“……يمكن القول أن هذه الحادثة هي الأهم في تاريخ سلالة فيللوفير. هل تتذكرين ما الذي كان يحدث في غرانتونيا في تلك الفترة؟”
“حرب مولغا وإقطاعية زينوبيا؟”
“ممتاز. ثم……”
“آه، حادثة اغتيال الإمبراطورة تيروسا أيضًا.”
“في الأسبوع الأول لم تكوني قادرةً حتى على استعادة تركيزكٍ مثل فرخ مريض، فكيف تتذكرين كل هذا؟ سموك حقًا مذهلة! سرعة فهمكِ رائعة، أما ذاكرتكِ فكنتُ أظنها مناسبةً للحفظ اللحظي فقط، ولم أتوقع منها شيئًا على المدى الطويل. لكن أن تتذكري الأحداث بهذه الدقة حتى الآن…..حتى أنا المعلّم أشعر بالدهشة.”
لا، الأمر ليس كذلك تمامًا. في الحقيقة، كان الحظ فقط قد ابتسم لها عندما وقع السؤال ضمن القليل مما تتذكره بدل الكثير مما نسيته.
ومع ذلك، رفعت أبيغيل كتفيها بتباهٍ وضحكت بوقاحة أمام مديح كايل المحرج المتدفّق.
لم يكن عبثًا أنها اشتهرت في نقابة المهام كأفضل من يؤدي الامتحانات الأكاديمية بالنيابة. حتى هذا النخبة يعترف بها.
هل مرّت ثلاثة أسابيع الآن؟ العيش طوال اليوم بين أشخاص وقحين جعل وقاحتها تزداد تلقائيًا.
“حسنًا. أكمل المديح.”
“طبعًا، فذلك يعود إلى أنني أنا المعلّم..…”
“لا، لماذا ينتقل الحديث من مدحي إلى مدح نفسكَ؟”
“كما تعلمين يا صاحبة السمو، أنا تاريخٌ يمشي على قدمين. فقد كان تخصصي الأول في الأكاديمية هو التاريخ.”
“وما علاقة تخصصكَ بجهدي القاتل في الدراسة؟ أنا من كاد شعر رأسي يتساقط من كثرة المذاكرة، فلماذا تنسب الفضل لنفسكَ؟”
“أنا من سبّبت لكِ ذلك التساقط أساسًا!”
“كيف تجرؤ على المسّ بشعر الأميرة! هل تظنني سهلة! أقول هل تظنني سهلة!”
“للأسف…..هذا صحيحٌ إلى حدٍّ ما!”
“ماذا قلتَ!”
وبينما كان لودريك يراقبهما من عند الباب بنظرة شفقة، كان كايل وأبيغيل يتجادلان بلا ذرة من الوقار حول أمور لا قيمة لها إطلاقًا.
ورغم أن هذا قد يبدو دليلًا على تقارب علاقتهما، إلا أن الحقيقة أنهما كانا يتصرفان هكذا بحماقة منذ البداية.
هز لودريك رأسه وهو ينظر إلى شقيقه. الذي بدا وكأن لقاءه بالأميرة قد أعاد له حنينًا لأيام الأكاديمية، فعاد معه مستوى طفوليٌ من السلوك.
لكن جدالهما السخيف انتهى فجأة بظهور راكييل.
“متى سمحتُ لك بتقسيم أوقات عملكَ كي تمضي الوقت في اللهو مع الأميرة؟”
وبكلمةٍ باردة واحدة طرد راكييل كايل من مقعده وجلس مكانه فورًا.
كان الرجل كما هو دائمًا أنيقًا، لكن شيئًا ما في أجوائه كان حادًا ومتوتّرًا. فحاولت أبيغيل أن تقرأ تعابيره من طرف عينها، لكن الصمت الخانق دفعها في النهاية لسؤاله أولًا.
“ما الأمر؟ جئتَ فجأةً هكذا.”
رغم حدّة النظرة الموجهة نحوها، إلا أنها كانت تعلم جيدًا أنها ليست الهدف. فهذا الرجل لا يطلق مثل هذه النظرات إلا إذا كان السبب…….
“وصل مرسوم الملك.”
“……عفوًا؟”
“الملك يريد رؤيتكِ أسرع مما كان مخططًا.”
في جملتين فقط، تجمّد الهواء داخل الغرفة.
***
“اسحب المرسوم.”
“يبدو أن قدَم خادم إيدلغارد أسرع من خادم البلاط. كيف يتزامن وصول الرسول مع دخول الملكة إلى مكتبي؟”
لم ينظر رودفيك إلى فاساكاليا أمامه، بل صبّ حديثه البارد على كبير الخدم الواقف بجانبه.
