2
كنتُ كأنني أسقط في فراغٍ مائيٍّ بلا قاع؛ برودةٌ شفافة تلفّني، وصمتٌ ثقيل يبتلع أنفاسي. هل متُّ حقًا؟ لم أشعر بندمٍ على موتي…… لكن أخي دوريفان…… أنا حقًا……
كنتُ أستحضر تلك اللحظة حين مات أمامي؛ صورة صدره المخترق، عينيه وهما تنطفئان ببطء، وصوت العالم وهو ينكسر. لم أستطع البكاء حتى هنا، وكأن الدموع نفسها تاهت في هذا الفراغ.
فجأةً، بدأت بتلات زهورٍ تنتشر حولي؛ بتلاتٌ زرقاءُ شفافة، جميلةٌ كشرارات ضوءٍ تحت الماء. وبدأت ورودٌ زرقاء تسقط بجانبي بهدوء، واحدةً تلو أخرى، والمياه من حولي راحت تصفو وتتلمّع حتى غدت نقيةً على نحوٍ مؤلمٍ في جماله. لماذا يجب أن يكون موتي جميلًا هكذا؟ كنت أظن أنّني سأذهب إلى الجحيم بسبب ما حدث لي…… وما فعلتُه.
أغلقتُ عينيّ وأنا أشعر بالاختناق؛ صدرٌ يضيق، ونَفَسٌ يتقطّع كمن يطفو ويغوص في آنٍ معًا.
“سموّ الأميرة…… هل أنتِ بخير؟ سموّك؟”
هاه…… أين أنا؟ ألم أمت؟
التفتُّ ببطء إلى جانبي. كانت هناك خادمةٌ ذات شعرٍ أسود وعيونٍ سوداء لامعة، ملامحها مألوفة كظلٍّ قديم عاد من الذاكرة.
“روزلين……”
نطقتُ باسمها همسًا، وكأن الكلمات تخشى أن تتبدّد.
قالت بقلقٍ واضح: “ماذا هناك يا سموّ الأميرة؟ لقد كنتِ تبكين وترتجفين وأنتِ نائمة.”
هل تم إنقاذي من الموت؟ لكنني…… متُّ، أليس كذلك؟
نظرتُ حولي؛ كانت الغرفة غرفتي حين كنتُ أميرةً قبل أن أُتَّهَم بالخيانة. الستائر الثقيلة، رائحة الخشب المصقول، المنضدة الصغيرة، تفاصيل أعرفها كما أعرف راحة يدي.
قفزتُ من على السرير وأنا أترنّح، واتجهتُ نحو المرآة بخطواتٍ متعجلة.
“سموّ الأميرة، توقّفي…… أنتِ متعبةٌ بسبب مرضك.”
صوت روزلين كان قريبًا وحانيًا، لكن قلبي كان يركض أبعد من صوتها. اقتربتُ من الزجاج حتى لامست أناملي سطحه البارد، أبحث في وجهي عن أثرِ موتٍ رحل…… أو حياةٍ عادت.
رأيتُ وجهي في المرآة… كان بالتأكيد أصغر، ملامحي أنعم، وبشرتي ليست شاحبة كما كانت بعد السجن… لا أثر للهزال، ولا للجروح التي تركها التعذيب.
وقفتُ أمام الصورة التي تعكسني وكأنها وجه لشخصٍ نسيته منذ زمنٍ بعيد.
“روزلين… ما هو تاريخ اليوم؟”
انحنت قليلًا ثم قالت:
“اليوم يا سموّ الأميرة هو اليوم 387 من تأسيس مملكة كالدوريا.”
تجمدت أنفاسي.
387…
أي قبل سبع سنواتٍ من موتي.
أي أن عمري الآن ثلاثةٌ وعشرون…
هل هذا يعني… أنني عدت بالزمن؟
شعرت بصدري يضيق، ودموعي بدأت تنهمر دون أن أنتبه، وكأن قلبي أدرك الحقيقة قبل عقلي.
إذا عدتُ حقًا… هل ذلك يعني أن دوريفان لم يمت؟
أو ربما… ما رأيته لم يكن إلا حلمًا؟
“سموّ الأميرة… هل أنتِ بخير؟ أنتِ تبكين…” قالتها روزلين بصوتٍ قلق.
