“آه، تلك هي الكتب التي عليكِ أن تقرئي واحدًا منها كل يوم خلال هذين الأسبوعين، كلما كان لديكِ وقت فراغ.”
“هاتان المجلتان وحدهما تتجاوزان الألف صفحة. وليستا رواياتٍ أيضًا. كل حرفٍ فيهما يجب حفظه. كيف يفترض بي قراءة كتابٍ كامل في يومٍ واحد؟”
“إذا بدأتِ فستفعلين.”
كان الرجل متفائلًا بشكلٍ غريب في المواضع غير المناسبة، فحادت حاجبا أبيغيل باستياء.
“كتبٌ عن المنتجات المحليّة؟ لماذا يجب أن أقرأ شيئًا كهذا؟”
“لأنه لا يوجد ما هو أنفع منه في الحفلات. سيكون مفيدًا أيًّا كان الشخص الذي تقابلينه.”
عجزت أبيغيل عن الرد فغيّرت الموضوع.
“حسنًا……هذه الكتب مفيدةٌ طبعًا. روائع الأدب العالمي……وهذا المجلد تحديدًا 853 صفحة بالتمام. يحوي مئةً وثمانية وستين عملًا أدبيًا، وأفترض أن عليّ قراءته كاملًا في وقت فراغ يوم واحد فقط؟ هذا لا يصدَّق.”
خرجت ضحكةٌ جافة من فمها بابتسامةٍ متكلَّفة.
“لكن……صحيح أنه سيكون مفيدًا للتظاهر بالاطّلاع. والأمر نفسه مع الشعر. والكذب—صحيح، يجب أن أعرف من يكذب أمامي. والشعب—نعم، فمزاج العامة مهمٌ للغاية. كيف يموت الناس؟ صحيح. سيموت الجميع ويتحللون يومًا ما، لكن من الجيد أن أعرف كيف يموتون. ويجب أن أعرف أيضًا ما هي الحماقات المتناقضة التي ارتكبتها إرينسيا. أما الحرب والاستراتيجيات فأظنها ستكون ممتعة. والإقناع مهم. والمال؟ لا يحتاج لشرحٍ، وتاريخه أهم. أجل….”
كانت تتمتم وهي تضحك كأنّ مسًّا أصابها، ثم حدّقت فيه بغضب.
“وتريد مني قراءة كل هذا في أسبوعين فقط؟ ماذا تظنني؟!”
“أظنكِ ماذا؟”
“يا سمو الدوق، أنا حقًا فتاةٌ عادية الذكاء. تريدون مني تعلم ثلاث لغات أجنبية، وأربع فروعٍ من التاريخ، وآداب السلوك، بالإضافة إلى البيانو والكمان، والآن……كيف أتوقع من نفسي استيعاب هذا كله في وقتٍ قصير كهذا؟”
“عندما يصل السيف إلى رقبتكِ، ستفعلين.”
حدّقت أبيغيل في راكييل بعينين خاويتين، كأنها تقول: هذا رأيكَ وحدكَ.
“وعند الثامنة مساءً، ستحضرين كتاب اليوم وتصعدين إلى إلديريوم.”
“ولماذا؟”
“لأنك ستنامين في إلديريوم على أي حال.”
“ولماذا؟”
“لأنكِ حين تبقين وحدكِ تنفلتين.”
تجعد وجه أبيغيل بغضب––هل يظنها طفلةً في الحادية عشرة؟ وما علاقة مكان النوم بالفوضى؟
“فقط قل أنكَ متوتر.”
“حسنًا، أنا متوتر. لا أعرف ما الذي قد تفعلينه.”
‘بل ينبغي أن تقلق على سلامتي أنا!’
فكرت أبيغيل بذلك وهي تحدق به بذهول.
“على كل حال، ستصعدين بالكتاب، وتقرئينه، وبعد أن تنتهي أسألكِ بعض الأسئلة.”
حتى الاختبارات اقتحمت جدولها الآن.
“وإذا أخطأتِ أو لم تستطيعي الإجابة، فلن تنامي قبل أن تتقنيه. وحتى لو لم تنامي، استيقاظكِ سيكون دائمًا عند السابعة. بدءًا من الليلة.”
سقطت أبيغيل على الكرسي بوجهٍ بائس. ثم رمى أمامها حفنةً من النوتات الموسيقية.
