2
لم يكن من المفترض أن ينجح شيءٌ أصلًا.
هكذا قالت أبيغيل لنفسها، لا يأسًا…..بل استسلامًا.
حلمها الرومانسي بالأمير تبخّر للأبد، لكنها كانت تعزّي نفسها قائلةً أن بإمكانها على الأقل العيش بسلام لعشرين عامًا.
ولمَ لا؟ فالأميرة…..كانت طيبةً حقًا.
قيل أن نمو الأميرة الخامسة توقف عند الخامسة من عمرها.
وفي العائلة الملكية التي تؤمن بنقاء الدم وتفوّقه، لم يكن يُعترف بالأمير أو الأميرة إن وُلدا بعاهة.
لذلك، وبالرغم من أن الأميرة كانت ابنة الملكة نفسها، ما إن ظهرت إعاقتها حتى انتُزعت من حضن أمها، وحُبست في هذا القصر مع مربيةٍ و وصيفتين فقط.
ثم ماتت المربية التي ربّتها كأنها أمها قبل ست سنوات. وماتت إحدى الوصيفتين بعدها بعامين.
وقبل فترة قصيرة…..رحلت الوصيفة الأخيرة أيضًا. وأبيغيل هي التي حلّت مكانها.
عندما قيل لها أن عقل الأميرة بعمر الخامسة، لم تتخيل سوى أشقاءها الصغار ومشاغباتهم الصاخبة.
لكن الأميرة…..كانت، وبكل ثقة، أهدأ طفلةٍ في الخامسة على وجه الأرض.
كل ما تفعله: تستلقي على بطنها لقراءة كتب الرسوم، تجثو قرب الحديقة الصغيرة لتلمس بتلات الزهور، وتهتز قليلًا على أرجوحةٍ قديمة بين الحين والآخر.
وجهها دائمًا مبتسم، لا تصرخ، لا تغضب، لا تعصي، بل تطيع وتضحك، وأحيانًا تسحب طرف فستان أبيغيل وهي تبتسم قائلةً أنها جائعة…..
فتاةٌ صغيرة في الخامسة، وأبيغيل في الثامنة عشرة.
وهذه الفتاة….ماتت.
شعرت أبيغيل كما لو أن ماءً مثلجًا انسكب فجأةً على مؤخرة عنقها.
“من أنتَ؟”
سألته وهي تحدّق في الستار الفاخر الذي يحجب النافذة، وتتخيّل القصر المحترق خلفه.
ها هي تعي الآن…..حقًا. كل شيءٍ انقلب.
مستقبلها الذي تخيّلته، وواقعها الذي أرغمت نفسها على تقبّله…..كل ذلك تشوّه وتمزّق.
“لماذا ماتت الأميرة؟ ولماذا أنتَ هنا؟ وكيف…..كيف وصلنا إلى هذا؟”
تقطّعت كلماتها المرتبكة. لكن الرجل انتظر حتى انتهت دون مقاطعة.
“ذلك الذي قلته لي….ماذا يعني؟ أنتَ….من تكون؟”
“…….”
“من…..تكون؟”
مال برأسه قليلًا، و عيناه معلّقتان على النافذة وراء الستار، ثم التفت إليها.
وقد بدا نظره بينهما…..شؤمًا بحد ذاته.
ثم تحرك فمه أخيرًا.
“راكييل دي إيدلغارد.”
لا…..لا يمكن.
“سيد إيدلغارد.”
“يا إلهي.”
“وأنا…..قلتُ لكِ.”
“مستحيل.”
“أنكِ ستصبحين تلك الأميرة.”
قال ذلك مرةً أخرى، ببطء ووضوح، كمن يعيد الكلام لطفلٍ لم يسمع المرة الأولى.
كان هدوؤه أشد صدمةً من الكلمات نفسها. وبعد أن كشف اسمه…..لم تعد تسمع ما يقوله أصلًا.
