1
سُحبت أبيغيل خارج القصر بلا رحمة، وأُلقي بها في عربةٍ غريبة، ولم تستعد وعيها إلا بعد أن مر بعض الوقت.
أو بالأحرى، أُجبرت على استعادة وعيها.
حدّقت من النافذة بعينين فارغتين لا ترفّان، تصدّقان المشهد بصعوبة. فالقصر الذي كانت فيه قبل دقائق فقط…..كان يشتعل ككذبةٍ حمراء من النار.
ابتعدت العربة كثيرًا، شاعرةً بضآلة حجم القصر من خلفها، لكنه كان محاصرًا باللهب القاني.
كان الليل شديد الظلمة بلا نارٍ واحدة في الجوار، ومع ذلك فقد بدّد لهيب القصر العتمة وأحال الليل إلى نهارٍ أحمر. و توهّج الجدار الرمادي تحت ضوء النيران، فصار بلونٍ مصفّرٍ حارق.
“لا يمكن..…”
لم تُكمل كلمتها حتى التقت عيناها بعيني الرجل، فتجمدت الكلمات على لسانها.
وقد حوّل الرجل نظره من النافذة إليها، يراقبها بصمتٍ ثقيل.
تمتمت أبيغيل بصوتٍ مرتجف،
“أأنتَ…..من أشعل النار في القصر؟”
“كان لا بد من محو الأدلة.”
“والأميرة؟ الأميرة فيوليتا كانت هناك!”
“الأميرة ماتت بالفعل.”
وقع الجواب عليها ببرودٍ قاطع لا يحتمل التأويل، كما لو أن الأمر لا يعني شيئًا.
فقدت أبيغيل القدرة على النطق أو التفكير.
الأميرة التي كانت، كطفلةٍ توقّف الزمن عندها وحدها، لم تدرك حتى لحظة موتها أنها تموت.
حين اقتحم المسلحون القصر ووُضعت السيوف على أعناقهم، كانت تبتسم وتدور بينهم بضحكاتٍ بريئة.
وما أن نجت أبيغيل إلا لأن المهاجمين أنفسهم تجمّدوا أمام ذلك المشهد الغريب، فتأخروا عن قتلها.
هكذا فسّرت الأمر لنفسها. كانت الطفلة تضحك بلا وعيٍ بالخطر، وحين اخترقها السيف أخيرًا بكت بكاءً يمزّق الروح.
وتذكّرت أبيغيل تلك الصرخة الطفولية المذعورة كأن طفلًا صغيرًا يصرخ بكل ما أوتي من رئتين.
وكل شيء الآن، سواءً المشهد خارج النافذة أو صوت البكاء في رأسها….كان أشبه بحلمٍ مفتعل لا يمت للحقيقة بصلة.
“تلك المسكينة….كيف استطعتم..…”
همست أبيغيل بلا وعي، وعيناها معلّقتان بالخارج.
“كيف تُقتل….ثم تُحرق أيضًا؟ كيف..…؟”
ضاق صدر الرجل بتأثرها، فبدل الردّ، رمق النافذة بنفاذ صبر وأنزل الستارة بعنف.
لم تكن أبيغيل تبكي، لكنها كانت تعيش اللحظة كما لو كانت هي على وشك الانهيار، فارتجفت من رد فعله البارد.
ثم سألها الرجل فجأة،
“ما اسمكِ؟”
“أبيغيل.”
“دون اسم عائلة؟”
تقلّص حاجباها بانزعاج. كان سؤاله مباغتًا ومستفزًا.
صحيحٌ أنها الآن تبدو كخادمة أو جارية، حتى هي لم تعد تعرف الفارق.
وصحيحٌ أن وضعها لم يعد يختلف عن عامة الناس. لكن مجرد نبرة السؤال جعلت شيئًا فيها يبدل الإهانة بعداءٍ داخلي فوري.
“بلى. لدي عائلة. ديلوا. أبيغيل ديلوا.”
“وأين يُرمى هذه العائلة النبيلة إذاً؟”
ردت بنبرة حادّة، لكنه لم يرتبك، بل بدا متسائلاً بفضول بارد جعل الاستفزاز أعمق.
