثم جاء دور العقد. كان من الطقم نفسه، أحجار الألماس الأصفر تحيط بها لآلئ دقيقة، غير أن القلادة كانت أكبر بكثير، لدرجةٍ تبهر العين منذ النظرة الأولى.
نظرت فيوليتا إليه بوجهٍ يبتسم بسعادة رقيقة بينما خرج صوتها كأنفاس هامسة،
“راكييل….هل لديكَ وقت فراغ لدرجة أن تفعل كل هذا؟”
“هل أبدو فارغًا من الأعمال؟”
“إذًا لماذا تأتي بنفسكَ؟ كان يمكنكَ إرسال الأشياء فقط….لماذا كل هذا؟”
لم تكن تفهم سبب المبالغة.
عندها، تسلّلت يده الباردة بين شعرها المضفور وعنقها، ثم أحاط العقد المتجمد بشرتها. و رتّب شعرها بخفة بعد أن بعثره قليلًا وهو يلبسها القلادة.
“لأنه يجب أن نبدو….مميزَين. ثم إن المبالغة في أول مرة….أكثر تأثيرًا من عشر مراتٍ لاحقة.”
ومع الهمس، مرّت أصابعه على طرف ذقنها قبل أن يبتعد.
“هل تريد أن تظهر كمتيمٍ أخرق؟”
“هذا التعبير مزعجٌ قليلًا.”
“وماذا تسمي ما تفعله الآن؟ ما هذا السخف!”
كانت الخطوة التالية زينةً صغيرة، مرصعةً باللآلئ. وضعها فوق رأسها بابتسامةٍ ساحرة، لا تتوافق إطلاقًا مع نبرته اللا مبالية،
“يجب أن يبدو الأمر مبالغًا فيه قليلًا.”
“حقًا؟”
“لهذا لا يعجبني رد فعلكِ الآن.”
كان ينبغي لهذه الأشياء أن تثير الدهشة….لكنها فاخرة إلى حدّ لا يشبه أي شيء اعتادت عليه.
لم تستطع حتى أن تُبدي إعجابًا طبيعيًا. كل ما على ذراعها، وأذنيها، وعنقها، ورأسها كان أشبه بحلمٍ بعيد عن واقعها.
فكرت للحظة: كيف تُظهر سعادةً أكبر من دون أن تبدو كمن يلهث خلف المجوهرات؟ فلو بالغت في الفرح بدت مبتذلة.
ربما…!يكفي أن تعانقه لاحقًا؟
وبينما كانت تفكر، ظهر أمامهما فستانٌ أخضر داكن، فخمٌ بطريقةٍ هادئة.
كانت خيوط الذهب مطرزةً حول الكمّين وحافة الصدر وطرف التنورة، تمنحه فخامةً لا تُبالَغ فيها.
“هذا صنع يد أحد حرفيي البلاط الملكي في برانزيل…..وللأسف، لا يمكنني أن ألبسه لكِ بنفسي.”
رمقته بعينين تلمعان ضيقًا لا يخلو من الدلال، فضحكت الوصيفات بصوتٍ خافت، وبدأت لويز تبالغ بردّة فعلها كعادتها.
لا شك أنها ستكتب روايةً كاملة بعد مغادرة راكييل.
“وهذه الأحذية…..صنعها الحرفي نفسه.”
كانت تلمع كالعاج المنحوت، وقد انحنى راكييل على ركبة واحدة ليساعدها على ارتدائها.
كان المشهد يشبه لحظةً في حكاية خرافية ستنتهي عند منتصف الليل…..لكن حين رفع رأسه نحوها مبتسمًا بتلك الطريقة، انتابها شعور غريب، مختلف.
مهما كانت هي، ومهما كان هو، فقد بدا لها أنها قد تملك لحظةً لمعرفة الحقيقة. لمعرفة معنى ذاك النبض الذي زارها قبل قليل.
فتحدّثت بصوتٍ خفيض،
“راكييل…..قل أني جميلة.”
“….هل جننتِ؟”
حكايات خرافية، أي كلامٍ هذا.
عقد حاجبيه كما لو سمع شيئًا لا يمكن السكوت عنه. ثم أشار بيده نحو الموجودين في الغرفة، فأسرعوا جميعًا بالخروج. و كان آخر من خرج ميلويلا التي أغلقت الباب خلفها.
وعند انقطاع كل الأصوات…..فتح راكييل فمه ليتكلم.
__________________
هو واضح من البطل بس يوم فال هل جننتِ أكد لي انه البطل 😭 ضحكت لايكون يشوفها مجنونه
بعدين لحظه لذا الدرجة العصر محافظ حتى تجرر المرأه عيب ويستحون منه؟ ضحكت يوم قالت نسويه وش هذاااا😂
التعليقات لهذا الفصل " 23"