“وليّ العهد…..توفي منذ فترة، أليس كذلك؟”
“نعم.”
“وفي ذلك اليوم….دوق إيدلغارد السابق…..كان معه أيضًا….أليس كذلك؟”
“صحيح.”
“وهو….خال وليّ العهد.”
“نعم، ذاكرتكِ جيدة.”
قال ذلك بنبرةٍ ساخرة خفيفة، كما لو يربّت على رأس طفل ذكي.
لكن أبيغيل لم تكن تستمع للسخرية…..بل كانت تركّب قطع الحقيقة داخل رأسها، واحدةً تلو الأخرى.
“وأخو الملكة..…”
“صحيح.”
“وأنتَ….ابنه ووريثه المعروف..…”
“لا أظنني بتلك الشهرة.”
“وابن أخ الملكة..…”
“اقتربتِ. شجّعي نفسكِ.”
ابتسم ابتسامةً لا تشبه التشجيع أصلًا، وفي تلك اللحظة بالذات، اكتملت القطعة الأخيرة في رأسها.
“إذًا…..أنتَ ابن خال الأميرة فيوليتا؟”
“أخيرًا.”
“مستحيل.”
“ولِمَ؟”
“كيف يمكن….أن تموت ابنة عمتكَ….وأنت..…؟”
تذكّرت نظرة الرجل الجامدة الخالية من المشاعر وهو يحدّق في جثة الأميرة.
ذلك الغضب المتّقد في اللحظة الأولى، الذي هدأ سريعًا وبشكلٍ مُخيف حتى صار بردًا صافيًا من العقل.
وإن لم تكن عيناها قد خدعتاها، فإن ذلك الغضب حتى…..لم يكن لأجل الأميرة الميتة وحدها. فخرج زفيرٌ باردٌ من بين شفتيها.
‘وكأن الأمر فشل.’
“طوال ثمانية عشر عامًا منذ ولادة تلك الطفلة، لم أرها مرة واحدة.”
كانت الأميرة قد حُبست منذ سن الخامسة.
نظرت إليه أبيغيل باستغراب، فأكمل الرجل مباشرة،
“خلال السنوات الخمس التي سبقت حبسها…..لم أكن هنا أصلًا.”
كانت تحدّق به بذهول، غير قادرةٍ على فهم كيف يُرفق الكلام بتفسير تعابير وجهه، وعندما تابع حديثه بملامح تميل قليلًا إلى المرارة، سرعان ما تجمد وجهه مجددًا ما إن التقت نظراتهما.
كان تغيّرًا طفيفًا جدًا، لكن أبيغيل شعرت بالدهشة والضيق من الطريقة التي يعيد بها ضبط نفسه فورًا أمامها.
فماذا إن بدا مريرًا قليلًا؟ ألا يحق له ذلك؟
“وأول مرةٍ أراها فيها…كانت جثةً هامدة ملقاةً أمامي.”
“….…”
“بماذا يُفترض أن أشعر إذاً؟ تجاه موت الأميرة؟”
سألها بصدق، كما لو كان لا يعرف فعلًا.
و مرت بها لحظة شرود، وحين همّت بالكلام، قاطعها وتابع،
“لم تربطني بها صلةٌ يومًا. موت الأميرة بالنسبة لي لا يختلف كثيرًا عن موت قاتليها. لا أكثر ولا أقل. فقط..…”
“هل احتجتم إلى الأميرة فجأة؟”
“نعم.”
أجابها بلا تردد، رافعًا أحد طرفي فمه بابتسامةٍ مسطّحة.
كان وجهه جميلًا…..بالقدر ذاته الذي كان فيه مزعجًا ومقززًا. حتى جعلتها تلك الانحناءة في شفتيه تشعر بالغثيان.
‘يا صاحبة السمو…..لقد احتاجوكِ. احتاجوكِ للمرة الأولى.’