مسحت دموعي بسرعة، وأطلقت ضحكةً مرتجفة:
“آه… روزلين… أنا بخير، بل في أفضل أحوالي الآن.”
التفتُّ إليها، صوتي بالكاد ثابت:
“روزالين… هل تعرفين أين أخي الآن؟”
“تقصدين سموّ الأمير ڤاسكال؟ إنه في مكتبه الآن. هل أخبره بأنكِ ستزورينه؟”
مجرد سماعي لاسمه أصاب جسدي بقشعريرة.
تذكرت تلك العيون الباردة…
عيناه حين كانوا يسحبون جسدي نحو الإعدام…
حين صرختُ أطلب منه فقط أن يسمعني، ولو لمرّة، لكنه لم يفعل.
حتى لو لم يكن هناك مفرّ من موتي…
على الأقل… ألم يكن عليه إظهار القليل من التأثر؟
القليل من الحزن؟
القليل… من الأخوّة؟
تنفست بعمق محاولةً أن أبتلع ارتجاف صوتي، ثم قلت:
“روزلين… أنا أقصد أخي دوريفان.”
رأيت الصدمة ترتسم على ملامح روزلين فورًا، كأن الكلمة نفسها غير متوقعة منها.
عيناها اتسعتا، وشفتاها ارتجفتا قليلًا.
“س…م…و… سموك… هل أنتِ بخير؟ هل عليّ استدعاء الطبيب؟ هل… هل أنتِ مريضة للغاية؟”
رفعتُ يدي لأهدّئها:
“اهدئي يا روزلين، اهدئي… أنا بخير، حقًا.”
“ولكن… سموك…” حاولت الاعتراض، صوتها كان مضطربًا، وكأن ذكر اسم دوريفان أمامي أمرٌ مستحيل أو خطر.
لم ألُمها.
فعلى مدى حياتي الماضية… كنتُ أنا نفسي أخشاه أكثر من أي أحد.
كنتُ أعتقد أنه إن رآني وحدي، سيقتلني من أجل العرش…
وهكذا علّمتني أمي.
وهكذا صدّقت.
ويا لسخرية القدر…
الشخص الذي كنتُ أخاف أن يقتلني…
كان هو نفسه من حاول إنقاذ حياتي.
بل… ومات بسبب خطئي أنا.
بينما كنتُ غارقة في أفكاري، سمعتُ فجأة أصوات حوافر الخيل تتردد في ساحة القصر.
اقتربت من الشرفة بخطوات سريعة، وفتحت الستار.
كانت عشرات الخيول تتجه نحو القصر، راكبوها يرتدون دروعًا رسمية…
الجيش الإمبراطوري.
تجمّدت مكاني.
لا… لا… هذا اليوم…
أتذكّره جيدًا…
اليوم الرابع عشر من شهر مارس… بداية الربيع.
اليوم الذي عاد فيه دوريفان قائد حملة قمع المتمردين في الجنوب.
كنت أعرف الآن…
أمي هي التي دفعته إلى هذه الحملة… لتتخلص منه بعيدًا عن العاصمة.
ففي ذلك الوقت… كان أخي في سن التاسعة عشرة فقط… صغيرًا جدًا على حربٍ بهذا الحجم.
لكنه عاد…
عاد كبطل حرب.
وعودته تلك هي التي جعلت أمي تبدأ خطواتها الأولى لإزالته من الطريق إلى الأبد.
راقبتُ الأحصنة تقترب، لكنني لم أستطع رؤية أي شيء بوضوح…
جناحي في القصر كان بعيدًا عن المدخل، فلا أرى إلا أطراف الساحة، ورايات الإمبراطورية ترفرف، وصوت الدروع يعلو كل لحظة.
قلبي بدأ يخفق بشدة…
لأنني أعلم تمامًا من القادم بينهم.
دوريفان…
حيًّا.
قبل موته بسبع سنوات.
أريد رؤيته…
على الأقل… أريد أن أراه بعيوني مرة أخرى.
لكن لا يمكنني ذلك من هنا…
اندفعت بسرعة بعيدًا عن الشرفة، كأن شيئًا يسحبني نحو الباب.
