هكذا مرّ وقتٌ غير قصير.
الوثائق التي أحضرها راكييل كانت بلا شكّ أثخن بضعفٍ من الكتاب الذي أمسكه بيديها الآن. و كانت الكتابة أدقّ بكثير، والمسافات بين السطور مزدحمةً للغاية.
‘هل من الممكن أنه قلب الصفحات من دون أن يقرأها؟’
حدّقت أبيغيل بريبة في الأوراق التي بدا وكأنه فرغ من مراجعتها.
وبالنظر إلى العلامات الموضوعة عليها، فهذا لا يبدو صحيحاً، لكن حين تُخفض رأسها نحو الكتاب بين يديها، لا تجد أنها قرأت سوى نصفه بالكاد.
و لم تستوعب أبيغيل كيف يمكن لهذا أن يكون منطقياً.
“إنها الحادية عشرة.”
“…….”
“قلتِ أنك ستقرئين بسرعة وتنامين بسرعة. وما زلتِ هنا.”
“هل أنتَ متأكدٌ أنكَ قرأتَ كل ذلك بالفعل؟”
“هذه وثائقٌ لا تحتاج إلى تذوّق كل حرفٍ وحرف.”
فجأة غمرتها موجة غضب.
كان هذا القتال خاسراً منذ البداية—ليس لأنها جاهلة، بل لأن ما بين يديه تقارير رسمية، وما بين يديها كتابٌ يحتاج إلى قراءةٍ فعلية.
بل إن ما تقرؤه الآن صعبٌ إلى حدّ أنها بالكاد تفهمه حتى لو مضغت الكلمات واحدةً واحدة.
كان هذا الكتاب صعباً بحق. ومع ذلك، لم تستطع تجاهل صوت ضميرها: ذلك الرجل قرأ رزمة أوراق تعادل ضعف ما بيدي، وبينما أنهى كل ذلك، لم أنهِ أنا سوى نصف ما يقرأه.
ثم أمال راكييل ظهره أكثر على المقعد، وبدا عليه الضيق ففكّ ربطة عنقه. و خيّم ظلّ من شعره على ملامحه التي اتسمت بخمول لم يكن موجوداً في النهار.
“تبدو متعباً.”
“أنا متعب. بسببكِ.”
“مادام بإمكاني أن أتعبكَ فهذا أمرٌ يدعو للسرور.”
ضحك راكييل بخفة على عبارتها التي رفعت من شأن نفسها بلا تكلّف.
“لكن……هل يجب فعلاً أن أنهي هذا قبل النوم؟”
“نعم.”
“لكنّكَ تبدو مرهقاً جداً.”
قالت ذلك بنبرةٍ مصطنعة اللطف، تخفي بين أقواس غير مرئية: أنا حقاً أرغب في أن أريكَ أنني أنهيت هذا قبل النوم، لكن بماأنكَ متعب، كيف يمكنني أن أكلّفكَ عناء الانتظار؟ لا تقلق، اذهب أنت للنوم، وسأتدبّر أمري وحدي.
ورغم أن ربع تلك الكلمات كان صادقاً، ضحك راكييل ساخرًا.
“أنا معتادٌ على النوم ثلاث أو أربع ساعات في اليوم. ما زال أمامنا وقتٌ طويل.”
“وهل هذا ما يفعله البشر؟”
“بل ما لا تريدين أنتِ فعله.”
“فقط اذهب لتنام قليلاً. سأُنهي هذا وحدي، حسنًا؟”
“وحدكِ؟ أنتِ؟”
نظرة الاحتقار تلك مسّت شيئاً داخلها. فعضّت أبيغيل على أسنانها بشدّة.
وبالإصرار والعناد والصبر، شرعت في قراءة الكتاب بجنون، من دون أن ترفع رأسها ولو مرة.
كان جزءٌ من تركيزها المبالغ فيه بسبب نظراته المتعالية، لكن الحقيقة أنها باتت تريد النوم أكثر من أي شيءٍ آخر.