“…..إذًا للمرة الأولى احتجتم لها، لكن ما احتجتموه كان ميتًا…..لهذا غضبتَ.”
فتح فمه قليلًا كأنه سيقول شيئًا، ثم أغلقه بلا كلمة.
رفعت أبيغيل جفونها المرتجفة بصعوبة. و كان في صدرها شيءٌ يفيض، وكأن الكلمات خرجت قبل أن تدركها، وحين أدركت…..كانت الدموع قد سبقتها.
منذ أن التقت فيوليتا، لم تمر لحظةٌ لم ترثِ لحالها فيها، ومع ذلك…..الآن، كانت تبكي أكثر مما بكت لحظة موتها نفسه.
إلا أن الرجل، ما إن رأى دموعها، تقلّصت ملامحه كما لو أنه رأى أبغض شيءٍ في العالم. حتى هي استفزها ذلك.
“يرجى إخفاء تلك الدموع المقرفة. أكره بكاء النساء.”
‘أوه؟ تكره أن تبكي المرأة؟’
في تلك اللحظة، اشتعل شيء في رأس أبيغيل. وتذكّرت فورًا أيام عملها في نقابة تنفيذ المهمات، حين لعبت دور قريبة أحد الموتى في جنازة مقابل أجر.
ليس المال وحده ما بقي عالقًا في ذاكرتها…..بل مشهد أشقائها يلتهمون طعام العزاء بسعادةٍ لا توصف.
تقييم رضا العميل؟ خمس نجومٍ من خمس. حسنًا، مثل ذلك اليوم تمامًا!
سحبت الهواء بعمق. فالنفس العميق…..شرطٌ أساسي قبل الانتحاب المتقن.
يا صاحبة السمو…..أعطيني القوة!
“أأأهُووو..…”
“تبًا.”
تتمتم الرجل بانزعاجٍ خافت. فاشتعل الحماس في صدرها.
“أأأهُووووووووووووووو!”
“تباً! اخرسي!”
لم تتوقع أن يمسك بسيفه فقط لأنها ناحت قليلًا، لكن ما إن لامست يده المقبض حتى تجمّدت، مسترجعةً الكابوس السابق، وابتلعت صوتها فورًا.
يبدو أنه يكره بكاء النساء…..كراهيةً مَرَضية.
وبعد طول شدٍ وجذب، خيّم صمتٌ غريب داخل العربة.
كان يحدّق إليها بوجهٍ أكثر إرهاقًا من ذي قبل. و أمام نظراته الحادّة، تقلّصت أبيغيل مجددًا وعادت إلى انحنائها المطيع…..تتضاءل، أكثر، إلى حدّ أنها قد تختفي دون أن يستغرب أحد.
“أراكِ خبيرةً في إنهاك الناس.”
“شكرًا لكَ.”
لأن نبرته بدت شبيهةً بالمديح، خرج الرد منها غريزيًا. فزفر هو زفرةً قصيرة كأنه فقد القدرة على الاستيعاب.
“…..بالمناسبة، إلى أين نحن ذاهبون؟”
نظر إليها بصمتٍ طويل، وكأنه يقول: هل تسألين الآن؟ فخفضت رأسها بحرج.
“إلى قصر إيدلغارد.”
“ولمَ تأخذني معكَ؟”
“بدون نصٍ لا توجد مسرحية. وبدون تدريبٍ لا يوجد أداء.”
“مسرحية؟”
“المسرحية التي…..ستكونين فيها الأميرة.”
تجمدت أبيغيل للحظاتٍ من الصدمة. أما هو فألقى بلا اكتراث،
“لا تقولي لي أنهم وضعوا جاريةً غبية لأن الأميرة كانت غبية.”
حينها فقط تذكّرت كلماته السابقة…..تلك الجملة العبثية.
“يجب أن تكوني أنتِ تلك الأميرة.”
وهنا، ببطء…..سألت،
“لكن…..لماذا أنا؟”
“الآن، نحتاج إلى الأميرة.”