“سموّ الأميرة! أين تذهبين بهذه الطريقة؟ لا تزالين مريضة… ثم إنك لا ترتدين سوى ملابس نومك، سموّك!”
لكنّي تجاهلت روزلين تمامًا.
كان كل اهتمامي ينصب على شيء واحد…
على شخص واحد…
دوريفان.
خرجت إلى الممر وبدأت أركض.
قدماي بالكاد تحملانني، لكن قلبي كان يركض أسرع.
مررتُ بين الخدم والحرس، والصدمة على وجوههم واضحة؛
كيف يمكنهم رؤية أميرةٍ تركض داخل القصر بملابس نومها؟
مشهدٌ لم يروه من قبل… ولا يتوقعونه.
لكنّي لم أكترث.
لم أرَ أحدًا.
لم أسمع أحدًا.
كل ما كررته داخل رأسي كان اسمه…
دوريفا… دوريفان… دوريفان…
كأنه تعويذة تجرّني نحوه.
وصلتُ إلى القاعة الرئيسية في القصر.
وقفت عند الشرفة الداخلية المطلة على ساحة الاستقبال.
كانت أمي واقفة هناك، وأخي ڤاسكال إلى جانبها، يستعدان للترحيب بعودته — كما تقتضي التقاليد.
لكنني لم أرَهما.
لم ألتفت إليهما.
كل تركيزي كان منصبًا على شخصٍ واحد…
أخي دوريفان.
حيٌّ… حيٌّ أمامي… يقف هناك وسط ضوء الشمس والجنود.
سمعت همس الخدم يتصاعد عندما رأوني:
“سموّ الأميرة…”
التفت الجميع نحوي.
وجوه مصدومة، عيون متسعة، فالأميرة التي لا تظهر في أي مكانٍ يتواجد فيه دوريفان…
ظهرت فجأة أمام الجميع، بملابس نومها، ووجهٍ متورّد من الجري.
رفعت أمي صوتها بغضبٍ حاد:
“أماريل! ما الذي تفعلينه هنا بهذا اللباس؟ هذه وقاحة!”
لكن كلماتها عبرت بجانبي دون أن تلمسني.
ملابسي لم تكن ضيقة ولا كاشفة، وأمي كانت فقط تُضخّم الأمر — كما تفعل دائمًا.
صحيح أن مظهر الأميرة مهم… لكن هل هذا مهم الآن؟
هل يهمّ أي شيء الآن… غير أن دوريفان حي؟
ثم… سمعت صوته.
صوته الحقيقي… وليس صدى من ذاكرتي.
“أماريل؟”
نطق اسمي بدهشةٍ واضحة، وكأن وجودي أمامه غير ممكن.
نظرتُ إليه… وفي لحظة واحدة…
تذكرتُ كيف ناداني حين كنت فوق خشبة الإعدام…
حين كان الدم يلطّخ وجهه وهو يركض لإنقاذي.
اندفعتُ نحو السلالم بسرعة، كأن العالم كله يختفي حولي…
كأن كل شيء ينهار إلا قدميّ اللتين تهويان في طريقٍ واحد —
اندفعتُ بسرعةٍ عبر السلالم، أركض بأقصى ما أستطيع، حتى شعرت أنني قد أسقط في أي لحظة… لكنني لم أهتم.
كل خطوة كانت تُوجّهني نحوه، تدفعني بقوةٍ لا أفهمها، لا أريد فهمها.
وحين رأيته…
حين وقعت عيناي عليه بالفعل…
اندفعت نحوه دون تفكير، دون وعي…
وقمتُ باحتضانه بقوة، كأنني خفتُ أن يختفي لو تركته لحظة واحدة.
وبدأتُ أبكي…
دموعًا مبحوحة الصوت، دموعًا كانت محبوسة منذ سبع سنوات، وخرجت الآن كطوفان.
“أماريل… هل أنتِ بخير؟ أماريل؟”
كان صوت ڤاسكال يأتي من الخلف، فيه قلقٌ واضح… أو ربما صدًى لقلقٍ اضطرّ لتمثيله.
لكنني لم أردّ عليه.
لم أشعر بشيء…
كل العالم اختفى…
ولم يبقَ سوى أخي الذي يقف أمامي الآن… حيًّا.