“أبلغ ماركوس أن يقطع كاحل ذلك الرسول.”
“حاضر.”
لقد مضى أكثر من عشرين عامًا و الملكة تعيش قرب جنون الملك. وقد توقفت منذ أن انتُزعت منها ابنتها الصغيرة ذات الخمس سنوات عن محاولة ثنيه عن حماقاته واحدةً تلو الأخرى.
أما هذا الرسول المسكين الذي سيصبح مجرد رقم جديد في سجل جنون الملك، فلم تستطع فاساكاليا إلا أن تشعر نحوه بالأسف في داخلها. فلم تكن قادرةً على فعل أي شيء لإنقاذ إنسان بائس وبريء مثله.
فالملك شخصٌ إن فتحت فمكَ بشأنه، سيأمر بقطع رقبتكَ بدل كاحلك.
“وهل هناك مشكلةٌ في مرسومي؟”
“عشرة أيام مدة قصيرة جدًا. دعها تبقى في إيدلغارد قليلًا.”
“ولماذا يجب أن تبقى الأميرة خارج القصر الملكي أصلًا؟”
ضغطت فاساكاليا على أسنانه بلا وعي.
‘كيف يتفوّه بذلك؟’
“لقد شهدت حادثةً كبيرة داخل القصر.”
“وهل سنُبقينها خارج القصر إلى الأبد لهذا السبب؟”
“لا أحد يقول ذلك. فقط….الوقت الآن غير مناسب.”
“وما الذي يخطط له ابن أخ الملكة يا ترى؟ لماذا يحبس الأميرة في كنفه ولا يسمح لها بالخروج؟”
“إن دوق إيدلغارد يريد فقط حماية الوريثة الوحيدة لإيدلغارد.”
“هذا الدوق الذي لم يتجاوز العشرين بدأ يقلق على وريثه الآن؟”
“إن ابن أخي لم يمضِ شهران على وفاة أبيه. وأعتقد أن جلالتك تتفهم ذلك.”
بابتسامةٍ ساخرة على فمه ردّ رودفيك على الكلمات المؤدبة التي وُجّهت نحوه.
ثم نهض من وضعه المتكئ على الطاولة وتقدّم ببطء نحو فاساكاليا. وكلما اقترب أكثر، بدأت ملامحها الجميلة الهادئة تتشقق كخزف مكسور.
ضحك رودفيك بخفوت وكأنه يرى شيئًا يثير السخرية.
“أجل، أنا أفهم. لو بقيت إيدلغارد ولو للحظة واحدة بلا وريث، فسيكون الضرر على المملكة فادحًا. من الجيد أن ابن أخيكِ يدرك مكانته بوصفه سيد العائلة.”
“لذلك…….”
توقفت فاساكاليا عن الكلام حين لاحظت المسافة المرعبة التي صارت تفصل بينهما.
لكن رودفيك لم يأبه بها وتقدم خطوةً إضافية، مائلاً برأسه قرب أذنها.
“ولذلك يجب أن تعود الأميرة إلى القصر الملكي في أسرع وقت.”
حاولت فاساكاليا أن تتراجع بلا وعي، لكن رودفيك كان أسرع منها. و انتزع ذراعها وسحبها نحوه بقسوة لا رحمة فيها.
“القصر الملكي هو أكثر الأماكن أمانًا لابنة الملك. وهذا ينطبق كذلك على ابنتكِ بصفتها وريثة لقب إيدلغارد. ما لم تكوني تزعمين أن القصر الذي عشتِ فيه قبل زواجكِ أكثر أمنًا من قصر الملك، فعليكِ ألا تتخذي من سلامة الأميرة ذريعةً بعد الآن.”
يا للسخرية. كيف يمكن القول أن القصر المليء بالسيوف هو الأكثر أمنًا؟
لكن حين يتحدث الملك رودفيك بهذه الطريقة، لا يبقى أمامها سوى الانصياع ظاهرًا.
رمقته فاساكاليا بنظرة هادئة مقموعة، فأرخى رودفيك قبضته عنها ببطء.
“انقلي ذلك أيضًا لابن أخيكِ. لقد سئمتُ الرسائل التي يرسلها.”
“كلام جلالتك في مكانه. سأطيع.”
“جيد.”
كان ملمس يده وهو يلامس عنقها بلطفٍ أشبه بلمسة باردة تشي بالتهديد.
لكن فاساكاليا ابتسمت بدورها. ففي يومٍ ما…..في يومٍ ما ستطعن سيفها في عنق هذا المجنون.