لم يكن معها ترف الغضب، فعضّت لسانها وأجابت،
“في أقصى الشمال…..حيث كان مرميًا فعلًا.”
“كان؟ والآن؟”
“لم يعد موجودًا.”
رفع حاجبه قليلًا، كأنه لم يقتنع بالإجابة المختصرة. فتنهّدت أبيغيل وأكملت مُرغمةً،
“كنا عائلة نبيلة صغيرة تملك بضع قرى في الأطراف.
والآن؟ لا أرض، لا مال، ولا شيء. مناطقٌ فقيرة بلا موارد، والضرائب ترتفع بلا رحمة، ولا شيء يُحصّل من الناس هناك. أراد أبي أن يغيّر حالنا، فاستدان واستثمر كل ما يملك، وكل ذلك انهار. و ترك الفوضى خلفه ومات وحده، وانتُزعت الإقطاعية، والديون بقيت. و أمي الآن مريضة طريحة الفراش، وإخوتي الصغار لا يدركون شيئًا، حتى إنهم يرمون الخبز في وجه مربيتهم لأنهم لا يطيقون خشونته…..ومع ذلك، لم ندفع لها أجرًا منذ ثلاث سنوات.”
سردت حياتها بلا تغيّرٍ في الصوت، بلا بكاء، بلا ندم.
ثم أنهت ببرودٍ مرير،
“قصة عادية…..أليس كذلك؟”
حين انتحر والدها، وتخلّت عنها عائلة أمها، وكادت تُباع وهي في الرابعة عشرة لرجلٍ في السبعين…..كانت تظن نفسها أتعس إنسانةٍ في العالم.
حين خرجت للحياة فعلًا، أدركت أن بؤسها لم يكن استثناءً…..بل رقمًا متكررًا.
في إحدى الليالي هربت أمها بها وبأخوتها لتحميها من ذلك الزواج، ومنذ ذلك اليوم ظلّوا يتنقلون بلا مكان.
عملوا بكل شيءٍ ممكن لكسب قوتهم، ما عدا أن يبيعوا أجسادهم.
أربع سنواتٍ مرّت منذ انهيار العائلة. وأمها، التي لم تلمس الماء يومًا في حياتها الراقية…..بعد أربع سنوات من هذه الحياة، انهارت أخيرًا، ولم تعد تقوى حتى على الوقوف.
وهكذا توجهت مباشرةً إلى القصر.
كان الهدف المعلن هو تأمين تكاليف علاج والدتها، لكن في مملكة غرانتونيا لم يكن غريبًا أن تصبح النبيلات وصيفات.
فالنبيلات الشابات كنَّ يقضين أعوامًا في القصر أشبه بفترة إعداد للزواج. وطبيعة عمل الوصيفة لم تكن يومًا مشابهة لأعمال الخادمات.
كانت الوصيفات يستخدمن معارفهن وتعليمهن وذائقتهن الأدبية لخدمة سيداتهن، إما بمعاونتهن ثقافيًا، أو كاتباتٍ خاصّات، بل وحتى في تنسيق الملابس والإكسسوارات واختيار تفاصيل الزينة داخل الغرف بما يليق بمقام المخدومة.
لكن هذا الدور كان مؤقتًا بطبيعته.
إلا أن القصر لم يحتج فقط لمن سيبقى لفترةٍ قصيرة، ولا لمن لا يتقن إلا الأعمال الشاقة، بل احتاج أيضًا إلى من يهبن حياتهن كاملةً له، وهؤلاء هن العاملات بنظام الخدمة الدائمة.
ومن تصبح وصيفةً بنظام الخدمة الدائمة فإنها عمليًا تتخلى عن الزواج نهائيًا.
إنه عقدٌ شبه أبدي، ولذلك كان المقابل المالي عند توقيعه ضخمًا إلى حدٍ لا يُصدّق.
ومع أن بعضهن يدخلنه هربًا من ظرفٍ طارئ، فإن أغلب من يوقِّعن عليه يكنَّ نبيلاتٍ تضررت أسرهن ماليًا وهن في أمسّ الحاجة إلى مبلغٍ عاجلٍ وكبير.