شعرت بيده تربت على رأسي بلطفٍ لم أعرفه من قبل…
وبدأتُ أبكي أكثر، كأن تربيتته تلك سمحت لقلبي أن ينهار أخيرًا.
“أماريل… هل حدث شيء؟”
كان دوريفان يتكلم بهدوءٍ مدهش… صوته ثابت، دافئ، مألوف.
لا أصدق…
هذا صوته…
صوته حقًا…
أنا لا أحلم…
رفعتُ رأسي لأرى وجهه، لكن الرؤية بدأت تتشوّش، وكل شيء صار ضبابيًا…
“آه… سحقًا… هذا المرض…”
تمتمت وأنا أضع يدي على صدري.
“فقط… دعني قليلًا… أنا… أريد…”
بدأت أفقد توازني، الأرض تهتز تحت قدمي، وعيناي تصارعان للبقاء مفتوحتين.
“أماريل! أماريل، هل تسمعينني؟”
كان صوته قريبًا جدًا… ملهوفًا، قلقًا…
ومع ذلك… كنت أبتسم داخليًا.
حتى في هذه الحياة…
أنت لا تزال تقلق عليّ.
ثم…
غيم كل شيء…
وأظلم العالم أمامي.
أغمي علي.
مرضي…
هو مرضٌ لا يُعرف أصله…
ولا ماهيّته…
ولا علاجه…
مرضي كان غريبًا، غامضًا، يشبه أمراض العُضال… لكنه لم يكن كذلك.
كنتُ لا أستطيع بذل أي مجهود كبير، فكل مرة أحاول فيها أن أتحرك أو أجري — حتى لو كان ركضًا بسيطًا مثلما حدث الآن — كنت أسقط متعبة، يختفي الهواء من صدري، وأُغمى عليّ فورًا.
كنت أفقد الوعي بسهولة…
وأُصاب بالحمّى سريعًا…
وجسدي كان ضعيفًا لدرجة أنني، مقارنةً بأبناء سني، كنت أبدو أصغر منهم بكثير… وكأن الزمن نفسه كان يرفض أن يمنحني حق النمو.
لم يتوقف الأمر عند الضعف الجسدي…
بل كانت تنتابني نوبات من الهلع والرعب بلا سبب، فجأة، كأن شيئًا ينهش روحي من الداخل.
كنت أرتجف بشدة… وتختفي قدرتي على التنفس…
أشعر أن صدري ينكمش، وأن الهواء يهرب مني، وأنني غير قادرة على فعل أي شيء سوى انتظار تلك اللحظة حتى تمرّ.
بسبب هذا المرض اللعين…
كنت مصدرًا لسخرية عددٍ كبير من النبلاء.
وبالتأكيد — كوني أميرة — لم يكن أحدهم يجرؤ على السخرية مني أمام الجميع،
لكنهم كانوا يفعلونها همسًا… نظراتٌ مشمئزة… كلماتٌ خلف ظهري…
وكنتُ أسمعها كلها.
ومشكلتي الأكبر… أنني حينها لم تكن لديّ شخصية قوية تدافع عني.
لم يكن لديّ أحد.
لم يكن أحد يقف بجانبي…
سوى أخي ڤاسكال.
كنتُ أظنّ أنه يهتم لأمري…
كنتُ أظنّه الشخص الوحيد الذي يرى ضعفي ولا يعبأ به…
لكن بعد ما حدث… بعد موتي…
لم أعد متأكدة إن كان ذلك الاهتمام حقيقيًا… أم مجرد واجبٍ ثقيل ارتداه كقناع.
بسبب هذا المرض اللعين…
لم أكن أخرج كثيرًا من غرفتي.
أمي كانت دائمًا ما توصي بألا أغادر غرفتي…
تقول إنه من أجل صحتي… ومن أجل ألا يتعرض لي النبلاء بالسخرية… أو يجرحوا كبريائي.
لكن الحقيقة…
أنني كنت وكأنني في سجنٍ منعزل…
غرفتي كانت عالمي الوحيد…
لا أخرج منه إلا للضرورة القصوى…
وكنت أمرض بسهولة… كأن جسدي وُلد ضعيفًا ليكون عبئًا على نفسه.
فتحت عيني ببطء، وأنا أشعر بأن جسدي كلّه ساخن… وكأن الحمى قررت أن تشتعل داخلي.