ثم أخيراً! وحين بلغت الصفحة الأخيرة أغلقت الغلاف السميك بصفعةٍ مفعمة بالبهجة والنصر، ورفعت رأسها. و كان راكييل ما يزال أمامها، فحرّك رأسه قليلاً والتقت عيناه بعينيها.
عيناه اللتان كانتا غارقتين في تفكيرٍ أسود بلا قرار، عادتا إلى الواقع بغمضةٍ واحدة. أربكها ذلك البرود المفاجئ، لكنها رفعت الكتاب بابتسامةٍ واسعة مصطنعة.
كان الليل قد عمّق حضوره، والساعة تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل بقليل.
كانت خمس ساعات من النوم خطّها الأحمر الأبدي—مهما كان يومها مزدحماً، لم تكن تقبل بأقلّ من خمس ساعات.
حتى لو خرج ذلك الرجل من الغرفة خلال خمس ثوانٍ وقفزت هي فوراً إلى السرير، فلن تبلغ الخمس تماماً……لكنها ما زالت قريبةً بما يكفي.
“أيها الدوق، الآن يمكنني أن أنام، أليس كذلك؟”
“ما الحدث الذي أشعل موجة المضاربة في دوقية بيكردون؟”
“…….”
“لا جواب. أعيدي القراءة.”
“…….”
انطفأت أبيغيل تماماً أمام السؤال غير المتوقع. فخفضت رأسها بجمود، وفتحت الكتاب من جديد بلا حيلة.
وهكذا حتى الثالثة والنصف.
ولأنها قرأته مرة من قبل، فقد أنهته هذه المرة بسرعة. وما إن أغلقته ورفعته فوق الطاولة حتى نظرت إلى راكييل بلهفة.
“اسألني بسرعة.”
“ما الحدث الذي أشعل موجة المضاربة في دوقية بيكردون؟”
سألها السؤال نفسه من دون أن يغيّره—لن يعلم أحد إلى أي حدّ كانت تطحن أسنانها وهي تقرأ تلك الفقرة تحديداً.
“التوليب الأزرق! ظهرَت طفرة التوليب الأزرق، فاندفع الجميع لزراعة الأنواع النادرة، وحدثت الكارثة.”
“والنتيجة؟”
“الانهيار الكبير. اندفع الجميع—من النبلاء إلى العامة—فانهارت الدوقية إلى النصف، ثم ابتلعتها في النهاية فيلوبير.”
“أول بنكٍ في التاريخ؟”
“الصيارفة في رودين القديمة!”
“وما الأساس الذي يجعلنا نعدّ صيارفة العصور القديمة أول بنك؟”
“…….”
“توقفتِ؟ أعيدي القراءة.”
‘لا يمكن……لا يمكن أن يحدث هذا لي.’
“هذا لم يكن موجوداً في الكتاب!”
“ألم يذكر الكتاب ما الذي كان يفعله صيارفة العصور القديمة؟”
“بلى، ذكر ذلك.”
“إذاً عليكِ أن تستنتجي بنفسكِ. ما الذي يختلف وما الذي يشبه الحاضر، وهل يمكن حقاً عدّ دورهم بنكيّاً مقارنةً بما لدينا الآن.”
“…….”
“لا تبقي جامدةً تفعلين ما يُمليه الكتاب عليكِ فقط. استخدمي عقلكِ. أعيدي القراءة.”
حدّقت أبيغيل بذهول في الكتاب الممدود على الطاولة.
يا إلهي……أنا على وشك الموت من النعاس.
***
“أختي، هل جئتِ بشيءٍ لذيذ؟”
“أبيغيل، أنا جائعة!”
“أختي! أنا أيضاً!”
“ميلي، قولي أختي الكبيرة!”
“إن لم تطعميني فلستِ أختي الكبيرة!”
للحظة، كادت أبيغيل—من غير وعي—أن تضرب مؤخرة رأس ميلييينا، لكنها بالكاد تماسكت وأجبرت نفسها على الابتسام.
لا يجوز حلّ الأمور بالعنف. نعم……اصبري.