كانت أفضل من الكتب، لكن مستوى صعوبتها يتطلّب تدريبًا جنونيًا. أما الكمان فكان أسوأ؛ بالكاد تتذكّر مواقع النغمات. ثم بدأت مؤخرة رأسها تشدّ بألم.
“الآداب من التاسعة إلى الحادية عشرة. ومن الحادية عشرة إلى الثانية عشرة سأدرّسكِ اللغة المشتركة. ومن الواحدة إلى الثالثة كايل سيعلّمكِ التاريخ. البيانو والكمان……لا أظن أنكِ تحتاجين معلمًا في الوقت الحالي، فقط درّبي يديكِ. وحتى وقت العشاء تعزفين. وبعد العشاء راجعي ما تعلمتِه أو حضّري لليوم التالي. وعند الثامنة تصعدين إلى إلديريوم بالكتاب.”
“لكن……هل أنتَ من سيعلّمني اللغة المشتركة؟”
“أهناك مشكلة؟”
“لا……ليس كذلك، لكن ألم يكون معلمٌ متخصص في اللغات أفضل؟”
لم ترغب حتى في تخيل مقدار السخرية التي ستتلقاها منه أثناء الدروس.
ولأن راكييل فهم كلامها على أنه تشكيك في كفاءته، رفّ حاجبه و ردّ بغطرسة،
“أنا أفضل من أولئك المتخصصين.”
يا لوقاحته. لابد أنه لم يعرف التواضع يومًا.
لكن……مؤسف أنه على الأغلب يقول الحقيقة.
“……بالطبع، هذا صحيح.”
“ستُقدَّم التحلية بعد قليل، فاستمتعي بها، واعزفي البيانو حتى يأتي كايل. سنبدأ التاريخ من اليوم.”
ثم عاد الأمل قليلًا لوجهها حين رأت راكييل يخلع قفازيه ثم يعاود ارتداءهما.
“إلى أين تذهب؟”
“عملي في فوضى منذ أيام بسببكِ.”
“ولِمَ يكون ذلك بسببي؟”
“إذاً هو بسبب من؟”
“استغللتني كذريعةٍ لتتكاسل، هذا كل شيء!”
استدار راكييل ومضى، كأنه لم يعد يرى أي جدوى من الرد. وبمجرد خروجه، انهارت أبيغيل على الكرسي، تحدّق بوجهَ شاحب في كومة الكتب، ثم بدأت تقلّب النوتات.
أغنية أعرفها……أغنية أعرفها……
“وجدتُه!”
إنه 〈لحظةٌ من الإلهام〉 لمول باخ. كانت تلك المقطوعة التي تحبها والدتها.
وما إن أشرق وجهها للحظة حتى عاد يكسوه الحزن من جديد. فلم تكن مناسبةً لتدفئة يديها أصلًا.
فبدأت أبيغيل تقلّب باقي النوتات بسرعة.
كانت تحتاج الآن إلى مقطوعة عاصفة، سريعة، يمكن عزفها بالكامل بـفورتيسيمو، كأنها تُضرَب ضربًا من أولها لآخرها. وأثناء تقليبها المحموم توقفت يدها فجأة.
“〈عين العاصفة〉 لبولرني….”
هذا بالضبط ما احتاجته. الحركة الأولى؟ لا حاجة. الحركة الثانية؟ لا حاجة. التعبيرات الموسيقية؟ لا حاجة أيضًا. الحركة الثالثة فقط، وبـفورتيسيمو من البداية للنهاية.
فتقدّمت أبيغيل نحو البيانو بخطوات مقاتلة. أخذت نفسًا عميقًا، ثم هوت على البيانو بضربةٍ صاخبة تشبه أداء فنان طليعي في الشارع.
وبسبب الصوت المفاجئ والعنيف تجمّد وجه لودريك الخالي من الانفعالات قليلًا، لكنه عاد لطبيعته بعدما انساب اللحن—بشكلٍ غريب بعض الشيء—بانسيابية مقبولة.
لكن على الرغم من أنها لم تعزف منذ مدة، كانت أصابعها تتحرك جيدًا، مما منحها دفعةً من الثقة. شيئًا فشيئًا، استندت إلى تلك الدفعة لتبدأ تضرب البيانو بالفعل.