***
ولم تمضِ ساعةٌ على تلقيها ذلك الإخطار الصادم—بقي عشرة أيام فقط قبل مغادرة الأميرة—حتى اندفعت أغنيس إلى القصر.
وكانت تجر خلفها أشياء كثيرة.
“لم أكن أعلم أن الوقت سيكون ضيقًا هكذا.”
“أغنيس، ومن السيدة خلفكِ؟”
“إنها السيدة سايمور، زوجة البارون سايمور، وهي المسؤولة عن أزياء سموكِ.”
وبدون أي مقدمات—لعجلة الوقت—قدّمت أغنيس التعريف السريع.
ثم حيّت السيدة سايمور تحية مختصرة تكاد تُعدّ شكليةً رغم أناقتها الباذخة.
وعلى الفور، أخرجت من الغرفة كل الرجال: كايل، ثم حتى الحارس لودريك. ثم جرّدت أبيغيل من فستانها وأبقتها بملابسها الداخلية الخفيفة فقط.
و قاطعتْها امرأتان جاءتا مع السيدة سايمور، تحملان شريط القياس، وبدأن بأخذ مقاساتٍ جسدها بدقة. و كانت السيدة سايمور تدون كل شيء بعناية في دفتر صغير.
بينما احمرّ وجه أبيغيل من الخجل. فمهما كانت النساء من حولها، الوقوف هكذا شبه عارية أمام أشخاص تراهم لأول مرة كان محرجًا بلا شك.
“طول سموكِ مئة وسبعون سنتيمترًا، وهذا أطول من معظم بنات الأسر الرفيعة. والأسلوب الرومانسي الدارج في فيللوفير منذ بضع سنوات—الكتف المكشوف بشدة، والأكمام المنتفخة بشكل مبالغ فيه، وزينة الشعر الضخمة—رائجٌ في العاصمة، لكنه يبدو مضحكًا على الطويلات والقصيرات. ولن يليق بسموّك أبدًا. ثم إن سموك يجب أن تختلف تمامًا عن الأسلوب الذي اشتهرت به الأميرة الثالثة.”
بعد أن ارتدت الأميرة الثالثة ذلك الأسلوب في إحدى الحفلات قبل سنوات، ظلّ يلقى رواجًا كبيرًا حتى اليوم.
ومع ذلك، كان كثيرون يسخرون من أناقتها المبالغ فيها، ولا يشبه في أصلها فخامة أسلوب فيللوفير الحقيقي الذي ظهرت به الأميرة الثالثة أول مرة.
لكن موضة غرانتونيا صارت تبالغ يومًا بعد يوم؛ تتضخم الأكمام أكثر فأكثر، وتزداد زينة الشعر ضخامة.
كانت أبيغيل نفسها قد سخرت مرة من شكله المضحك، فحتى لو قالوا أنه يناسبها، لرفضت بشدة.
وكما قالت السيدة سايمور، لو ارتدت بخصلات شعرها الطويلة زينةً ضخمة وأكمامًا منتفخة، فلن يكون هناك ما هو أكثر سخريةً من ذلك.
“الفستان الرقيق من الموسلين الذي كنتِ ترتدينه قبل قليل يليق بكِ فعلًا ولا يخضع لتقلبات الموضة، لكنه لا يناسب مقام الأميرة. خصوصًا أنكِ أريته قبل قليل لرجالٍ غرباء. عليكِ أن تظهريه لزوجكِ المستقبلي فقط. فهمتِ يا سموك؟”
كان فستان الموسلين—كما تتذكره أبيغيل—من الفساتين الفاخرة التي ترتديها أحيانًا زوجات أو بنات الرأسماليين الأثرياء.
ولأنها من أسرةٍ نبيلة متواضعة على أطراف البلاد، ولأن من تعاملت معهم خلال عملها لم يكونوا من طبقة النبلاء العُليا، فقد ظنّت دائمًا أنه مجرد فستان حسن لا أكثر.
لم ترتده إلا لأنه بدا الأقل تكلّفةً بين الفساتين المعلّقة في الغرفة، لكنها الآن تسمع أنه في نظر هؤلاء فستان لا يجوز أن يراه سوى الزوج.
شعرت بخنقة من هذا التعقيد الطبقي، لكنها أومأت مطيعةً لوجه السيدة سايمور الذي كان يذكّرها بعض الشيء بأمها.