حاولت إبعاد يديعا الأطفال الصغار الذين كانوا يشدّون أطراف فستانها من كل اتجاه، لكن حتى هذا لم ينجح. يا للضجر……و كادت تنفجر.
ورغم ذلك، كان جسدها قد أصبح أثقل من الجبال. كم تمنت لو يرحمونها قليلاً……لقد عملت ستَّ عشرةَ ساعة كاملة.
“ألم تتناولوا العشاء؟”
“أكلنا!”
“لكنه كان سيئاً!”
“نريد شيئاً لذيذاً!”
لم يعرفوا أن ذلك الطعام السيئ هو شيء لا تحظى به أبيغيل أصلاً لغيابها عنه.
أثارت ثرثراتهم غضبها من جديد، لكنها ما إن رأت منظرهم البائس حتى خمد كل غضبها. و ضاق صدرها ألماً.
ماذا كانت تفعل هي في عمرهم؟
كانت ترتدي فساتين جميلة، تجلس بهدوءٍ في غرفتها لتلقّي الدروس على يد معلّمة خاصة، وتتعلم البيانو والكمان، وتلعب في الحدائق المزدهرة ممسكةً بيد والديها.
ربّياها كزهرة تُحاط بالعناية. بينما إخوتها هؤلاء……لم يعرفوا حتى وجه أبيهم جيداً، ولم يذوقوا حبّ الوالدين كما ينبغي.
و تعلموا القراءة بصعوبة، وارتدوا ثياباً رثّة، وقضوا أيامهم محبوسين في نُزُل خلفي لا يستطيعون الخروج للّعب كما يفعل الأطفال.
عائلة نبيلة؟ نعم. لكنّ الشخص الوحيد الذي عاش فعلاً كنبيلة هو هي.
ذلك الثقل من الذنب والشفقة، ومسؤولية الأخت الكبرى، والأسف لأنها لم تختر لهم حياةً أكثر راحة حين أُتيحت لها الفرصة.
كانت تعلم أنها ليست مجبرةً على الشعور بالذنب. حتى أختها الصغيرة، التي كبرت عقلاً، عاتبَتها قائلة أن الزواج ليس شيئاً يستحق التضحية.
لكنها مع ذلك ما زالت ترى أن قرارها حينها كان صائباً. غير أنها……تأسف رغم كل شيء.
مربيتها كانت تقول أن هذا الشعور غير طبيعي، و أنها تبالغ. والآن، و وسط تلك الأفكار العالقة التي لا جواب لها، شعرت أبيغيل بأن أنفاسها تختنق.
كانت تكره إخوتها في لحظاتٍ ألطف هذه، لكنها أيضاً، في اللحظة التي يطبق فيها صدرها هكذا، لا تعرف ماذا عليها أن تفعل.
كلمة “الوقوف في مكاني” من الرفاهية. فلو استطاعت أن تقف في مكانها لكان ذلك نعمةً كبيرة. ولو يمكنها فقط أن تبقى فوق سطح الأرض لكانت شاكرة.
أما هي……فمثل من يسقط في الماء، يضرب بقدميه ليتنفس، وكلما اجتهد أكثر……غرق أكثر.
يوماً بعد يوم، كأن أوزاناً ثقيلة مربوطة بكاحليها، وكلما حرّكت أطرافها أكثر غاصت أعمق في ذلك القاع الذي لا نهاية له.
كان الأمس أشدّ من الذي قبله، واليوم أكثر بؤساً من الأمس، والغد سيكون أشدّ منهما.
وفي الحقيقة……كانت تعرف أنها مهما قاومت، ستغرق في النهاية. بينما ازدادت الأيادي الصغيرة التي كانت تشدّ أطراف فستانها قسوةً على نحو غير طبيعي.
كانت تُدفَع أكثر فأكثر نحو الأسفل. وفي هذه الحال……لا بدّ أنها ستصل إلى القاع يوماً ما. لكن……لأجل من؟ من أجلكم……؟
ماذا لو متُّ الآن……؟
انقطعت الأفكار فجأة، واحدةً تلو الأخرى. ثم أحسّت بشيءٍ غريب ومخيف يتسلل إليها.