كانت يداها تسقطان على المفاتيح وتنهضان منها كأنها في ساحة قتال. وانعكس الارتباك في عيني لودريك، رغم أنه نادرًا ما يُظهر أي مشاعر.
‘هل هي غاضبة من البيانو؟’
لم يكن لودريك قريبًا من عالم الفن طوال حياته، لكنه كان يعرف شيئًا واحدًا: ما تفعله الآن……ليس فنًا بالتأكيد.
أخرج لودريك ساعة الجيب من جيبه وألقى نظرة.
٧:٤٩ مساءً. منذ أن خرج كايل بعد انتهاء درس التاريخ عند الثالثة، وأبيغيل تعزف بجنون دون توقف.
لودريك—ذو الأربعة والعشرين عاماً—لم يشعر يومًا بأن الوقوف لساعاتٍ أمرٌ مرهق، منذ أن نال رتبة الفارس في الثامنة عشرة.
لكن اليوم كان أول مرة. لم يكن مرهقًا من الوقوف……بل من أنه مضطرٌ للبقاء هنا، ومضطرٌ لسماع هذا الصوت الذي لا يستطيع الهرب منه.
كانت تعزف جيدًا، نعم……لكن بدا كأنها تنتقم من البيانو كمن يواجه قاتل والديه. فقد كانت تُفرغ غضبًا ما.
تغيّرت المقطوعات مرارًا، لكنها كلها كانت متشابهةً في شيء واحد: عواصف، أمواج عاتية، موسيقى تهدد بقلب العالم رأسًا على عقب. حتى إنها تخطت وجبة العشاء بالكامل.
نظر لودريك إلى ساعة الجيب ثانية، بطريقةٍ تشبه الطالب الذي ينتظر انتهاء الحصة، يراقب عقارب الساعة كل دقيقة. ولم يسبق له أن فعل ذلك من قبل.
٧:٥٣ مساءً. فرفع رأسه بخيبة أمل، مقتنعًا بأن عشر دقائق قد مرت—لكنها لم تتوقف.
‘الثامنة… الثامنة…’
كررها في ذهنه مرارًا حتى يستطيع قولها بسلاسة فور حلولها. وفي الخلفية استمرت موسيقى عنيفة حزينة تصمّ الأذن.
كان عليها أن تصل إلى إلديريوم قبل الثامنة. والآن ٧:٥٥. هذا هو الوقت المثالي لاقتلاعها من ذلك الكرسي اللعين.
“يا سموك، أوشكت الساعة على الثامنة. يجب أن تتحركي.”
وتوقفت يدا أبيغيل، اللتان كانتا تدوران بجنون، كأن أحدًا سحب القابس.
حدّقت للحظة أمامها ثم نهضت من الكرسي، واتجهت بخطواتٍ سريعة نحو الطاولة. نظرت إلى الكتب الموضوعة فوقها بعينٍ باردة.
“تاريخ المال”……كان من نصيبها.
وبدلًا من نقل الكتب التي فوقه كأي شخص عادي، دفعتها جميعًا بضربةٍ واحدة، فتهاوت الكتب فوق بعضها بصوتٍ مريع.
نظرت إلى ذلك الانهيار بسعادةٍ خفية، وقد شعرت أبيغيل بنظرة لودريك الغريبة عليها، لكنها لم تكترث.
كانت يدها التي تحمل الكتاب ترتجف قليلًا؛ فقد بالغت في إرهاق نفسها فجأة. ومع ذلك شعرت ببعض الارتياح الداخلي بعد يومٍ كامل من ضرب البيانو ضربًا.
وعندما صعدت السلّم ووصلت إلى الطابق الخامس، ودّعها لودريك أمام ذلك الباب الهائل كما يفعل دائمًا.
أما الكتاب الذي اختارته اليوم فكان—مقارنةً بتلك الكتب المخيفة الأخرى—يبدو أكثر متعة، بل كان رقيقًا نسبيًا، وحروفه كبيرة، وتباعد الأسطر واسع، وهوامشه كثيرة. كان ذلك كله مصدر عزاءٍ لها.
واليوم بما أنه اليوم الأول، كان عليها قراءته بأسرع ما يمكن ثم الذهاب للنوم بسرعة.