وأبيغيل كانت واحدةً منهن.
بمجرّد توقيعها للعقد دفعت تكاليف علاج والدتها، وسدّدت عُشر ديون والدها المتراكمة، وبفضل راتبها المرتفع، إذا عاشت ثلاثين عامًا إضافية دون أن تموت، فستتمكّن من إنهاء كل تلك الديون.
على أي حال، ولنتحول قليلًا إلى جانب آخر من الحكاية…..كانت أبيغيل لا تزال في الثامنة عشرة فقط.
ورغم أن انهيار عائلتها جعل منها فتاةً خشنة تكافح لأجل البقاء، خاليةً من تلك الرقة التي تمتلكها الفتيات في سنها…..إلا أنها كانت تحمل، عميقًا في الداخل، قليلًا جدًا…..من الحلم.
لقد وهبت حياتها لعائلتها، نعم، لكن ذلك لم يمنع أن تتسلل إليها أوهامٌ صغيرة.
كانت أبيغيل صاحبة وجه جميل إلى حدٍ معقول.
ولم تكن فاتنة بمعايير العاصمة، وهذا ما تدركه هي أكثر من غيرها، لكنها على الأقل نشأت في الأرياف تسمع طوال عمرها أنها جميلة، ولهذا لم يكن طمعها خاليًا من الأساس.
بل إنها تخيّلت حتى إمكانية أن تظفر بأحد الأمراء، وتغيّر مصيرها بقليلٍ من الحنكة الأنثوية.
كانت فتاةً عادية…..تفكر كأي فتاة.
طبعًا مربيتها قالت لها يومًا أن استخدام كلمة خطة مع الأمير يعني أنها فقدت ما تبقى لديها من “براءة الفتاة” نهائيًا، لكن ماذا تفعل؟
لم يكن وجهها بتلك القوة التي تجعله يوقع أحدًا في الحب من النظرة الأولى، إذًا لا سبيل إلا التدرّج.
تدعه يراها مرارًا وتكرارًا حتى يألفها، تُظهر له شيئًا مختلفًا، سحرًا خفيفًا هنا، التفاتةٌ هناك، ثم يقع في المصيدة دون أن يشعر.
لكن الواقع…..كان قاسيًا.
فلم تقع في حضن أمير، ولا حتى في مجال رؤيته من بعيد، لا نقطةً ولا ظلًا ولا أثرًا. بل لم تُمنح حتى فرصةً رؤية البشر أساسًا.
يقال أن النبيل، حتى لو انهار، يبقى له اسمه ثلاث سنوات. لكن عائلة ديلوا لم تملك أصلًا اسمًا يصمد ثلاث سنواتٍ حتى قبل السقوط.
وبفضل ديونها التي سحقت سمعتها، رُميت أبيغيل ـ الابنة الكبرى للأسرة ـ في أبعد زاوية نسيها القصر، جناحٌ مجهول لا اسم له.
وفيه كانت تنتظرها فتاةٌ شاحبة بنظرة خاوية، قيل لها أن هذه هي الأميرة التي ستخدمها.
لم يكن هناك زوّار، ولا وصيفاتٌ أخريات، ولا صوت…..سوى صمت ثقيل يكاد يُفقد العقل.
تأتي خادمتان مع الفجر بصمت، تتركان الطعام، تنظفان المكان، وتختفيان دون أثر.
لكن مشكلة أبيغيل الحقيقية لم تكن الأميرة التي تبدو فاقدةً للوعي، ولا المكان الخالي، ولا الوحدة القاسية، ولا حتى الملل أو عبء العمل…..
المشكلة الحقيقية كانت أنها موقّعةٌ بعقد خدمة دائمة. أي…..للأبد.
بعد أيام من الذهول وإنكار الواقع، توقفت عن المقاومة، وتعلمت…..أن تتقبّل حياتها الجديدة.
______________________
واه وهي تسرد حياتها ماوقفت جا تحت بعض كثير😂
امها مره تجنن طقت بها ولا باعتها 😔 ام صدق اخيراً
واخوانها البزارين الله العالم متى يعقلون
المهم البطل كوده تأثر؟ بعدين صح وش اسمه؟😭
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 1"