ثم دار القاع من حولها كأن الأرض نفسها تدور.
ما هذا……؟
“أبيغيل، أنا جائعة.”
ارتجف جسدها من نبرة الطفولة التي دوّت بجانب أذنها، ومن شدّة السحب من الخلف.
لم يكن الشدّ هذه المرة من أسفل الفستان، بل من الشريط المربوط عند خصرها.
انحلّ الشريط بسهولة مريبة وانسدل خفيفاً……خفيفاً على نحوٍ مرعب.
استدارت ببطء. و الأطفال الذين كانوا معلّقين بها……أخذت صورهم تتلاشى شيئاً فشيئاً. ثم……
“أبيغيل……أبيغيل…….”
كانت فيوليتا، مضرّجةً بالدماء، واقفةً هناك وهي تبتسم ببراءة.
تقطّ، تقطّ، تقطّ-
كان صوت شيءٍ يتساقط منها على الأرض بإيقاعٍ غير منتظم. فانحنى رأس أبيغيل للأسفل وكأنه ثقلٌ تحطم.
كانت الأرض أسفل قدميها حمراء قانية. كلّها دم. وعندما رفعت رأسها مرةً أخرى، لم تكن فيوليتا تبتسم.
“سموكِ……”
“أبيغيل……هل……سأموت؟”
“آ….آه…….”
“……وحدي؟”
كلمتان فقط، باهتتان، كانتا كافيتين لتخنق نفسها وتنهمر دموعها دفعةً واحدة.
تلك النظرة الطاهر كانت تخنقها، تشدّ حلقها حتى لا تستطيع التنفس. لو أن من كان يمسك بثوبها الآن……مجرد أطفالها كما قبل……
توقّف تفكيرها لوهلة، وأخذت نفساً حاداً مذعوراً.
و تذكّرت-
“أبيغيل……أنا أتألم…….”
قبل دخولها القصر وافتراقها عن عائلتها مباشرة، كانت قد توقفت……عن محبة إخوتها الذين أحبّتهم طوال عمرها.
صارت رؤيتهم تثير ضيقها. تعبت منهم. سئمتهم. كرهت وجودهم حولها.
حقاً……كرهتهم بشدّة.
لقد كانت منهكة، وقد تجاوزت حدود طاقتها منذ زمن بعيد.
بعد يوم عمل يبدأ مع الفجر وينتهي مع الليل، كان استقبال تلك الأنانية الطفولية البريئة يثير فيها نفوراً لا تستطيع التحكم فيه.
كان ضيقها شديداً إلى حدّ الاختناق.
تلك الأيدي المعلّقة بثوبها كانت تجعلها تشعر بالغثيان. كل ما أرادته هو أن ترمي كل شيء وتهرب.
لم تعد تحتمل نفسها، لا إخوتها. و كانت تخاف أن يأتي يوم……تهجرهم فيه حقاً. فهربت.
قالت أنها تفعل ذلك لعلاج أمها……لكنها في الحقيقة غرست خازوقاً في قلب أمها نفسها حين قالت إنها ستكرّس حياتها لها، ثم باعت حياتها كاملةً للقصر الإمبراطوري.
بالنتيجة، عولجت الأم، وأكل إخوتها وجباتٍ لذيذة للمرة الأولى في حياتهم……وهي تحررت من ذلك المنزل.
وهكذا……أصبحت أبيغيل مرتاحة.
_______________________
شكلها رقدت وهي تقرا مره ثالثه وذاه الحين حلمها
هو الضدق ما الومها اذا كرهتهم بس يوجع شوي حالهم كله ذاه من ابوها لو انه حي كان ماطاحت المسؤليه كلها عليها
المهم راكييل يا انه مستانس عليها وهو يزعجها يا انه صدق يختبرها ويبي يقعد عندها يضحك وهو يراقبها عشان ماترقد!😭
وهي تقوله شكلك تعبان رح ارقد🥺 عشا تفتك منه
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"