أما في الأيام التي سيقع اختيارها على كتب “المنتجات المحلية”، فسوف تضطر للسهر بلا نوم. ولأنها لا تعرف ما ينتظرها غدًا، كان عليها النوم ساعةً إضافية على الأقل اليوم.
عندما فتحت باب مكتب الدوق، رأت راكييل جالسًا خلف مكتبه الضخم، يحرّك ريشته بلا توقف.
حدّقت فيه أبيغيل بصمت، ثم عزمت أمرها: ستقرأ هي أيضًا بلا توقف، مثله تمامًا—كالثور في الحقل—حتى تنهي الكتاب وتلقي بنفسها على السرير.
فسارت بخطواتٍ مسموعة حتى وقفت أمام مكتبه.
وما إن لاح طرف قماش فستانها الأبيض من خلف حافة المكتب في نظرته حتى رفع رأسه أخيرًا. و أشارت أبيغيل برأسها نحو خزانة الكتب.
“افتح لي.”
نهض راكييل دون كلمة، وسحب كتاب «صوتٌ إلى نهايتهم» وأدخل يده في المكان المخصص. فانفتحت الخزانة الثقيلة بانسيابية كاملة دون أي صوت احتكاك. ومهما رأتها، لم تتوقف عن إدهاشها.
ثم احتضنت أبيغيل كتابها بشدّة ودخلت إلى غرفة إلديريوم. لكن لم يُسمَع الصوت الذي كان يجب أن تسمعه بعدها مباشرة. فاستدارت. و كان راكييل يعود إلى مكتبه.
“لن تغلق الباب؟”
لم يجب. وقد اعتادت على هذا النوع من التجاهل، فمرّت عليه مرور الكرام.
اتجهت إلى الطاولة، وأسقطت كتابها عليها إسقاطًا، ثم ارتمت في الكرسي المريح، وبقيت للحظة في شرودٍ تام قبل أن تمد يدها نحو الكتاب وتستعد للبدء.
وفي تلك اللحظة—
“……ماذا تفعل الآن؟”
رفعت بصرها من خلف الكتاب فرأت أمامها رزمة وثائق سميكة تُوضع على الطاولة بصوتٍ واضح. و رفعت عينيها أكثر، فرأت راكييل يجلس بلا كلمةٍ مرة أخرى.
“ولماذا تعمل هنا يا سمو الدوق؟”
“هذه في الأصل غرفة نومي.”
“ومن لا يعرف ذلك؟ أقصد……ماذا تفعل هنا تحديدًا؟”
“أراجع تقرير الخزانة للعام الماضي المرفوع من الدوقية.”
“لا، ليس ذلك.”
“وأيضًا……أراقبكِ.”
“…….”
صمتت أبيغيل لحظة، بينما خفَض هو بصره نحو أوراقه.
“ألم تقل لي أن أقرأ؟ ألا تعرف أن الكتب تُقرأ جيدًا في بيئةٍ مريحة؟”
“في كل مرة أترككِ هنا وحدكِ ثم أعود، أجدكِ نائمة. إذا كنتِ مرتاحة، فأنتِ تنامين.”
“يا إلهي……مرّ بالكاد بضعة أيام. لو سمعنا أحد لظنّ أنني أنام كل يوم!”
“ولو كان بوسعكِ النوم كل يوم لكنتِ فعلتِ.”
كادت تنجرف مع منطقهِ الأعوج، لكنها هزّت رأسها بعنف.
“قلتَ أنني لن أنام إلا بعد أن أنهي الكتاب. وأنا أريد أن أنهيه بسرعة لأذهب للنوم. لن أضيّع وقتي، حقًا.”
“حسنًا، فهمت. لا تهتمي بي واقرئي فحسب.”
لم يُجدِ الكلام نفعًا معه. فأمسكت أبيغيل كتابها بملامح ممتعضة وبدأت تقرأ.
___________________________
ياناس يجننون😭 هو نشبه وهي يوم ارتاحت للوضع بدت تقل ادبها✨
ويومها تعزف زين البيانو ما انكسر ضحكت الله يعين اذاني لودريك 😭
ودي تعزف نفس ذا الحركه مره ثانيه وراكييل معها يمكن يفطس ضحك؟🥲
احتاج رخص لهم قبل تنقل للقصر ولا اصلا بيتزوجها عشان انتقامه صوح؟ ههههععععهعهعهعهع
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"