“لكن سمو الأميرة قد توفيت بالفعل.”
“إن أصبحتِ أنتِ الأميرة، فسيكون الأمر كما لو أنها ما زالت حية.”
“هذا احتيال! أنا لا أنتمي للعائلة الملكية أصلًا!”
“لا أحد يعلم.”
“….…”
“والحقيقة التي لا يعلمها أحد، إذا غُيّرت…..تصبح هي الحقيقة. من يعرف وجه الأميرة أصلًا؟”
“يستحيل ألا يعرف أحد..…”
مهلًا. في هذا القصر الملكي، من يعرف وجه صاحبة السمو فيوليتا…..بعد أن كبرت؟
راحت أبيغيل تنبش في ذاكرتها بيأس. المربية التي ربّت الأميرة، والوصيفتان المقربتان…..لم يبقَ أيٌّ منهن على قيد الحياة.
وبسبب وضعها كأميرة محبوسة، لم يُسمح لأي أحد بدخول جناحها سوى وصيفاتها والخادمات الضروريات لإدارة القصر.
وحتى الشخص الذي أوصل أبيغيل إلى هنا، ذلك المسؤول الوحيد من إدارة شؤون العائلة الملكية…..لم تطأ قدمه داخل الجناح قط.
أما الخادمات اللواتي كنّ يأتين قبل الفجر لتنظيف القصر، فكنّ صُمًّا بُكمًا لا يقرأن ولا يكتبن، وقد أُمرن صراحة بألا يقتربن من غرفة الأميرة، فلم يُسمح لهنّ سوى بالاهتمام بالأروقة الخارجية.
في الأصل، لم تكن فيوليتا تتحرك نهارًا إلا بين غرفتها وحديقتها الصغيرة الملحقة بها، وهذان المكانان لم يمسسهما أحدٌ طوال سنوات…..سوى أبيغيل وحدها.
وإن اضطرّت للخروج لحظة، أغلقت الباب خلفها بيدها.
ثم إنها هي نفسها لم تكن تغادر القصر إطلاقًا…..فقد كانت هي الأخرى محبوسة.
في النهاية، الأشخاص الوحيدون الذين يعرفون وجه الأميرة بعد أن كبرت، هم: أبيغيل، و هذا الرجل الذي ظهر بعد موتها، وبعض أتباعه.
حتى القتلة الذين جاؤوا لاغتيالها كانوا يجهلون ملامحها، ولم يملكوا سوى معلوماتٍ عن لون شعرها.
هذه نتائج ثمانية عشر عامًا من العزلة التامة.
“أنتِ، أنا، وظلّي. حتى الملك نفسه لا يعلم. لم يحمل ابنته سوى مرةً واحدة عندما كانت رضيعةً لا شعر لها، وبعدها مُنعت عنه الزيارة بحجة المرض سنوات، وحين شُفيت، ظهر اضطرابها العقلي، وفورًا تم حبسها.”
“….…”
“ربما الملكة فقط قد تعرف.”
“…..صحيح! الملكة!”
“الملكة أيضًا…..تحتاج إلى الأميرة.”
صمتت أبيغيل عند تلك الجملة.
تحتاجها…..إلى حدّ قبول ابنةٍ مزيفة. أصابها شعور مرير، ولسعت الدموع زاوية عينيها ثانيةً.
______________________
وش ذاه طلع فيها شوي كوميديا ماتوقعت😭
البطل مره بارد او ان علاقته بأبوه مب مره لان ذاه شكل واحد تو ابوه فاطس؟ مدري
بس شكل عشان ولي العهد فطس الحين يحتاجون الاميره
طيب والامبراطوره كل ذي السنوات ماجت تشوف بنتها؟ حتى لو مريضه خير وش ذا الحبسه
حتى عمرها العقلي 5 يعني تبي حنان اهلها😔
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 2"