“آاااه… يبدو أنّني سقطتُ مجددًا… لا أصدق أنني في موقفٍ كهذا مرة أخرى…”
تنهّدت بضيق.
“هل استيقظتِ؟”
التفتُّ ناحية الصوت، وبجانب السرير…
كان أخي دوريفان يجلس بهدوء، وذراعاه متشابكتان، كأنه يراقبني منذ وقت.
أطلقت صرخة قصيرة:
“آآااااه!! شبح!”
قفزت من مكاني بسرعة، رغم مرضي، وكدت أتعثر من شدة الذعر.
بدأ دوريفان ينظر حوله بارتباك، يتحقق من الغرفة وكأن هناك شيئًا يختبئ فيها.
“أين هو؟ أين؟ لحظة…”
ثم توقفت.
هل أنا… أبحث عن شبح؟
نظر إليّ باستغراب، حاجباه يرتفعان قليلًا:
“مهلًا… هل بكلمة شبح تقصدينني أنا؟”
خفضتُ يدي التي كنت أشير بها نحوه، وحاولت أن أبدو هادئة… وفشلت.
نظر إلي بتركيز وقال:
“أماريل… هل أنتِ بخير فعلًا؟ تصرفاتك غريبة اليوم.”
زفرت بصوت منخفض.
“أنا آسفة… فقط تفاجأت. أنت لا تزورني عادة… لذا الأمر كان مفاجئًا… ومخيفًا قليلًا.”
رفع زاوية فمه بخفة، وقال بنبرة هادئة لكنها ساخرة بعض الشيء:
“ومن هي التي كانت ترتجف وتخاف عندما أقترب؟ وتصبح مثل سنجابٍ مذعور؟”
أدرت رأسي بعيدًا عنه بسرعة.
… نعم، لا يمكنني مجادلته في هذا.
سحب غطاء السرير قليلًا، وقال بنبرة ناعمة غير معتادة منه:
“أماريل… فقط نامي واهدئي. وأيضًا… أريد أن أسألك عن شيء.”
ارتفعت عيناي نحوه في قلق.
“ما هو؟”
جلس مستقيمًا أكثر واقترب قليلًا، صوته أصبح جادًا جدًا:
“هل تتعرضين للتهديد؟ أو محاولة قتل؟ أو… هل يحاول أحد استغلالك؟”
تجمدت للحظة.
“لماذا… هذا السؤال؟”
قال وهو يركز في وجهي، يتفحص ارتجافات عينيّ وكأنّه يقرأني بلا عناء:
“حسنًا… فقط سألت. لم يكن من الطبيعي أن تحتضنيني هكذا. ولم يكن جاريًا أن تركضي نحوي بتلك الطريقة. شعرت… كأنك تحتاجين لي في شيء.”
أخذتُ نفسًا عميقًا، يحاول صدري أن يحتمله رغم التوتر الذي يخنقني.
“الأمر فقط أنّي… عندما لم تكن هنا بدأت أفكّر في… أنّ تصرفي سابقًا كان فظًّا للغاية… وأنه مهما كان… أنت أخي.”
رفع حاجبه قليلًا.
“أهذا هو الأمر فقط؟”
“أجل… أعلم أن تغيّري جاء متأخرًا، ومهما اعتذرت… لن يكون كافيًا.”
نظر إليّ بتركيز ثم اقترب ببطء، حتى أصبح قرب رأسي مباشرة…
ثم، بطرف أصابعه، ضربني ضربة خفيفة على رأسي.
“اهدئي يا أماريل… أنتِ لم تفعلي شيئًا يستحق أن تعتذري بسببه.”
خفضتُ عينيّ.
“أجل، ولكن…”
وتوقفت.
هو لا يعرف.
لا يعرف أنني في المستقبل… تسببتُ في نهايته.
لا يعرف ما فعلته.
قال بهدوء أثقل من أي توتر:
“أنا سألتك عن سبب تغيرك… لأني خمّنت أن السبب شيء خطير أو أحد يهددك. لكن ما دمتِ قد تغيّرتِ… فهذا يكفيني. لا يهمّني كيف أو لماذا… المهم أنكِ تغيّرتِ.”