“سموك أكثر امتلاءً مما تبدين من بعيد. الصدر بحجم مناسب وجميل. لكن الخصر يجب أن ينقص بمقدار إنش واحد ليصبح مثالياً. أما خط الكتفين والعظام فهي ناعمةٌ ومتناسقة، وسيبدو عليكِ اللباس رائعًا. وطولكِ بالنسبة لبُنيتكِ مناسب، وهذا حسن لحسن الحظ……”
رفعت أبيغيل رأسها بصعوبة بعدما أوشك أن يسقط من الخجل. و وقفت بملابسها الداخلية وحدها وسط النساء وهنّ يقيّمن تفاصيل جسدها—وحتى امتلاء بطنها الذي حاولت إخفاءه.
كان وجهها يزداد احمرارًا مع كل كلمة. فلم يُسبق لأحد أن قيّم جسدها هكذا في حياتها.
ومهما حاولن الحفاظ على اللباقة، كان الشعور بالمهانة لا يُقاوَم.
“أيمكنني ارتداء الملابس الآن؟”
“ليس بعد.”
قطعت أغنيس كلامها بصرامة، ثم أومأت لإحدى النساء. فجاءت المرأة تجرّ رُزَمًا من الأقمشة الفاخرة، ربما عشرات القطع.
‘كم هي جميلة.’
انشغلت أبيغيل بذلك البهاء، بينما راحت السيدة سايمور وأغنيس تقربان الأقمشة من بشرتها، اللون تلو الآخر، تفكّران وتناقشان طويلاً.
“هذا الأزرق الداكن مناسب.”
“وهذا الأحمر الفاتح ألطف عليكِ من الدرجات الداكنة.”
“أما هذا العاجي، فهو حريرٌ من القارة الشرقية، وتبدو خيوطه الذهبية وكأنها تُشعّ نورًا، إنه الأجمل عليك.”
“لكن هذا اللون لا يناسبكِ إطلاقًا.”
وبعد أن جرّبتا كل تلك الأقمشة، ابتعدتا عنها أخيرًا.
وأثناء أنْ دوّنت أغنيس الألوان المقبولة في دفتر السيدة سايمور، أخرجت عدة دفاتر فاخرة وفتحتها أمام أبيغيل.
فجلست أبيغيل على الكرسي بملابسها الداخلية بلا تفكير، وقد نسيَت خجلها أمام روعة تلك الرسوم.
“يا إلهي…..هل هذه الرسومات كلها من صنعكِ؟”
“نعم. رغم أنني أخجل من قول ذلك، فإنني أدرس ليس فقط موضة فيللوفير، بل أيضًا اتجاهات إيرنشيا وجينيتي والبلدان الثمانية. وهذه تصاميم فساتين ابتكرتها بنفسي. هل تعجبكِ؟”
“بل أكثر من أن تعجبني! هه….بالنسبة لشكلي، أشعر أن هذا التصميم….وهذا أيضًا….سيبدوان مناسبين، أليس كذلك؟”
“ذوقكِ ممتاز. وهذا بالفعل أول ما خطر لي بمجرد أن رأيتكِ. ولحسن الحظ، أحضرت هذا الفستان معي. هل تودين تجربته الآن؟”
رمقت السيدة سايمور أبيغيل بنظرةٍ محبة وهي تومئ للخادمات.
وأُحضِر فستانٌ من الساتان الفاخر بلون أخضر فاتح، بتصميم مهيب ورقيق في آن واحد، بأكمام قصيرة ضيقة وخط كتفٍ منخفض بجرأة، وبطانة داخلية من عدة طبقات من التنانير المنتفخة التي منحت الشكل امتلاءً جميلًا دون مبالغة.
ارتداء الكورسيه كان خانقًا—فلم تكن ترتديه مع فستان الموسلين—لكن أبيغيل سرعان ما نسيت ضيق التنفس.
وبينما كانت تنظر إلى انعكاسها في المرآة الطويلة بعد أن ارتدت كل شيء، شعرت وكأن الزمن توقف.
لم تصدّق للحظة أنها ترتدي فستانًا بهذا الجمال. فلم ترتدِ شيئًا بهذه الفخامة منذ كانت طفلةً صغيرة.
وشعرها المضفور على عجل في الصباح بدَا فجأة وكأنه تسريحة أميرة من القصص، فاهتز قلبها بفرح طفولي لا يوصف.
_____________________
وين راكييل يشوفهاااااااا استدعاء عاجل للبطل
هوشة ابيغيل وكايل بداية الفصل تجنن كرروها بالله😭
بس الحين بتروح القصر بدري يعني ماعاد فيه ذي الهوشات؟😔 طيب وراكييل مب شايفتهل يوم؟😔
والملك الزفت وجع فيه طلع كريه توقعت بس بارد ومايهتم طلع اخس
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"