ابتسم بارتياح طفيف ثم أكمل:
“أنا في الحقيقة لم أكن أكرهك في شخصيتك السابقة… لكن التعامل معك كان صعبًا. كنتِ تخافين مني بشدة… لدرجة تجعلني غير قادر على الاقتراب منك براحة.”
أجبت بصوت خافت:
“أجل… لا بأس.”
“حسنًا… إذن أعذريني الآن.”
نهض من الكرسي، ثم وضع يديه على كتفيّ برفق، ودفعني قليلًا لأستلقي على السرير.
أمسك الغطاء وسحبه عليّ ببطء، وكأنه يعتني بطفلة خائفة.
“الآن… نامي يا أماريل، حتى لا يشتد عليكِ المرض.
وأيضًا… غطّي نفسك جيدًا.”
ثم ابتسم بسخرية خفيفة:
“لكي لا تري الأشباح.”
ربت على رأسي مرة أخرى… لمسة قصيرة لكنها محمّلة بدفء لم أعرفه منه من قبل.
“الآن… إلى اللقاء.”
ثم استدار وغادر الغرفة، تاركًا قلبي يضطرب بطريقة لم أشعر بها منذ أن رأيته يحتضر في حياتي السابقة.
خرج دوريفان من الغرفة… ووضعتُ يدي على رأسي في اللحظة التي أُغلق فيها الباب خلفه.
ورغم أنني أكبر منه سنًا… ورغم أن ما فعله يبدو كتصرفٍ طفولي… إلا أنني شعرت بسعادةٍ غامرة عندما ربت على رأسي.
على الأقل… لأول مرة منذ زمن طويل… شعرت أن وجودي في هذه الحياة ليس بلا معنى.
حياتي السابقة…
كنت أحاول بشدة أن أنال المحبة والاهتمام من الجميع، لكن لم يحدث ذلك أبدًا.
وبسبب غبائي… ابتعدتُ عن الشخص الوحيد الذي كان مستعدًا لأن يعطي روحه من أجلي.
ذلك الذي حاول إنقاذي… ومات لأجلي.
نهضتُ من على السرير وجلست إلى مكتبي، وضعت يدي فوق أوراقي، وحاولت جمع أفكاري.
ليس لديّ وقت للغرق في العواطف الآن.
إن لم أفعل شيئًا… سيواجه أخي المصير نفسه مرة أخرى.
ولكي أتجنب ذلك…
عليّ أن أجعل أخي دوريفان هو وريث العرش الحقيقي.
نظرتُ إلى الصورة الموضوعة على المكتب…
كانت صورة تجمعني بأخي ڤاسكال.
شعرت بوخزة في قلبي، شيء يشبه تأنيب الضمير.
إن جعلتُ دوريفان وريثًا للعرش… ألن يعني ذلك أنني سأعزل أخي الشقيق عن مكانته الأصلية؟
لكن… إن لم أفعل… سينتهي دوريفان إلى النفي مثل المرة السابقة.
وكلا المصيرين قاسٍ… لكن أحدهما يعني حياته… والآخر نهايته.
ورغم أنني متُّ سابقًا، ورغم أن ڤاسكال لم يفعل لي شيئًا… لم أكرهه يومًا.
هو أخي الأصغر… مهما حدث.
ولن أسمح أن يتأذى.
عليّ أن أهدأ…
حتى لو تولّى دوريفان العرش، فهو لن يمسّ ڤاسكال بسوء.
أنا أعرف هذا… أعرفه جيدًا.
أنا فقط… حصلت على فرصة ثانية.
ولن أستغلها لإنقاذ نفسي…
يكفيني فقط… أن يكون دوريفان بخير.
أخذت نفسًا عميقًا، وقلت في داخلي:
أول خطوة لتحقيق هذا الهدف ستكون…
الاسم: دوريفان إلڤاريس دي كالدوريا
العمر: 19 سنة
الطول: حوالي 175 م
الاسم: ڤاسكال إلڤاريس دي كالدوريا
العمر: 16سنة
الطول: حوالي 163 م
Chapters
Comments
- 2 - عناق بعد الرحيل منذ 12 ساعة
- 1 - ذنب لا يغتفر 2025-11-01
التعليقات لهذا الفصل " 2"